تُشكِّل أفغانستان معضلة تاريخية للغزاة؛ فبقدر ما يكــون غزوهــا فــي العادة سهلاً جداً، بقدر ما تكون محاولة البقاء داخلها أو تغيير واقعها أمراً شبه مستحيل. ويعود ذلك في الأساس إلى عدد من العوامل الجيوبوليتكيَّة من جهة، وإلى طبيعة الشعب الأفغاني من جهة أخرى؛ إذ يُعدُّ الأفغاني منذ ولادته مقاتلاً بالفطرة، وقد انعكست قسوة طبيعة بلاده الجغرافية على شخصيَّته، كما فرضت عليه الغزوات المتتالية تاريخياً موقفاً مقاوِماً حتى ترسَّخ في نفسه وذاته وأصبحت مقاومة الأجنبي المحتل سلوكاً أوتوماتيكياً، يعزِّزه إيمانه بدينه وثقته بنفسه.
وبقدر ما يكون المحتل قاسياً وعنيفاً بقدر ما تكون المقاومة له أشد، وما يميِّز الأفغان في هذا المجال ليس زخم المقاومة لديهم، وإنما نَفَسها الطويل. وتُواجِه الولايات المتحدة هذه الحقائق اليوم على أرض الواقع في أفغانستان وهي خائفة من أن تلاقي مصير الأمم التي دخلتها ولم تخرج منها إلا منهارة أو متفككة وآخرهم الاتحاد السوفيتي.
الواقع الحالي:
بعد مرور 8 سنوات - تقريباً - على غزو أفغانستان، لا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها لا يسيطرون سوى على مناطق محدودة وهامشية إلى جانب كابل. وحتى هذه المناطق الواقعة تحت سيطرتهم المباشرة وسيطرة الحكومة المركزية التابعة للرئيس الأفغاني حامد كرزاي، تتعرض لحصار مضاد من المد الطالباني بين كَرٍّ وَفَر، وهو ما جعل هذه القوات الأجنبية التي من المفترض أن تكون في موقع هجومي للقضاء على طالبان، في موقع دفاعي. أمَّا الحكومة المركزية، فهي لا تملك القوات الكافية والمدربة للسيطرة على هذه المنطقة فضلاً عن أن تقوم بتوسيع رقعة المساحة التي تحكمها.
وفي المقابل تسعى إستراتيجية طالبان إلى توسيع رقعة المناطق التي تسيطر عليها بشكل دائم أو المناطق التي تسيطر عليها بشكل متقطِّع، والتي تُعدُّ ممراً بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة الحكومة، وذلك من أجل تحقيق أمرين أساسيين، هما: الأمن والعدالة، وقد ساهم غياب الحكومة المحلية وارتياب الناس في تلك المناطق من قوات التحالف في تعزيز سيطرة طالبان وقُدْرتها على تحقيق حاجات الناس الأساسية، وتوسيع رقعة نفوذها وتأثيرها.
إضافة إلى ذلك تسعى طالبان إلى فتح جبهات أخرى بعيدة خاصة في الشمال الأفغاني؛ وذلك لتشتيت قوات التحالف وقوات الحكومة والعمل على توسيع رقعة أماكن الاشتباك التي فيها أفضلية لقوات طالبان التي تتقدم مع حلول الليل عادة وتنسحب مع النهار إلى أن تُرهق قــوات التحالف وتصبـح غير قادرة علــى مواكبــة هذا الكر والفر لا من ناحية العدد ولا من ناحية آماكن الانتشار.
