الحمد
لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يتحدث علماء
السياسة عن مسارات أربعة ممكنة للتحدي الشعبي الذي يطالب بالتغيير:
أولها: اليأس الذي
يعقبه الاستسلام والرضا بالأمر الواقع.
ثانيها: اعتماد منهج
الواقعية السياسية باتباع طريق «الكفاح التراكمي»؛ أي مراكمة
المكتسبات على أمل أن يؤدي ذلك التراكم في يوم ما إلى التغيير الشامل.
ثالثها: اللجوء إلى العنف وسيلةً مباشرةً لإحداث التغيير المطلوب.
رابعها: خيار
الاحتجاج الشعبي السلمي، أو ما يطلق عليه بعضهم «حرب
اللاعنف».
بعد مرحلة الاستقلال من الاستعمار
الغربي، واجهت الشعوب مرحلة زمنية انتعشت فيها الآمال بإقامة أنظمة حكم تُرسِي
معالم الحرية والعدالة وتحقِّق طموحاتها وتطلُّعاتها؛ لكن بعد مرور بضعة عقود
تحوَّلت الأحلام إلى كوابيس وتبدَّلت الآمال لتصبح أطلالاً، وارتسمت أمام الشعوب
تلك المسارات الأربعة للتعبير عن إحباطها الشديد ليس من حكامها فقط، بل من النخب
التي توراثت الحكم كابراً عن كابر، حتى أصبح تغيير شخص الزعيم لا يؤدي إلى تغير في
إستراتيجية الحكم وأساليبه مع ثبات النخبة.
في البداية خضعت الأغلبية للأمر
الواقع ولم تستسغ فكرة الخروج على الحكم، أو لم ترَ سبيلاً لتحقيقه، بينما ارتأت
شرائح أخرى أن تلجأ لمسار الكفاح التراكمي، أملاً في تحقق الهدف الشامل بزوال
ديكتاتوريات ما بعد الاستقلال، ولو بعد حين.
قبل 35 عاماً لجأت مجموعات منبثقة من
الجماهير إلى اتباع نهج العنف لتغيير الواقع
السياسي، وكان النجاح الأبرز الذي تحقق في هذا الصدد هو اغتيال الرئيس المصري
الأسبق أنور السادات، لكن بقيت المشكلة نفسها: تغيَّر الزعيم وبقيت النخبة، ومن
ثَمَّ كان القادم الجديد يحمل للشعب واقعاً أكثر سوءاً من سابقه.
توسعت تطبيقات العنف في عدد كبير من الدول الإسلامية وتنوعت
الجماعات التي تمارسه، لكن كافة التجارب أخفقت في تحقيق نتائج ملموسة على صعيد
تغيير الواقع السياسي؛ على الرغم من الدماء الغزيرة «المحرمة شرعاً» التي سالت
والخسائر المتراكمة على كافة الأصعدة، ولم تتحمل أغلب تلك الجماعات سوى دورة واحدة
من العنف لتقدم بعدها مراجعات وتراجعات عن ذلك
النهج؛ سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
في العقد الأخير برز تنظيم «القاعدة»
بوصفه أبرز الجماعات التي لا تزال تتبنى العمل المسلح منهجاً للتغييـر، ودخلت
القاعدة - سواء بفكرها أو تنظيمها - في حالة عداء مستعرة مع عدد كبير من دول
العالم (العربي والغربي) فتداخلت الأهداف وتشوشت الرؤى ولم يعد بإمكان أي باحث أو
مراقب منصف أن يجيب بدقة على سؤال: ماذا تريد القاعدة؟
ولأن الأهداف تُعَد من الناحية
المنهجية أهم معيار لتقويم الأداء، فيكون مسدداً بقدر اقترابه من تحقيقها، أو
منحرفاً بقدر ابتعاده عن بلوغها؛ فكيف يكون الحال عندما تكون الأهداف نفسها -
كمعيار للتقويم - مشوشة وغير واضحة؟
كانت الجماعات الجهادية في السابق
تعتمد بدرجة أساسية في خطابها الدعائي على «المرئيات» التي يتم تصويرها في مناطق
القتال ضد أعداء الأمة في البلاد الإسلامية المحتلة (أفغانستان، الشيشان، البوسنة)
وكانت تلقى رواجاً لأن العدو معروف ومحدد، والهدف واضح غير ملتبس، وعندما تحولت
الدفة وتغيرت التوجهات لتصبح الدول الإسلامية نفسها هي العدو، والهدف هم المسلمون
أنفسهم، فقدت تلك الجماعات قدراتها الدعائية مرة واحدة، فليس معقولاً أن يتم
الترويج في الأوساط الإسلامية لفيلم دعائي يصور كيف يسقط المسلمون ضحايا عمليات
تستهدف - أو هكذا تزعم - تغيير واقعهم إلى الأحسن.
