الأيد والأبصار!

ينصر الحقَّ قوتان: قوة علمٍ وقوة استعلاء، فمهما وُجِد الحق مخذولاً منبوذاً فقد فقَدَ إحدى القوتين أو كليهما


ينصر الحقَّ قوتان: قوة علمٍ وقوة استعلاء، فمهما وُجِد الحق مخذولاً منبوذاً فقد فقَدَ إحدى القوتين أو كليهما. تأويل ذلك من تجارب الأنبياء قول لوط - عليه السلام -: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] إذن لنُصرَت الدعوة والداعي ولبلغ الحق مبلغه! وقد عاش زمانه بينهم يؤيده وحيُ الله (وهو قوة العلم) لكنْ مصروفاً عنه قوة الغلبة والاستعلاء والنفوذ.

يقول ابن خلدون في المقدمة تحت عنوان «فصلٌ في أن الدعوة الدينية من غير عصبيةٍ لا تتم»: «وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيَّدون من الله بالكون كله لو شاء؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة، والله حكيم عليم»[1]. يقصد الأنبياء من بعد لوط عليهم الصلاة السلام.

فإن قيل: فأي القوتين اليوم أذهبُ وأزهق؟ وأيهما أنفع لدعوة الحق؟ وما مظهر اجتماعهما؟ وما مَثَلُه من تجارب الأمم الإسلامية بعد النبوة؟ وماذا لو تخلفتا معاً؟ فالجواب:

الاجتهاد المقبول عند الله وارثُ النبوة المعصومة، لولا ذلك لما كان للأمة في أيِّ جديدٍ من التصرفات أو القضايا، أو بديعٍ من لوازم التحضر والانتقال، قضاء تقضي به، أو دِين تتدينه؛ ولكانت أكثر أفعال المكلَّفين عُطلاً من الأحكام، وعليه فالأئمة المجتهدون وحدهم من تُرجَى لديهم قوة العلم التي أيد الله بها أنبياءه وآزرَ بها دعوتهم، فإن اجتمع إلى ذلك قوة استعلاء فقد تلاقى الشرطان على ميعاد!

بيان ذلك أمثال تكشف كيف استأثر المجتهدون من أصحاب القوتين في الأحقـاب المختلفة - دون سواهم - بامتياز نصر دعوة الحق وتأييد أهله وتبليغه إلى غير أهله وتحقيق الإصلاحات الكبرى في تاريخ المسلمين، ثم النظرُ في الحال المعايَن كافٍ للتفريق بين ما نحن فيه وما نطمح إليه في هذا الباب:

نَقْلُ القيروان عن مذهب العبيديين[2] إلى مذهب مالك بن أنس:

أشار ابن عذاري إلى أن العبيديين تلقَّوا أشد ضربة لهم خارج مصر على يد المعز بن باديس، الذي خلع اعتقاد آبائه وأجداده من الشيعة الصنهاجيين، وقطع علاقة القيروان بالمستنصر الفاطمي، وحمل المغاربة على مذهب مالك بن أنس، وكان وراء هذا التحول وزيرٌ ورِع متسنن أديب هو أبو الحسن علي بن أبي الرجال الشيباني، يكفي لمعرفة مكانته من العلم والأدب ما كتبه ابن رشيق حين أهدى إليه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده»؛ إذ يقول:

«ولم أَسِم كتابي هذا باسم السيد - زاده الله تعالى سموّاً - لأكون كجالب التمْر إلى هجر ومهدي الوشْي إلى عدن. ولكن تزيناً باسمه الشريف، وذكره الطيب، واستسلاماً بين يدي علمه الطائل وأدبه الكامل»[3]، وقد تربى المعز الذي حكم في سنٍّ مبكرة في حجر أبي الحسن على الترضي عن الشيخين وعن سائر الصحابة، وعلى تعظيم التسنن، ونبذ البدع والضلالات على عكس مراد بيت الإمارة وأنصار الرفض، حتى ألقى الحكم إليه مقاليده فتولى قطع الدعوة العبيديَّة الشيعية من إفريقيَّة سياسةً وثقافةً فانحسرت دعوة الباطنية عن مهدها! وكذلك أعز الله دعوة الحق بحُسْن نظر الوزير الفذ أبي الحسَن - رحمه الله - وحُسْن انتخابه وتعليمه وتأديبه، وبما جمع إلى ذلك من الوزارة، وهما القوتان المقصودتان[4].

إنشاء المدارس النظامية:

مظهر ثانٍ لاجتماع القوتين لنصر دعوة الحق، فحواه أن انتقال الخلافة العباسية من تسلط الشيعة البويهين إلى أكناف السُّنة السلاجقة منتصفَ القرن الخامس الهجري قد أغرى نظامَ الـمُلك الوزيرَ السلجوقي الأشهر بإحياء مذاهب السنة ونقض ما سواها مما جرَّه الحُكم البُويهي والفاطمي على الأمة، فبدأ بالمدرسة النظامية في بغداد ثم تتابعت العواصم والمدن من بَعْدُ، ثم ورث التجربة السلطان المجاهد نور الدين محمود فنمَّاها وأوقف عليها الأوقاف وأنفق على العلماء والطلاب فأثمرت له ما أراد غارسها الأول من دفعات صالحة لشغل المناصب الإدارية ودعم الجيوش وتنقيح الإرث الثقافي، ثم ورثها صلاح الدين والأيوبيون حتى ليذكر د. عبد الرحمن عزام أنه قد بُني في دمشق وحدها في مدة حكم نور الدين وصلاح الدين والأيوبيين حتى سقوطها في أيدي المغول اثنتان وتسعون مدرسة بمتوسط مدرسة كل سنة[5].

