الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام
المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
حين نتجاوز مرحلة الاستعمار التي سيطرت فيها القوى الإمبريالية الغربية على مصالح
الأمة الإسلامية وأنظمتها، ونعود بذاكرتنا إلى قرون متتالية من تاريخ المسلمين،
فإننا سنجد أن ثَمَّ حقيقةً موضوعيةً ثابتةً كانت حاضرةً في التاريخ الإسلامي لا
تتغيَّر بسبب اختلاف الزمان أو المكان أو طبيعة النظام، هذه الحقيقة: هي أن الحكم
والنظام في أي دولة إسلامية قامت كان إلى (الشريعة الإسلامية) ولم يُعرَف في
التاريخ الإسلامي تحاكماً إلى أي نظام أو قانون آخر، وعلى الرغم من وجود مظالم
كثيرة، وحكومات جائرة، وأنظمة باغية في التاريخ إلا أنه لم يحصل أن وجد الناس
أنفسهم يتحاكمون قسراً إلى غير كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لذلك فإن عودة الحكم بالشريعة أمر ضروري ومستقبل حتمي
لا مناص عنه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يمثل دينها وتاريخها العميق
الضارب في جذرها الذي قامت به وخرجت منه؛ فهي أمة مسلمة قامت على الإسلام، واجتمعت
عليه، ولن ترضى عنه بديلاً؛ لأنه هو الأساس الذي يشكِّل هويتها وذاتها ويعرِّفها
بنفسها وبالآخرين، ومهما ابتعد الناس عن ذلك (أو أُبعدوا) فإن هذه العودة ضرورية
ولن يستطيع أحد أن يقف في وجهها مهما حاك لها من مكر كبَّار وجمع لها من قوى
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ
أَن يُتِمَّ نُورَهُ}
[التوبة: 32]،
وهذا ما يفسِّر حنينَ المسلمين في كلِّ مكان إلى الحكم بالشريعة، ووقوفَ أكثرهم مع
الجماعات والحركات التي تتبنى الخيار الإسلامي. ولم تفلح عقود التغريب والتهميش
والقمع في زعزعة الولاء للإسلام والانتماء إليه في الضمير الجمعي للمجتمعات
المسلمة.
إن ذلك أمر يدركه أعداء الإسلام جيداً؛ فوجود حركة أو جماعة ترفع الراية الإسلامية
يُعَد أمراً مخيفاً ومقلقاً؛ يثير كوامن الاستخبارات والدراسات الغربية لمعرفة
كيفية مواجهتها وإخراجها عن المشهد العام، ومهما بذلت الحركات الإسلامية من تطمينات
وقدَّمت من تنازلات أو اقتربت من المنظومة العَلمانية، فإنها ستبقى حالة استثنائية
تخافها النظم الديكتاتورية وتخوِّف بها مَنْ وراءها مِن قوى (غربية وشرقية).
إنه شعور عميق بأن الشعوب المسلمة تميل بفطرتها إلى أي راية ترفع الإسلام، ومهما
ضعفت قدراتهم السياسية أو المالية أو الإعلامية أو سحبت عنهم الأضواء والمناصب فإن
دورهم سيبقى واسعاً وعميقاً.
إن الرجوع إلى الإسلام والحكم بالشريعة هو من أعظم الحقوق التي يطلبها المسلم؛ لأن
هذا لازمٌ لإيمانه:
{وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً
أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}
[الأحزاب: 36]،
وهو قول كل مؤمن:
{إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}
[النور: 51]،
لكن ثَمَّ عوامل وقوى كثيرة ما تزال تسعى بكلِّ ما أوتيت من قوَّة للحيلولة دون
حصول المجتمعات المسلمة على حقها في التحاكم إلى دينها الذي يشكل هويتها؛ فالقوى
الغربية متحالفة مع النظم العَلمانية ومع وسائل التضليل الإعلامي. وتيارات العلمنة
والفساد الفكري والسلوكي كلُّها تقف دون حصول هذا الحقِّ الطبيعي البدهي لأهل
الإسلام.