معالم المأزق الغربي:
ويتمثَّل مأزق الولايات المتحدة ومعها دول حلف شمال الأطلسي «الناتو» في محدودية الخيارات اللازمة لمواجهة الحالة الأفغانية المستعصية، إن لم نقل انعدامها؛ فمنذ عام 2001 وحتى اليوم، جرى الاعتماد على عدد كبير من الإستراتيجيات التي ثَبَت فشلها جميعاً. ويبدو أن الخيار القَبَلي القائم على إيجاد تشكيلات قَبَلية موازية للبشتون وتوظيفها في موجهة طالبان قد فشل فشلاً ذريعاً، نظراً لوجود أغلبية بشتونية في أفغانستان من جهة، وبسبب انشغال زعماء القبائل من قوميات أخرى بالمغانم والمكاسب التي نتجت عن مساندتهم الاحتلال، وبناءً على ذلك تم العزوف - على ما يبدو - عن هذا الخيار ودراسة البدائل المتاحة. وأما خيار الاحتفاظ بالمناطق المركزية ومحاولة توسيع رقعة الانتشار، فقد ثبت فشله أيضاً؛ لأنه يجعل قوات التحالف كما سبق وذكرنا في موقع دفاعي، ويسهِّل على مجموعات طالبان حصارها ومهاجمتها من جبهات عديدة من خلال المناطق الواقعة في أطراف البلاد.
وأمام هذا الواقع؛ فإنه سيكون على الولايات المتحدة: إما الانسحاب من أفغانستان في هذا التوقيت الحرج؛ لوقف النزف (To Cut The Losses) وعندها ستكون قد فشلت في إنجاز هدفها المعلَن، ألا وهو: القضاء على الطالبان وتمكين الحكومة المركزية الأفغانية من بسط سيطرتها ونفوذها على كامل الدولة، وإما أن تبقى وهي تعاني من النزيف المستمر والمتصاعد في العديد والعتاد، خاصة أن نَفَس المقاومة الأفغانية طويل، وأنها (الولايات المتحدة) تواجه نتيجة ذلك حالة تفكُّك دولية نتيجة تخلِّي الحلفاء عنها من جهة وازدياد الضغط الشعبي الداخلي في واشنطن من جهة أخرى.
وتحاول الولايات المتحـــدة فـي هـــذا الإطار تطبيــق ما يمكن تسميته بـ: «الخيار العراقي» أو حتى نكون أدق، تحاول الولايات المتحدة اعتماد تكتيك زيادة القوات العسكرية الذي قامت بتجربته في النموذج العراقي الذي طبَّقت فيه إستراتيجية مركَّبة تضمَّنت زيادة القوات واعتماد العنصر الطائفي والقومي والعشائري الداخلي إضافة إلى زيادة عديد وتدريب القوات الحكومية المركزية.
خيار «النموذج العراقي»:
يَرى هذا الخيار أن جميع الإستراتيجيات السابقة فشلت فشلاً ذريعاً وأنَّ المشكلة تكمن في الأساس في نقص العديد والعتاد، وأنَّه إذا ما جرى زيادة القوت في مواجهة طالبان، فإنها ستكون قادرة على دحرها، كما حصل إثر زيادة القوات العراقية، والتي جاءت نتيجتها بعد عدَّة أشهر من الزيادة، من ارتفاع حصيلة القتلى من الجنود نتيجة لهذه الزيادة.
يبلغ تعداد قوات التحالف الدولي في أفغانستان استناداً إلى أحدث التقارير الرسمية الصادرة مؤخراً، حوالي 88 ألفاً يتوزعون على 41 دولة. والمشكلة أن حلفاء الولايات المتحدة مازالوا مترددين في زيادة حجم قواتهم خاصة إثر ازدياد وتيرة وقوة عمليات طالبان وسقوط مزيد من القتلى في صفوف قوات الاحتلال.
