الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد
وعلى آله وصحبه، وبعد:
حين سقطت بعض الأنظمة العربية الاستبدادية اتجهت أنظار الجموع الثَّائرة إلى قادة
الثَّقافة الذين كانوا يمالئون الأنظمة المنهارة إلى ما قبل تهاويها بالهرب أو
الخلع، وقد خسر بعض «رموز» الثَّقافة مواقعهم بسبب غضبة الجماهير من مواقفهم
الجبانة الخائرة إبَّان عقود الظُّلم والجبروت. ومع زوال الطُّغاة بدأ ظِلُّ مثقفي
الحكومات البائدة بالانحسار والتَّواري عن الأنظار، وسيبقى التَّاريخ خير شاهد على
هؤلاء الذين لفظتهم شعوبهم معنوياً قبل انطلاق الثَّورات؛ ثم كنستهم من المشهد
الثَّقافي بعد نجاح الاحتجاجات الشَّعبية.
وفي مقابل سقوط الأقنعة عن هؤلاء النَّفعيين من موظفي الحكومات وألسنة الأحزاب
القمعية، ارتفعت لدى الشُّعوب العربية أسهم المثقفين الذين كانوا يسعون في سبيل
نهضة الأمة ورقيِّها، ويجاهدون لنصرة الحقِّ ودحض الباطل وعمارة الأرض، سالكين
دروباً وعرة لتعرية الفساد وأهله، ومقاومة الطُّغيان وجنوده، بالكلمة الحرَّة
المسؤولة، والعمل الجاد المنَّظم، وبالتَّأثير الإيجابي في المجتمع من خلال القنوات
المتاحة لهم تحت قهر المفسدين وتسلُّطهم، وقد تحمَّلوا في سبيل ذلك من الآلام
والإهانات والإقصاء ما لا يخفى على المتابع.
ومن الضَّروري لأي مجتمع وجود أرباب السِّياسة من الحكَّام ومَنْ اتصل بهم، كما لا
يخلو المجتمع من المثقفين على تنوعهم وربَّما اختلافهم، ويأتي على رأس الطَّبقة
المثَّقفة: العلماء والدُّعاة، والمفكِّرون والكتَّاب، والأدباء والأكاديميون. ومن
لوازم الاجتماع أن يحدث احتكاك بين هاتين الفئتين بسبب الاشتراك في منطقة التَّحرك
ومربع الاهتمام؛ فعمل السِّياسي منصبٌّ بدرجة رئيسة على رعاية الشَّأن العام من
جميع نواحيه، وهي ذات المسائل التي تشغل بال المثقف ويمنحها أكثر جهده. ولذا
فالمثَّقف والسِّياسي شريكان في موضوع واحد وإن اختلفا في طريقة التَّعاطي معه؛
فالمثقف ممارس للسِّياسة بأقواله وآرائه، والسِّياسي يتبع مقتضيات ثقافته بأفعاله
وإجراءته، وهنا تكمن جوهر العلاقة بين الطَّرفين ومواضع الانتقاد أو الاتفاق؛ إذ
كلُّ أحد من الفريقين يدَّعي أحقيته بالمجتمع وأنَّه أصدق مَنْ يعبِّر عنه.
ويبالغ السَّاسة عادة في الحذر والخوف الزَّائد، ويستميتون في مقاومة التَّغيير
والتَّشبث بالواقع، ويركز السِّياسي على الحاضر دون اعتبار كبير للمستقبل. وينظر
السَّاسة للمثقفين على أنَّهم مجرَّد أبواق جاهزة لشرح مواقف النِّظام وتسويغ
أخطائه وجرائمه، فضلاً عن تدبيج المدائح في الأحياء، وكتابة المراثي في مَنْ مات من
رؤوس القوم وله بقيَّة لا تزال تسيطر وتحكم. ولا مكان في أعراف كثير من السَّاسة
للمثقف ذي الرؤية التي لا تسبَح في فلك النِّظام، وقد يعاقب أحدهم الثَّقافةَ
بأجمعها بسبب «جرم» مثقف واحد، وفي هذا السِّياق حُجبت أعمال ومنتجات دعوية وثقافية
نكاية بشخص واحد فقط!
ويمتاز المثقفون عادة بالاستقلالية والاعتزاز بما لديهم، ويعتنون كثيراً باستشراف
المستقبل وتقدير المآلات؛ ولذا ينشغلون بالمبادرات الإصلاحية، وتقديم المقترحات
والانتقادات على الأداء الحكومي. ويرمق المثقفُ السياسيَ بعين ملؤها التَّوجس
والخوف من بطشه وإرهابه، أو بعين أخرى مترعة بالطَّمع في خزائنه ومناصبه، وثمَّة
مَنْ ينظر للسَّاسة وقد أغمض عينيه الاثنتين إلاَّ عمَّا يؤمن به ويقدِّر فيه
المصلحة لأمته وبلاده؛ أو يغمضهما إغماض إعراض وصدود وابتعداد طلباً للسَّلامة.