في الأشهر الأخيرة تعرض نهج العنف الذي تتبناه القاعدة إلى ضربة قاتلة؛ فقد بزغ
في الأفق العربي مرحلة ثورية جديدة تتبع نمطاً غير مسبوق في العمل الثوري، وفي
أسابيع قليلة حققت تلك الثورات - على أرض الواقع - نتائج مبهرة تجاوزت ما خططت له
جماعات العنف السابقة والحالية (في عالم التمنيات).
لم تقتصر الضربة التي تلقتها القاعدة
من الثورات العربية على تداعي نهج العنف فقط،
بل تعدى ذلك إلى ملامح ومعالم أخرى ميزت أداء القاعدة، وتمكنت الثورات العربية من
النجاح بأضدادها، ونذكر أهمها:
- القائمون بالثورة العربية أشخاص غير
منظمين لم يلتق أغلبهم في عالم الواقع، ولم ينطلقوا من تصورات معمقة أو تخطيطات
معقدة.
- الأدوات التي استخدمتها الثورة بسيطة
وغير مكلِّفة وبإمكان أي شخص أن يصل إليها.
- لا توجد مواصفات كثيرة لقبول الشخص
عضواً في الثورة، بل كل الشباب وجميع فئات الشعب مدعوون للمشاركة فيها.
- العلنية: هي السمة الرئيسية للعمل
الثوري العربي؛ فلا تنظيمات سرية ولا عمل تحت الأرض.
- لا توجد وسائل غير قانونية أو
ممارسات عنيفة، بل الشعار الأول للثورة هو «سلمية، سلمية»؛ لا استخدام لأي سلاح من
أي نوع.
إن تكرار استخدام هذا النمط الثوري في
أكثر من بلد عربي؛ إنمـا يثبـت - بدون أدنى شـك - نجـاعة هذا الأسـلوب وقـدرته -
بإذن الله - على تغيير الواقع السياسي إلى الأحسن، مع أهمية الالتفات إلى فارق
هائل بين نهج العنف وبين نهج «اللاعنف» في التغيير؛ وهو أن الأسلوب الأخير يتيح
إلى حدٍّ كبير تغييرَ رأس النظام والنخبة الحاكمة أيضاً، بينما يقتصر نهج العنف في أحسن حالاته على إرباك النظام أو إسقاط
رأسه، دون أن تكون له القدرة على إزاحة النخبة الفاسدة الحاكمة؛ وهذا يعني أن
التغيير قد يكون إلى الأسوأ، والدليل على ذلك أن مجموعات التغيير في حالة العنف
غالباً ما تدخل في مرحلة «محنة» بعد تنفيذها لعملياتها، بينما في حالة «اللاعنف» ؛ فإن الثوار (بعد الثورة) يكونون في موضع
التكريم والاحترام وتتوفر لهم مجالات رحبة للتأثير في الواقع السياسي الجديد.
ولعلنا نذكر التصريح الذي أدلى به
عبود الزمر (أحد العقول المخططة لعملية اغتيال السادات)؛ حيث قدَّم اعتذاراً للشعب
المصري؛ لأن هذا الاغتيال أوقع المصريين في حقبة مبارك ثلاثين عاماً، وكان ملفتاً
للنظر أن يكون العمل الثوري «اللاعنفي» في مصر
هو السبب الرئيسي في الإفراج عن أبرز معتقلي نهج «العنف»
بعد ثلاثين عاماً أمضوها في السجون.
