• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
طبائع الفساد والإفساد

قلم التحرير


الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

شاء الله بحكمته ألَّا يخلو عصرٌ أو مكانٌ من مصلحين ومفسدين، وجعل التدافع سُنَّة باقية فيما بينهم بل في داخلهم أحياناً؛ حتى تستمرَّ الحياة، ويجاهدَ المؤمنون المصابرون المرابطون على الثغور لإقامة مطلوب الله فوق الأرض بعد إحيائه في القلوب وإزالة أيِّ عائق أمامه. ومن الطبيعي أن يكون لكلِّ فريق منهم سمات وطبائع تميِّزهم وتدمغ أعمالهم، ومن فضل الله علينا أن أصبح القرآن العزيز شاهداً على الصنفين، ومبيِّناً لكثير من دوافعهم وصفاتهم ومآلاتهم في آيات مُحْكَمة لا يأتيها الباطل أبداً.

وسوف يكون الحديث مقتصراً على أهل الفساد والإفساد من باب البيان والتحذير، ولأن شرورهم في هذه الأزمنة تتزايد مع خفاءٍ ومَكْرٍ حيناً، وباستعلاءٍ وإعلانٍ قبيحٍ أحياناً أخرى، تحت ستار من قوة ظاهرها أكبر من حقيقتها، وحقيقتها لا تتجاوز محض الهشاشة وسهولة التلاشي والزوال لو اجتمع الضعفاء على صدِّها ومنعها مرة واحدة فقط كي يشاهدوا تساقطها السريع المذهل؛ بَيْد أن الخنوع أذلَّ الأعناق وزاد الرَّهَق والبلاء، ومكَّن للشر أن يستطيرَ ويستطيلَ.

فمن طبائع الفساد والإفساد أنه يشمل جميع شؤون الدين والدنيا والآخرة؛ فهو غير مقتصر على تخريب دين الناس في الدنيا والزَّج بهم في جحيم البرزخ ويوم القيامة؛ بل إنه يضيف إلى هذا السوء المتناسل فساداً وإفساداً لمصالح الخلق الدنيوية في النواحي الاقتصادية والبيئية والثقافية والاجتماعية والعسكرية والسياسية والتقنية والإعلامية وفي كلِّ أمر من أمور العامة؛ فَهُم قومٌ يصدق عليهم وصف الـمُنبَتِّ الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، وصدق الله القائل في وصف المفسد: {وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].

ومن طبائعهم الخبيثة المنبثقة عن الكِبْر والكذب ادِّعاء الإصلاح وحصره بهم فقط كما في قول الله تعالى عنهم: {إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١] إذ ينفونه ضمناً عن غيرهم من المؤمنين المصلحين، ولذا نقض الله قولهم مباشرة وحكم عليهم بقوله: {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] فإنه لا فساد أعظم من الكفر، والصَّدِّ عن سبيل الله، وخداع أولياء الله، وموالاة المحاربين لله ورسوله، ثمَّ الزَّعم عقب ذلك بأن هذه الجرائم إصلاح مقتصر عليهم، وأن نقيضها مِن فِعْل المؤمنين فسادٌ وإفسادٌ، وأغرب من زعمهم الآفن هذا وجود من يصدِّقهم من الغَفَلَة وغيرهم.

ثمَّ يتفرع عن إفكهم الآنف استخفافٌ بالآخرين وإزراءٌ بعقولهم، مثلما صنع فرعون بقومه وهو أحد أبرز رموز الفساد والإفساد، ويتجلَّى ذلك في قوله الذي حكاه القرآن: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، ففرعون يقول متكبراً مغرِّراً بقومه السفهاء: إن موسى خطر عليهم ويطلب الإذن بقتله مع أنه مستبد لا يرفع بشعبه رأساً ولا ما هو دون الرأس! وهذا مَلْمحٌ لافتٌ حين ينصح شرار الخلق الناس ويصرفونهم عن اتباع خيار الخلق بهذه الخفَّة التي لا يطيعها وينساق خلفها إلَّا الفسقة {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].

وقد وجد فرعون مِن بعض الغششة المنتفعين أو الخائفين آذاناً صاغية ذات ألْسنة خبيثة وعقول إجرامية، فقالوا له كما نقل القرآن الكريم عنهم: {وَقَالَ الْـمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]، فاستقبلوا من كبير المفسدين تجاوباً سريعاً على طريقته في العنجهية واللجوء إلى القوة والقتل والتضييق على النساء، ومحاولة تقليل أعداد الصالحين وقهرهم وتسخيرهم بالأعمال المنهِكة حتى لا يلتفتوا إلى غيرها من إصلاح ومقاومة، إضافة إلى تفريقهم على أحزاب وشيع واختراق وحدتهم وبلبلة اجتماعهم كما قال الله تعالى واصفاً طغيان فرعون في مستهل سورة القصص: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ} [القصص: ٤]، وإن القسوة والعتُوَّ والجبروت وتفريق الناس لَـمِن ركائز الفساد في الأرض.

كذلك من طبائعهم أنهم لا يفوِّتون أيَّ فرصة في سبيل الفساد والإفساد، ويجتهدون في ذلك لدرجة القعود في كلِّ طريق من الطرق؛ يحذِّرون النَّاس من سلوك سبل الخير والفلاح، ويصرفون من أراد الاهتداء عنها؛ فغايتهم اعوجاج الأحوال، وانتقاص الكمال، وغياب الاعتدال، والميلان مع الأهواء، ثمَّ تتشابه عاقبتهم مع مصير أسلافهم بالشَّتات والخسران، ولهم في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة هم أشد خزياً وفضيحة كما قال سبحانه: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86].