كانت مدارسَ مقـاوَمة ذاتَ نُظُم وأدوات ومجـال تأثير أسستها الرغبة في التحول والتصحيح، نصر القومُ بها دعوة الحق بقوتيه فتم أمر الله أحسن تمام يرجى لأمثالهم.

وفي أثناء ذلكم التمام: كان القاضي الفاضل لصلاح الدين في القاهرة كمـا كان أبو الحسن بن أبي الرجال للمعز بن باديس في القيروان، تمهيداً وترتيباً وعناية، ثم كان بعد ذلك «يمين المملكة» كما سماه الذهبي، حتى قال العماد الكاتب: «ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه»، يقصد صلاح الدين، وأقرَّ له بذلك صلاح الدين قائلاً: «لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل»، وقد ركن إليه السلطان صلاح الدين ركوناً تامّاً بعد أن أعانه وهيَّأ له، ولولا علم الفاضل ونفوذه في مصر (معاً) لما تأهل لإدراك ذلك، وكان أبوه وجده من القضاة[6].

محاولة توحيد الأندلس وحمايته من السقوط:

وهي محاولة جليلة أساسها علم واستعلاء. خلاصتها أن عبور أمير المرابطين يوسف بن تاشفين البحر وانتصاره في معركة الزلَّاقة وإحياءه آمال الأندلسيين لم يشفع له عند أمراء شرق الأندلس، فبقي أكثرهم على عهد انحرافه؛ يحالفون النصارى من أعدائهم، ويؤدون لهم ما يشبه الجزية ليتركوهم، ويحتجون على يوسف بأنه لا يلزمهم طاعته ولا الجهاد معه ولا الالتحاق به أو تأييده، لأن الخليفة العباسي لم يولِّه ما تولى في الأندلس، ولم يعطِه من الشرعية ما يبرر زعامته هنالك للحكم والجهاد.

أدرك فقيه إشبيلية عبد الله بن العربي (ت 493هـ) والد القاضي أبي بكر أن تجربة يوسف تقف على ساقٍ واحدة فقرر أن يسندها بأختها حتى يستقيم قيامها ما شاء الله لها أن تقوم، فكان أن سافر مع ولده إلى دار الخلافة ليشفع إلى الخليفة أن يجري ولايته على ابن تاشفين إجراءً كتابياً يتضمن الإقرار له بما تحت يده، وليرجع بفتوى مكتوبة من أبي حامد الغزالي توجب على المرابطين دفع أمراء المشرق الأندلسي، والسعي في نقض شوكتهم على قوانين معاملة البغاة، وذلك تصرف عَلَمٍ مجتهد يعلم أن دعوة الحق لا تنصرها قوة واحدة[7].

تجربة القاضي عياض (رحمه الله):

هذه القصة من حياة قاضي سبتة وغرناطة تكشف مذهبه فيما يجب فعله عند امتلاك القوتين وما يجب عند فقد إحداهما.

ملخصها أنه لم يُخفِ كراهته لدولة الموحِّدين الناشئة لـمَّا أسسوها على البدع وسفك الدماء، لكنه إن أسنده العلم واحتفاء الجماهير به فليس يسنده النفوذ والاستعلاء فلذلك قرر ألا ينزلق بأهل سبتة إلى مواجهة بائسة، فبادر بمبايعة الموحدين وتبعه السبتيون وهدأت شبه الجزيرة.

ثم سنحت الفرصة للقاضي وأسند العلمَ حظٌ من النفوذ والاستعلاء فغير اجتهاده: ثار على الوالي الموحدي وعَبَر البحر إلى الأندلس وطلب من الوالي المرابطي يحيي بن غانية أميراً يعينه فساعده وامتدت الثورة وتأيدت بمدن أخرى، لكنه أدرك بعدُ خطأ حساباته وقصور إحدى قوتيه! فلما أفلح زحفُ الموحِّدين من جديد رجع إلى اجتهاده الأول وبايع واستسلم، عارفاً قدر نفسه، حافظاً دماء شعبه، مقِرّاً أن الحق لا تنصره قوة واحدة[8]. يقول ابن خلدون: «والحق الذي ينبغي أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكةٍ عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه»[9].

ما تقدم: أمثال أعمالٍ لا تمارَس على الكمال والتمام بغير نفوذ كافٍ ملائم، واستعلاء حامٍ مَخوف، ولا يُحسِن بلوغ مقاصد الشرع فيها إلا المجتهدون بإطلاق ومن داناهم ممن يحسنون الاجتهاد فيما وُكِل إليهم، وهي بذلك شهود ناطقة بالحق وأمارات على مشارف الطرق لمن شاء أن يتقدم أو يتأخر.


 


[1] مقدمة ابن خلدون: 1/ 522.

[2] المتسمين بالفاطميين ظلماً وزرواً ^.

[3] العمدة، ابن رشيق القيرواني، ص: 16.

[4] انظر: «البيان الـمُغرب» لابن عذاري: 1/ 298 ، و «تاريخ الفتح العربي في ليبيا» للطاهر الزاوي، ص: 221.

[5] صلاح الدين وإعادة إحياء المذهب السني، عبد الرحمن عزام، ص: 58.

[6] انظر: «سير أعلام النبلاء»: 21/338 و «النجوم الزاهرة»: 6/157.

[7] «دراسات في تاريخ المغرب والأندلس» لمختار العبادي، ص: 101 - 478، و «دولة الإسلام في الأندلس» لعبد الله عنان: 3/530.

[8] «دولة الإسلام في الأندلس»: 3 / 273.

[9] مقدمة ابن خلدون: 2/ 759.


أعلى