كيف لا؟ والحكم بالشريعة لا يعني الاشتغال بشؤون عباديَّة معيَّنة، أو هو مقتصر على
جانب الحدود والعقوبات كما يحرص على إشاعة ذلك الحانقون من خصوم الإسلام، بل
الشريعة نظام شمولي يحقق للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويحفظ حق الفرد والمجتمع،
ويقيم بناء الإنسان والدولة؛ فهو أكبر ضمان حقيقي لحفظ حقوق الناس وحرياتهم وقيمهم
ومَنْع أي تعدٍّ على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، كما أنَّه ضمان لإقامة النظام
الشوري العادل القائم على الرحمة والإيمان، المؤدِّي إلى النهضة وتحقيق القوة
والإنتاج، وإعادة الحضارة إلى المسلمين بعد أن غُصِبوها قروناً.
وهذا ما يميز (التجمعات الإسلامية) في أي مكان؛ أنها تسعى لإعادة المجتمعات المسلمة
إلى وضعها الطبيعي؛ أي عودة الإسلام سُلطة عُليَا لا يعلوه شيء؛ فهو سبب وجودهم
وسبب التفاف الناس حولهم، وهو ما يجعل سعيهم وجهدهم مشكوراً مهما اختلفت
اجتهاداتهم؛ لأن من كان ساعياً لإعادة الشريعة وصيانتها فهو محمود وعلى أجر عظيم
ولن يجزيه حق جزائه إلا الله.
لكن ثَمَّ تغيُّر ملفت طرأ على بعض الرؤى الإسلامية في الإصلاح لا بدَّ من الإشارة
إليه بكل صراحة؛
حيث إن بعض الحركات الإسلامية في مبتدأ وجودها حين أرادت المشاركة في النظم
المعاصرة كانت تقرر بوضوح أن هدفها الأول هو (الشريعة)، وأنها تشارك في النظام الذي
لا يحكم بما أنزل الله من قبيل (الضرورة)، وأن دخولها في اللعبة الديمقراطية إنما
هو (وسيلة) لغاية الشريعة، وكانوا يصرِّحون بوضوح على أن ما يحصل ليس هو مرادهم بل
هو منكر دخلوا فيه لأجل إصلاحه (أو الإصلاح من خلاله قدر المستطاع)، هذه رؤية كانت
واضحة جداً لدى كافة القوى الإسلامية التي شاركت في أي نظام ديمقراطي، وما تزال
الدراسات والبحوث شاهدة عليه.
لكن الذي حصل بعد هذا: أنه أصبح كثير من العاملين في الحقل الإسلامي يتحدثون عن
الديمقراطية بوضعها الحالي على أنها وسيلة شرعية إسلامية صافية، وأن المشاركة فيها
أمرٌ مشروع لا غبار عليه، وأن الإسـلام يكفـل الحريات للجميع أيّاً ما كانت
توجهاتهم وعلى أي رأي يقولون؛ ما دام لم يحصل منهم أي اعتداء. تماماً كالرؤية
الليبرالية العَلمانية في الموضوع؛ فأصبح ما كان (ضرورة) بالأمس هو الأصل الآن، وما
كان وسيلة لأجل الشريعة أصبح هو الشريعة بذاته؛ فهو إذن انقلاب مخيف في المنهج
الإصلاحي لبعض الحركات الإسلامية، التي دخلت في المجالس البرلمانية والمشاركة
السياسية لأجل الوصول إلى الحكم بالإسلام بدعوى الحاجة والضرورة ثم تحولت النظرة
لديها بعد سنوات لتكون المشاركة ذاتها من صميم الإسلام ومن لبِّ الحقوق التي تكفلها
الشريعة؟
إن الحكم بالإسلام وتطبيق أحكامه هو المكوِّن الأساسي لقيام الحركات الإسلامية،