كما حكم الله - جلَّت قدرته - على سعيهم بالتَّباب، وعلى أعمالهم بالسَّفال، فقال مخبراً عن نتيجة نهائية حتمية: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْـمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، وعلة فسادهم ظاهرة بمحاولتهم نصر الباطل على الحق، فجاء القضاء بخلاف تخطيطهم، وهكذا سيكون مصير كلِّ مفسد محتال ماكر ذي كيد، فإن عمله سيَبْطُل ويضمحل، وإن نالت مساعيه شيئاً من الانتشار والنجاح في وقت ما، فإن مآلها إلى المحق والزهوق، وستصبح العاقبة للمصلحين وأعمالهم التي تصمد وتلقَف جميع ما صنعه المفسدون، فإن عصا موسى - عليه السلام - تسببت في انهيار مشروع المفسد فرعون وزواله إلى الأبد، ومثلها جهود أهل الإيمان والحقِّ حتى لو كانت أقلَّ من حجم الباطل حسبما يبدو للناظرين.

ويظهر أن الجحود سمة أساسية في طبائع الفساد والإفساد؛ فهم أنكر الخلق للحقائق، وأكثرهم تكذيباً للصدق وأهله، وأعلى الناس صوتاً مجاهراً بالإفك والزيغ والشبهات والشهوات، وهم - لحمقهم وقلة توفيقهم - يقعون في هذه الضلالة الشخصية والمتعدية مع يقينهم التام ببطلان ما هم عليه، ودون شكٍّ بأن الحقَّ الصريح يقف مع مناوئيهم في الصف ذاته؛ بَيْد أن الغطرسة والأمراض النفسية حالت بينهم وبين الخضوع للصواب والانقياد لمرضاة الرب سبحانه الذي وصف حالهم بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].

لأجل هذا فهم دوماً في شقاق وخلاف مع أوامر الله ونواهيه، حتى قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]، وإن الظلوم لنفسه، الجهول بحقيقة نفسـه، لَـمَن يعاند خالقه ومولاه، فينقُضُ العهدَ بعد توثيقه وتوكيده، ويقطع ما أمر الله به أن يوصَل، ويفسد في الأرض ما وسعه الجهد، ويا له من عناء وطريق ذي وعثاء خاتمته الخسارة الدنيوية أو الأخروية أو كلاهما.

وخلاصة الأمر أن الفساد والإفساد مناهجُ قديمة تتكرر، وخططٌ سابقةٌ يُعاد بعثها، وهي مترافقة مع الإفقار والتفريق والتخريب، وقلَّما يأتي على أثرها منافع دائمة خالية من المنغصات والآثام والعثرات، والقائمون عليها شجعان في المخازي، جبناء في المصاعب، كرماء عند الرذائل، أشحة مع الفضائل. وإن شواهد التاريخ ومعاينات العصر الحاضر لتؤكد على هذه الخلاصة والنتيجة؛ فمتى يعتبرُ الناسُ كي لا يستكينوا أمام الفساد، ولا يأملوا من مدارس الإفساد خيراً أيّاً كان، ويسعوا في مناقضته ومقاومته بالإصلاح الذي يأتي على رأسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء واجب البلاغ والنصيحة؟

أما إذا عمَّ الفساد حتى ساد فيجب ألَّا نقابله بخنوع أو نكوص؛ ذلك أن أقدار الله تُواجَه بأقداره أيضاً، ومِن القَدَر العملُ والاجتهادُ حتى ترتفع الغُمة وينطرد البلاء، فقد أخبرنا المولى القدير سبحانه في محكم تنزيله بقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، فجميع صور الفساد والإفساد ترجع لما كسبته أيدي الناس، وتبعاتها نوع من العقوبة والتكفير والابتلاء، وفي مقدور الناس وبأيديهم أن يرجعوا إلى جادة الرشد والهدى، وينفضوا عن واقعهم الفساد وزمرته.

إن الفساد لَبِناءٌ ضعيفٌ آيلٌ إلى التداعي والضمور، وإنما يستند إلى فساد مثلِه، ويتقوى بباطل وإثم، ويحتمي بمكر وكيد، وليس بعسير على أهل الصدق والإصلاح أن يقفوا في وجهه، ويوقفوا تقدمه ومسيره الذي يعيث بدينهم ويعبث بدنياهم؛ كي يحوْلوا دون إهلاكه الحرث والنسل، ودون تحريف الدين، وتفريغ العقول، وإشاعة الرذيلة، وسحق التنمية، ونهب الثروات، والإزراء بالحضارة والإرث الثقافي والتاريخي الكبير المجيد، ومَن بدأ طريق المقاومة فسوف ينتصر ولو بعد عقد أو قرن.

وما أحوجنا إلى دراسة ظاهرة الفساد والإفساد عبر الواقع أو من سجل التاريخ والمرويات، مع الاهتداء بما جاء في الوحيين الشريفين للوصف والكشف والدلالة على سبل الرشاد والمدافعة؛ فإن المفسد لا يكفُّ عن غيِّه بالقول، ولا ينزجر عن نزقه بالكلمة فقط، فلا مناص من مشروعات متآزرة متكاملة تَزَع المفسدين، وتنزع الباطل، وتزرع الخيرات، حتى لا تظلَّ الأمة سادرة في صحراء التيه، تلك الصحراء التي لم يمكث فيها قوم موسى أكثر من أربعين سنة، وبعض المفسدين يسعى لحصرنا فيها حتى تقوم الساعة!

أعلى