ومن طبائع السِّياسي المراوغة بالأفعال، والتَّلاعب بالأقوال، والتَّنقل بين
الاحتمالات وما يمكن فِعْله. أما المثقف فسمته الصَّراحة والوضوح، والحديث عمَّا
ينبغي وقوعه، والتَّعبير عن وجدان الأمة ومشاعرها، وهو مسكون بهاجس إضافة الجديد
والمفيد لأمته، ونقد أخطاء الوضع القائم الذي يحرسه السِّياسي؛ ويرى أنَّ مهمَّته
الأولى تتلخص في الحفاظ عليه وتجنيبه الأخطار التي يخشاها. ويسير السِّياسي والمثقف
في مسارات متوازية؛ تكتنفها التَّوترات أحياناً؛ ومع ذلك فلا يستغني أحدهما عن
الآخر؛ فكما يحتاج المثقف إلى سياسي يتبنَّى أفكاره ويجعلها واقعاً، فإنَّ
السِّياسي لا بدَّ له من مثقف واعٍ يبصِّره بالصَّواب، ويبيِّن له ما يعينه في عمله
وإدارته للشَّأن العام.
ومن أشدِّ الحالات حرجاً أن يكون المثقف موظفاً لدى السِّياسي أو عضواً في حكومته
لا يستطيع نقدها أو إبداء آراء مخالفة لرؤيتها. ومما يؤلم المثقف أن يحصره السياسي
في زاوية واحدة إذا خالفه؛ فهو عميل للخارج، أو يتلقى الأموال من مؤسسات مشبوهة!
وحين يشارك المثقف في السياسة يخسر مصداقيته ويفقد توهجه، ويتحول إلى سياسي ذي لغة
دبلوماسية تستر كلماته الأفكار ولا توضحها. وأفضل حال للطرفين خاصَّة مع الانفتاح
الإعلامي أن تتسع مساحة الرأي وفضاءات التَّعبير للمثقف، وفي ذلك تعزيز لموقع
السياسي ومشروعية بقائه، ويصبح المجتمع آمناً مستقراً، يقول مثقفوه كلمة الحق بلا
رهبة أو مؤاخذة، ويتقبَّل ساسته الآراء الصَّادقة دون عقاب أصحابها.
وتأخذ علاقة المثقف بالسِّياسي عدداً من الصُّور المختلفة، فهي: إما علاقة ذوبان
وتداخل، يفقد فيها المثقف تقديس الحقِّ لصالح السُّلطة، ويصبح - ولو بالتَّدريج -
بوقاً يجري خلف ركاب الظَّلمة والمجرمين، ولا يعدو قَدْرُه خرزة مهينة في سُبحَة
السِّياسي الطَّويلة يقلِّبها كيفما شاء، أو تصوغ العزلة العلاقة بين المثقف
والسِّياسي صورةً ثانيةً؛ فيصير المثقف في وادٍ في ما يكتبه ويقوله ويبحثه،
والسِّياسي في وادٍ آخر بأعماله وقراراته، ولا يتقاطعان ألبتة إن خيراً أو شراً؛
وربَّما يموت كلُّ واحد منهما دون أن يعرف الآخر! والصُّورة الثَّالثة يكون فيها
المثقف معارضاً للسِّياسي يحسب عليه أنفاسه، ويقوِّض إنجازاته ولايراها شيئاً
مذكوراً، وتكون هذه الحال في أسوأ درجاتها إذا كان المثقف مأسوراً لتوجه سياسي
مناهض للأمر القائم، فيرى المثقف أنَّ الحقَّ يدور مع حزبه حيثما دار، وقد لا يدرك
أنَّ حزبه - غالباً - هو الوجه الآخر للنِّظام الذي ينتقده.
وخير من هذه الصُّور الشَّوهاء لعلاقة المثقف بالسِّياسي صورة رابعة لا هي مع
السِّياسي دوماً، ولا هي ضدَّه أبد الدَّهر؛ فهي دائرة مستقلة عن كلِّ سلطان غير
سلطان الشَّريعة والحق، تكون مع السِّياسي إن أصاب وأحسن، وتصير ضدَّه إذا أساء أو
أخطأ. ومَنْ في داخل هذه الدَّائرة يتحركون وَفْقَ مرجعية شرعية عليا يؤمنون بها،
وحسب قيم شرعية وحضارية تحقِّق العدل والأمن والحرِّية تحت سقف الشَّريعة وسلطانها
الربَّاني، وهذه الفئة هي التي نرجو الخير من صرير أقلامها، وهدير خطابها، وعميق
تفكيرها، وبركة مبادراتها.