وحين تتنازل عنه بعض الحركات - تحت أي مسوغ كان - فإنها تفقد مبرِّر الوجود، وتسحب
عن نفسها مقِّوم البقاء؛
فإذا كانت الحركات الإسلامية تسعى فقط للحريات والحقوق والديمقراطية والمساواة
والعدالة (بمفاهيمها السائدة) فهذه دعوى تتفق وجميعَ التيارات العَلمانية
والليبرالية والقومية عليها؛ فما الذي يميِّز الحركة الإسلامية إذن؟ ولماذا يطلَق
عليها وصف الإسلامية من دون بقية الحركات؟
لا شكَّ أن حفظَ حقوق الناس وإقامةَ العدل ورفعَ الظلم وتحقيق المساواة والعادلة
بين الناس، وإقامة حكمٍ شوريٍّ قائمٍ على الرحمة والعدل من أعظم مطالب الإسلام وعلى
رأس أولويات الشريعة الإسلامية، ويجب أن يكون حاضراً في أدبيات جميع العاملين
والدعاة إلى الإسلام، لكنَّ هذا يجب أن يكون ضمن منظومة الحكم بالإسلام وليس خارجاً
عنها، وتحت إطار الشريعة لا أن تكون الشريعة داخلة في إطاره، وحين يقتصر الإنسان في
دعوته على هذه الحقوق الدنيوية فقط، فإنه لا يكون محققاً لما يريده الإسلام؛ لأن
هذه الحقوق يتفق الجميع عليها؛ فأي شيء يتميَّز به الإسلام؟ فالاكتفاء ببعض أحكام
الإسلام التي يتفق عليها الجميع لا يكون فيه تحقيق الإسلام ولا يكون ثَمَّ تميز
للحركة الإسلامية.
إننا ندرك ونتفهَّم جيداً ما يقوله كثيرون من أن تطبيق الشريعة لا يمكن تحقيقه في
المرحلة الراهنة، وثَمَّ عوائق كثيرة تقف في وجهه، وأنَّ وجود حريات حقيقية ونظام
ديمقراطي قويٍّ كفيل بأن يوصولنا إلى حكم الإسلام.
والحقيقة أن الإشكال ليس في أن تتبنى بعض الحركات الإسلامية المشاركة في مجلس
برلماني معيَّن أو توافق على الحريات كمرحلة من مراحل عملها الإصلاحي، فليست
المشكلة هنا، فهذه قضية عين تختلف فيها الاجتهادات، ولكلٍّ أن يقدِّر الموقف الصحيح
من مشاركته أو عدم مشاركته، وهي في النهاية محكومة بقاعدة الموازنة بين المصالح
والمفاسد.
لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في أن بعض المفكرين الإسلاميين بدؤوا يتبنون المفاهيم
العَلمانية كما هي، ليس بسبب مرحلة معينة أو ضرورة ما، بل أخذوا يعتنقوها على أنها
حق شرعي أصيل، فأصبحت مفاهيم الحريات المطلَقَة والحكم للشعب ومساواة المسلم بغيره
تُقرَّر على أنها شرعية ثابتة جاءت الشريعة الإسلامية بها وتُكتَب فيها المؤلفات
والدراسات.
هنا أن ما كان (ضرورة) صار يُبحَث له عمَّا يجعله هو (الأصل)، وما كان مرحلة لحاجة
ولوضع معيَّن صار هو (الغاية) التي لا يجوز الوصول إلى الشريعة إلا من خلالها.
حتى صار بعض الإسلاميين يتباهى بتقرير أن الحرية قبل الشريعة؛ فبعد أعوام طويلة من
النضال والتضحيات في سبيل الشريعة صارت هذه الشريعة ما هي إلا درجة تالية للحرية
الليبرالية؛ فأولاً الحرية ثم تأتي الشريعة بعدها.