بعيداً عن الثورات العربية، فقد
تلقَّت القاعدة ضربة أخرى أيضاً، تمثلت في اغتيال مؤسسها وزعيمها ورمزها الأول
(أسامة بن لادن)، ومع كون الاغتيال كان متوقعاً بسبب حالة المطاردة المستمرة منذ
سنوات طويلة؛ إلا أن تداعياته لا تخفى على النظر، وسواء كان ابن لادن في مرحلتـه
الأخيرة قائداً رمزياً أو قائداً ميدانياً للتنظيم، فإن اختفاءه من الساحة يعد
منعطفاً تاريخياً هاماً، وعند المنعطفات يُستحسن بالسالكين للدروب الشائكة أن
يتمهلوا قليلاً ريثما يراجعون مواقفهم ويحددون مساراتهم على ضوء المتغيرات
الجديدة.
إن التزامن بين الإخفاق المنهجي
واختفاء الرمز المؤسس، جدير بأن يدفع العقلاء داخل التنظيم إلى إعادة النظر
والتفكير في الوقائع والمآلات، وصولاً إلى طرح القضية التي ينتظرها ويتوق إليها
كثيرون؛ وهي إعلان القاعدة مبادرة شاملة لوقف العنف
والتخلي عنه منهجاً للتغيير السياسي في الدول الإسلامية.
إن النجاح الذي حققته الثورات العربية
(السلمية) ضاعف نفور الرأي العام من ممارسات العنف؛ ومؤدَّى ذلك: أن مواصلة
القاعدة لممارساتها القديمة سوف تلقى رفضاً عارماً بين فئات المجتمع، وسيكون على
التنظيم أن يواجه ليس فقط الأنظمة الحاكمة، ولكن الشعوب المحكومة أيضاً.
إن إعلان القاعدة عن مبادرة لوقف
العنف، ليس عملاً عادياً، ولكنه قرار استثنائي يحتاج إلى إخلاص لله - تعالى -
وحده، وجرأة في الحق وقدرة على استيعاب المتغيرات السياسية؛ فقد أصبحت القاعدة
ملجأً يلوذ به الرؤساء إذا ضاقت بهم الحيل وتقطعت بهم السبل، وفقدوا الصديق
والحليف، عندها يكرر هؤلاء الشعار القديم المتجدد: إما أنا وإما القاعدة! قالها
القذافي وأبناؤه في إصرار عجيب على أن قواته تقاتل القاعدة وليس الثوار المدنيين؛
وكأن القذافي سيكون أسعد حالاً لو كان للقاعدة وجود فعلي في ليبيا أو مشاركة
حقيقية في الثورة، لربما سيرقص عندها فرحاً بوجود التنظيم، وليس بغيابه.
لا نبالغ إذا قلنا: إن إعلان القاعدة تخليها عن العنف منهجاً للتغيير السياسي، سيحقن دماء المسلمين،
ويكف عن بلادهم شروراً كثيرة، ويخرجهم من دوامة الفتن والاضطرابات، وربما
يحقق نتائج لا تقل أهمية عن التغيير السياسي نفسه؛ فهذا الإعلان من شأنه أن يُحدِث
تغيرات هائلة في التوازنات السياسية، وفي الميزانيات العسكرية، وفي الأعمال
الاستخباراتية، بل ستنعكس آثاره (الدينية والاجتماعية والثقافية) على أغلب الدول
العربية والإسلامية، وستختفي «الفزّاعة» الأولى للترهيب من الأعمال الدعوية
والخيرية، وسيفقد المخطط السياسي الغربي أحد المسوغات المهمة للتدخل والاختراق
والإفساد للواقع السياسي في الدول الإسلامية.
لقد أصبحت التيارات الإسلامية بكافة
تنويعاتها وتفريعاتها تحت المجهر الغربي، بعد أن دلف العرب إلى عصر ثوري جديد،
فالكل خائف ومتوجس من طموحات الإسلاميين وتطلعاتهم السياسية؛ ولا ينقصهم المال أو
التخطيط أو العملاء، الجميع يتربصون ويترقبون في انتظار أي خطأ من هنا أو هناك
ليتم على الفور توظيفه وإعادة تدويره من أجل إعاقة التقدم الإسلامي؛ فهل تفعل
القاعدة خيراً وتلقم أعداء الأمة حجراً؛ بأن تعلن عن تراجعها النهائي والدائم عن
نهج العنف، وتحولها للعمل التغييري السلمي،
والاكتفاء بمقاومة الاحتلال الأجنبي لبعض الدول الإسلامية؟
هذا ما نتمناه ونأمله، واللهَ نسأل أن
يُلهم المخلصين لهذا الدين السدادَ والرشادَ.