وعلى الصعيد الأمريكي الداخلي، هناك شبه بداية لتململ واسع النطاق، من المنتظر أن يبرز إذا لم يتم حسم المعضلة الأفغانية سريعاً، كما أن الزخم المتعلق بأفغانستان، والذي حصل عليه الرئيس أوباما عند فوزه بالانتخابات بدأ يتراجع شيئاً فشيئاً. ومن المعروف أن خيار زيادة القوات يحتاج إلى صَبْر وجُهْد وإلى وقت وتمويل وإلى عتاد وتدريب، كما أن النتائج قد لا تكون مضمونة ذلك أن الواقع الأفغاني الديموغرافي والجغرافي - كما سبق وشرحنا - معقَّد للغاية، ومختلف عن نظيره العراقي، لا سيما في ظِل تطوُّر قدرات الطالبان العسكرية وتكتيكاتها القتالية.
فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تحمَّلت في الآونة الأخيرة العبء الأكبر في زيادة القوات، بين تشرين أول 2008، ونيسان 2009، بزيادة 11 ألف جندي، إلا أن العدد لم يكن كافياً لإنجاز المهمة الأمريكية رغم أن مجموع القوات الأمريكية بلغ مع هذه الزيادة 41 ألف جندي.
ووَفْقاً للإستراتيجية الأميركية الجديدة التي صدَّق عليها الرئيس الأميركي (باراك أوباما) في شباط 2009، سيجري زيادة القوات الأميركية العاملة هناك بأكثر من 21 ألف جندي على أن يجري توزيعهم على مدار السنة حتى عام 2010.
وتهدف هذه الإستراتيجية بشكل عام - كما سبق وشرحنا - إلى إضعاف وعزل طالبان، ومن ثَمَّ ضرب المخابئ التي ينطلقون منها في الهجوم عادة؛ وذلك لمنع عودتهم، ومن ثَمَّ حرمانهم من إمكانية شن أي هجمات وتثبيت النظام السياسي الوليد هناك.
مصير الخيار الجديد:
ليس هناك إجماع بين التحالف الدولي على زيادة عدد القوات العسكرية على الأرض في أفغانستان لا سيما من قِبَل فرنسا وألمانيا وكندا إضافة إلى بريطانيا؛ حيث تشهد هذه الدول ضغوطاً شعبية معارضة لزيادة القوات ومطالِبة بالانسحاب؛ للحفاظ على سلامة أبنائها على أساس أن الحرب في أفغانستان أصبحت عقيمة وعبثيَّة في ظل دروس التاريخ والواقع الحالي.
ويُعدُّ عامل الوقت عاملاً مُهمّاً للطرفين؛ إذ تُراهِن طالبان دوماً على المدى الإستراتيجي الذي يعتمد على العمل البطيء، لكنْ المتدحرج؛ أي: الثابت والمتعاظم، والذي من شأنه أن يُدخِل اليأس وفقدان الأمل في صفوف العدو، وأن يُدخِله أيضاً في دوامة الاستنزاف والخيارات المحدودة؛ فلا يقدر على الانسحاب الذي سـيُحسب هزيمة له من جهــة، ولا يقدر على البقاء ضمن المعطيات الحالية أيضاً.
وفي المقابل؛ فإن قوات التحالف الغربي لا يمكنها الانتظار طويلاً في مجال مفتوح ودون خطوط زمنية واضحة، وهو ما طالبت به مؤخراً العديد من الدول ومن ضمنها إسبانيا؛ لأن العملية أصبحت مكلِّفة لا من الناحية العسكرية والبشرية فقط، وإنما من الناحية السياسية أيضاً داخل هذه البلدان
وفيما يتعلق بالجيش الأمريكي، يسود اعتقاد أنَّ المشكلة ليست في نقص القوات؛ إذ لو افترضنا أنَّ الخطة القائمة على زيادة عديد القوات قد نجحت في دفع الطالبان إلى موقع دفاعي، فإن ذلك الإنجاز سيكون مؤقتاً في ظِل حقيقة عدم وجود سلطة سياسية أفغانية قادرة على بسط نفوذها وسيطرتها على كامل أفغانستان فضلاً عن الاحتفاظ بالمناطق التي تسيطر عليها أصلاً. وعندها يصبح الخيار الإستراتيجي الأمريكي برمَّته دون جدوى.