وللسَّائرين وَفْق هذا التَّصور المنصف الرَّشيد أدوات شرعية معتبَرة، ولهذه
الأدوات ما يعضِدها في ميراث المسلمين التَّشريعي، وفي تراثهم التَّطبيقي على مرِّ
العصور. فواجب المثقف البيان الواضح في التَّوقيت المناسب:
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي
لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178]. وحين يهمُّ
السِّياسي بإصلاحات حقيقية فمن الواجب على المثقف التَّعاون معه على ما فيه تحقيق
مصلحة شرعية أو دفع مفسدة محتملة طاعة لأمر الله – عزَّ وجل-:
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْـحَرَامَ وَلا
الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْـحَرَامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ أَن
تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى
الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
[المائدة: ٢].
وقد ينكر العامي أخطاء السِّياسي بقلبه خلافاً للمثَّقف الذي وهبه الله القدرة على
التَّفكير والتَّحليل مع جمالٍ في البيان واللسان، إضافة إلى حضوره الثَّقافي
وحَرَاكه الدَّائم مع هموم مجتمعه، فيكون الاحتساب الواجب عليه أكبر من غيره حين
يزلُّ السِّياسي ولا يرعوي لصوت الحقِّ ونداء المصلحين:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ
آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْـمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
وقد وردت في القرآن الكريم قصَّة عظيمة لمؤمن مع سياسي ظالم متكبر، هي قصَّة مؤمن
آل فرعون، الذي كان يكتم إيمانه عن فرعون وحاشيته، حتى إذا حانت سـاعة المفاصلـة
التي لا مكان فيها لغير الجهر بالحق، وحين علم أنَّه يكاد أن يكون الوحيد القادر
على إبداء رأيه أمام فرعون بجبروته وظلمه، وأنَّ واجبه الدِّفاع عن نبي الله ورسوله
موسى - عليه السَّلام - وحمايتُه من بطش فرعون وجَورِه، قال كلمة الحق، وأعلن عن
نفسه أمام الملأ، فللحقِّ واجب لا مناص من أدائه، وللمواقف الحاسمة ساعة لا محيد عن
بلوغها لكلِّ مثقف شريف يعمل في أجواء الباطل، وقد ذكر القرآن الكريم القصَّة
كاملة في سورة غافر التي باتت تُعرَف باسم مؤمن آل فرعون، وقال الله - سبحانه - في
أولها:
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ
إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم
بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإن يَكُ
صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].
وفي التَّاريخ أمثلة كثيرة على علاقة المثقف بالسِّياسي، فالإمام أحمد بن حنبل -
رحمه الله - الذي كان يتربَّع على عرش العلم والذَّب عن السنَّة في عصره، كانت له
مواقف حاسمة مع الخليفة العبَّاسي المأمون، الذي أراد قصر الأمَّة على القول بخلق
القرآن استجابة لآراء العالم المعتزلي أحمد ابن أبي دؤاد، وقد ظهرت ثقافة المعتزلة
وتمكَّنت لما توطدت العلاقة بينهم وبين السَّاسة، ثم كبتها الله بالحقِّ والسنَّة،
وهذا مصير أيِّ ثقافة تنتصر بضلالة السِّياسي أو هواه، وتستقوي به لترويج المنكر
وما لا يتوافق مع شرع الله. وتُعدُّ الدَّعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية من
الأمثلة القريبة الحاضرة على التَّعاون بين السَّيف والقلم؛ حين تعاهد الإمام
المجدِّد محمَّد بن عبد الوهاب مع الأمير المجاهد محمَّد بن سعود، رحمهما الله. ومن
عجيب ما يذكره المؤرخون أنَّ خلافة عمر ابن عبد العزيز - رضي الله عنه - لم تشهد
اعتراضات من العلماء وغيرهم، لأنَّه سار على نهج الشَّريعة، وجدَّد دين الأمَّة
بإقامة العدل بين النَّاس في الأحكام والأموال وغيرها، وكان يصغي للنَّاصحين من
الأئمَّة في عصره الزَّاهر القصير، ومع هذه الصَّفات الكريمة يخفت صوت المعارضة.
إنَّ للمثقف سلطةً معرفيةً ذات أثر سلوكي في مجتمعه، والواجب المحتوم عليه أن تكون
أهدافه سامية، ومصالحه عامة، وأن يجيد النِّيابة عن ثقافة الأمة التي ينتسب إليها
ويتحدَّث باسمها، وأن يتحلى بالشَّجاعة والصِّدق في حمل هذه المسؤولية الجسيمة، وأن
يستمر في تقديم المبادرات والرؤى حتى لو لم يشارك السِّياسي في التَّنفيذ، وبذلك
يحوز المثقف الخيرية، لاتصاله بثقافة مجتمعه، موقِّراً دينه، ومعتزاً بلغته،
ومدركاً تاريخه، ومشاركاً في صنع حاضره ومستقبله، لا يحرِّكه الطَّمع في السِّياسي،
ولا يزجره الخوف عن دخول معترك السِّياسة بالرَّأي الصَّريح والعمل الرَّشيد.