الستر على الخطايا لا يعني تهوين أمرها، ولا تشجيع تكرارها، بل هو فتحٌ لباب التوبة، وتطهيرٌ للقلوب من الإصرار على المعصية، وفي الستر أيضاً تضييق لمجال المعصية إذ تصان الأعراض، ولا تشيع الفاحشة بين الناس، ويبقى مجتمع المسلمين مجتمعاً ستيراً.
المتابع لأحوال المسلمين في عصر الفضائيات وسيولة الأخبار والمعرفة عبر شبكة
المعلومات، يرى شيوع ظاهرة مروعة، وهي عدمُ الستر، ونشرُ الفضائح والقبائح، وتلذذُ
الناس بنقل تلك الزلات والعثرات، والطرب لإذاعتها. بل بلغ الأمر أن خُصِّصت برامج
يخرج فيها بعض من اقترفوا الموبقات ليعترفوا على أنفسهم أمام الجماهير بما ارتكبوا
من جرائم وآثام سترها الله عليهم، وما درى هؤلاء جميعاً أن هذه آفة خطيرة تهتك
الحرمات، وتنزع الحياء من النفوس، وأنهم يرتكبون إثماً عظيماً يفسد عليهم دينهم
ودنياهم معاً.
ومن رحمة الله تعالى بعباده في الدنيا أن أسبغ عليهم ستره، ومع أنه تعالى بغَّض
إليهم المعاصي إلا أنه لم يُبحْ أن يفضحَ العاصي نفسه، أو يفضح الإنسان أخاه إذا
عصى؛ بل حبب إليهم الستر على أنفسهم وعلى غيرهم، واتصف الله تعالى بالستر كما في
الحديث:
«إن
الله عز وجل حييٌّ ستير، يحب الحياء والستر»[1]،
ومن لطف الله بعباده الصالحين أنه يستر زلاتهم في الدنيا، ثم يسترها أيضاً في
الآخرة ويغفرها، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
«يدنو
المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف. يقول:
رب أعرف، مرتين. فيقول: سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسناته،
وأما الآخرون أو (الكفار) فينادى على رؤوس الأشهاد: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ
الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ
عَلَى الظَّالِـمِينَ} [هود: 18]»[2].
والستر على الخطايا لا يعني تهوين أمرها، ولا تشجيع تكرارها، بل هو فتحٌ لباب
التوبة، وتطهيرٌ للقلوب من الإصرار على المعصية، وفي الستر أيضاً تضييق لمجال
المعصية إذ تصان الأعراض، ولا تشيع الفاحشة بين الناس، ويبقى مجتمع المسلمين
مجتمعاً ستيراً.
أقسام المذنبين من الستر:
والستر لا يكون في حق كل أحد، فالناس في هذا الشأن نوعان:
النوع الأول: ذوو الهيئات، وغير المعروفين بالفساد والأذى، وهؤلاء أحق الناس
بالستر، طالما كانت معصيتهم ليس فيها ضرر للآخرين، فالستر في حقهم وسيلة للإصلاح
والتوبة.
وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب أو فجور لمؤمن من ذوي الهيئات أو
نحوهم ممن لم يُعرَف بالشر والأذى، ولم يشتهر بالفساد، ولم يكن داعياً إليه، كأن
يفْجُرَ متخوفاً متخفياً غير متهتك ولا مجاهر يُندَب له أن يسترَه، ولا يكشفه
للعامة أو الخاصة، ولا للحاكم أو غير الحاكم[3].
والستر على هؤلاء لا يعني تركَ مناصحتهم، بل يُنصحَون سراً، فإذا نصحه وأنكر عليه
فلم ينتهِ عن المعصية، ثم جاهر بها جازت الشهادة عليه بذلك، يقول النووي مميزاً بين
موضع الستر وموضع الإنكار:
«هذا
كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها فتجب
المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قَدَر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن
عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة»[4].
النوع الثاني: المجاهرون بالفسق والفجور، وهؤلاء إذا كان ضررهم متعدياً للمجتمع
فيكون التشهير بهم مطلوباً؛ حماية للدين، وحفظاً للأعراض والمجتمع. وهنا ينبغي أن
يكون المسلم حكيماً حتى لا يترتب على فعله مفاسد أعظم، قال النووي في هذا النوع من
المذنبين:
«يستحَب
ألَّا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر
على هذا يُطْمِعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله»[5].
فضائل الستر على النفس والآخرين:
الستر من أهم وأرقى وأزكى الأخلاق الإسلامية الأصيلة، ولذا شرع الإسلام أحكاماً
تكفل ستر الزلات وإقالة العثرات؛ فمثلاً: لم تكتفِ الشريعة في إثبات الزنا - مبالغة
في الستر - بأقلَّ من أربعة شهود، يصفون الجريمة وصفاً تنتفي معه الشبهات، وكذلك في
ثبوت الزنا بالإقرار لم تكتفِ بأقلَّ من أربع مرات؛ حرصاً على الستر، كما شرعت حدَّ
القذف، وتوعد الله تعالى الذين يحبُّون إشاعة الفاحشة بالعذاب الأليم إذ قال: {إنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، ونهى عن التجسس على الآخرين بحثاً عن عيويهم وعوراتهم؛
وكل تلك التشريعات حماية للأعراض، وتحقيقاً لفضائل وفوائد الستر، ومن أبرزها:
أولاً: ستر المسلم لغيره سبب في تآلف القلوب، وانتشار حسن الظن بين المؤمنين، فتحفظ
الأمة ترابطها وبنيانها. أما إشاعة عورات الآخرين فسبب لتنافر القلوب، وانتشار
البغضاء، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :
«من
رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موؤودة من قبرها»[6]،
أي: كان ثوابه كثواب من أحيا موؤودة؛ لأن الساتر دفع عن المستور الفضيحة التي هي
كالموت فكأنه أحياه.
ثانياً: ستر العاصي فيه تهيئة له للشعور بالندم والخوف من العقاب، فيدفعه للتوبة،
أما لو فُضِح فسيدفعه ذلك إلى مزيد من الآثام، ولا يبالي بعدها بالمجاهرة أو
المفاخرة بالذنب.
ثالثاً: الســتر يحفـظ كيـان الأخلاق لأن فضح الناس - لا سيما الصالحين إن وقعت
منهم الزلات - قد يجرِّئ كثيراً من عوام الناس ومرضى القلوب على اقتراف المعاصي.
رابعاً: الستر من أرقى الطاعات، وسبب للستر في الدنيا والآخرة، قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم :
«من
ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة»[7].
خامساً: الستر على الصالحين دليل على شرف الطبع، أما فضحهم فدليل على خسة الطبع،
وعدم الإنصاف والرحمة؛ إذ ليس من العدل أن يتغاضى عن حسناته كلها حتى إذا بدرت منه
زلة فضحه، وكشف ستر الله الذي أرخاه على عبده، قال ابن القيم:
«ومن
الناس مَن طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه
قمَّه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا
يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بُغيته وما
يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله»[8].
سادساً: ستر الإنسان غيره هو ستر لنفسه؛ إذ ما من بشر إلا يخطئ، ولو أنه لم يستر
غيره فلن يسترَه غيره إذا زل، فالجزاء من جنس العمل؛ فمن فضح إخوانه المسلمين،
سُلِّط عليه من يهتك ستره، ويفضح أمره، قال الشاعر:
إذا أنت عِبْتَ الناس عابوا وأكثروا
عليك وأبدوا منك ما كان يُستَر
وإن عبتَ قوماً بالذي فيك مثله؛
فكيف يعيب العُورَ من هو أعور؟
سابعاً: ستر المسلم لنفسه سبب للمعافاة، فليس في ديننا صكوك غفران، أو اعتراف لأحد
بالذنوب، بل حثت شريعتنا على ستر الإنسان نفسه، مع عقد العزم على التوبة، فذلك أولى
من المجاهرة، بل أولى من الإقرار بها عند القاضي لإقامة الحد إذا كانت معصية تستوجب
الحد، قال صلى الله عليه وسلم :
«من
أصاب منكم من هذه القاذورة شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نُقِم
عليه كتاب الله عز وجل»[9].
أما المجاهرة بالذنب ففيها سوآت كثيرة؛ إذ إن المجاهر يستذله الناس ويستخفُّون به؛
لأن المعاصي تُذل أهلها، وفي مجاهرته استخفاف بحق الله ورسوله، وضرب من العناد لهما[10].
أضف لذلك ما يتولد في نفس المجاهر من شعور بالرضا بالمعصية، وما يفوته من المعافاة
والستر في الدنيا والآخرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم :
«كل
أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح
وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه،
ويصبح يكشف ستر الله عنه»[11].
نماذج ومواقف في الستر:
ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الصالحة في الستر، ورغَّب فيه
بسُنته وسيرته، فقد كان حريصاً على كتم الزلات، وإذا رأى شيئاً يكرهه من أصحابه
عرَّض فقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أو: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا[12].
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه من يقرُّ بذنب، أعرض عنه حتى يكرر
السؤال، ثم يلقنه الحجة في رفع الحد عنه، لعله يذهب فيتوب ويستر على نفسه، فهذا
ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقر بالزنا فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم :
«لعلك
قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت»،
وردَّه النبي صلى الله عليه وسلم مراراً، حتى أقر في الرابعة فأقام عليه الحد[13].
وفي رواية: أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هزَّالاً الأسلمي هو الذي أشار
عليه بالاعتراف، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:
«لو
سترته بثوبك كان خيراً لك»[14].
وعلى هذا المنهج الراقي تربى الصحابة في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم فستروا
عيوب الناس، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لو لم أجد للسارق والزاني
وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه[15].
وكان شرحبيل بن السمط على جيش فقال لجيشه: إنكم نزلتم أرضاً كثيرة النساء والشراب
(يعني الخمر) فمن أصاب منكم حدّاً فَلْيأتنا، فنطهِّره، فأتاه ناس فبلغ ذلك عمـر بن
الخطاب رضي الله عنـه فكتب إليـه: أنت - لا أُمَّ لك - الذي يأمر الناس أن يهتكوا
ستر الله الذي سترهم به[16].
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جاءتها امرأة، فأخبرتها أن رجلاً قد أخذ
بساقها وهي مُحرِمة (أي: حاول كشف عورتها) فقاطعتها عائشة، وأعرضت بوجهها وقالت:
حِجراً حِجراً حِجراً (أي ستراً ستراً) ثم قالت: يا نساء المؤمنين! إذا أذنبت
إحداكن ذنباً، فلا تخبرن به الناس، وَلْتستغفر الله تعالى، وَلْتتب إليه؛ فإن
العباد يُعيِّرون ولا يغيرون، والله تعالى يغير ولا يُعيِّر[17].
أخيراً: فإن الستر من أبرز معالم المنظومة الأخلاقية في الإسلام، تلك المنظومة التي
شادت بها أمتنا حضارة كانت مضرب المثل، سادت بها الدنيا ردحاً طويلاً من الزمن، فما
أحوج أمتنا في عصر الفضائيات إلى ستر الزلات وإقالة العثرات لترضي ربها وتسترد
مجدها.
[1] أبو داود (4012)، والنسائي (406).
[2] البخاري (4685)، ومسلم (2768).
[3] الموسوعة الفقهية الكويتية: 24/ 169، مطابع دار الصفوة، مصر، ط. الأولى.
[4] شرح النووي على مسلم: 16/ 135، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط. الثانية.
[5] المرجع السابق.
[6] أبو داود (4891)، وأحمد (17447) واللفظ له.
[7] مسلم (2699).
[8] مدارج السالكين لابن القيم: 1/ 406، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الثالثة.
[9] البيهقي (17574)، والحاكم (7615 ) وصححه الذهبي ووافقه.
[10] شرح صحيح البخاري لابن بطال: 9/ 263، مكتبة الرشد، الرياض.
[11] البخاري (6069)، ومسلم (2990).
[12] انظر أمثلة لذلك في: البخاري (456، 750، 6101)، ومسلم (1401، 2356).
[13] البخاري (6824)، ومسلم (1695).
[14] أبو داود (4377)، والنسائي في الكبرى (7236).
[15] مصنف عبد الرزاق (18931).
[16] المرجع السابق (9371).
[17] مكارم الأخلاق للخرائطي (451)، دار الآفاق العربية، القاهرة.