وإذا كان الأمر متعلقاً بضرورة أو مرحلة، فإن الحرية لن تكون أولاً قبل الشريعة، بل
ستكون الشريعة هي المقصود والحرية وسيلة لها، وربما يظن بعض الناس أن الفرق هنا
يسير وقد يكون لفظياً ، وليس الأمر كذلك، بل الفرق عميق جداً وخطر على مفاهيم
الناس؛ لأنك حين تقرر أن الحرية أولاً، فمعنى ذلك أن هذه الحرية - بمفهومها
الليبرالي العَلماني - سابقة على الشريعة وأصل لها، وهي التي تجعل الشريعة مشروعة
وبإمكانها أن تزيلها كما أتت بها، وهذا خطأ بارز لا يتجرأ عليه آحاد الناس بينما
يقرره بكل وضوح بعض المنتسبين للدعوة الإسلامية!
وإذا كانت الحرية مما كفلته الشريعة؛ فكيف تكون قبل الشريعة؟ هذا إقرار ضمني بأن
الحريات ليست متوافقة مع الإسلام، بل هي مخالفة للشريعة منابِذة لها؛ فكيف يقال: إن
الحريات مما كفلته الشريعة، ثم يقال بعدها: إن الحريات سابقة على تحكيم الشريعة؟
هاتان نتيجتان متناقضتان وتربكان الوعي المسلم: فإما أن تكون الحرية شرعية ومما
كفله الإسلام فتطبيقه داخل في تطبيق الإسلام إذن ولا يصحُّ أن يقال: إنها سابقة
عليه، وإما أن تكون سابقة عليه، وبناءً على ذلك يجب أن يرفع الإسلاميون صوتهم
عالياً بحقيقة هذه الحريات المخالفة للشريعة، وأن يبينوا ذلك للناس.
ثمَّ لماذا نجعل الحرية قبل الشريعة؟ أما نجد في الإسلام وأصوله ومقاصده رؤية واضحة
ومحررة نقدِّمها حول الحريات؟ فبدلاً من تبنِّي المفاهيم الغربية ومحاولة ضغطها
وتملُّص الدلائل لأجلها، لماذا لا تكون دعوتنا إلى الشريعة وهي الكفيلة بحفظ حقوق
الناس وحرياتهم الدينية والدنيوية على أكمل وجه؛ فلها قوَّة النظام، ولها قوَّة
الضمير؟ ويقال مثل ذلك في أي راية أخرى تتبنى العدالة أو المساواة فبدلاً من
الاندفاع خلفها بدعوى أنها لا تنافي الإسلام، لماذا لا نجتمع على الإسلام نفسه ومن
خلاله تتحقَّق كلُّ هذه القيم والمبادئ.
وإذا كان الأمر متعلقاً بمرحلة مَّا فبإمكان إخوتنا أن يكوِّنوا في الوعي المسلم
مفهوم (التدرُّج في تحكيم الشريعة)؛ فهو يجعل
الشريعة قِبلَة لنا نسير إليها، وكلُّ مرحلة نعبرها فهي مرحلة في الطريق تنتهي حال
وصولنا إلى تلك الغاية التي نريد، بخلاف صنيعنا حين نقول: الحرية قبل الشريعة؛ فإنك
في الحقيقة لن تصل إلى الشريعة بتاتاً؛ بل ستقف عند عتبة الحرية وستكون هي الحاكمة
على الشريعة المفصِّلة لأحكامها، ومن العسير جداً على من يقرِّر الحريات بمفهومها
الغربي حتى تكون ضمنَ أولوياته وأساس أدبياته أن يعود بعد هذا ليقرِّر الأحكام
الشرعية بصفاء من دون أن يضغط على الأحكام التي لا تستقيم مع الحريات المعاصرة.
ثمَّ إن كان تحكيم الشريعة غير ممكن واقعياً في كثير من المجتمعات،
فهو ممكن على مستوى الوعي والمفاهيم عند الناس،
فلا أحد يحول دون أن يقدِّم المفكرون والعلماء والمخلصون رؤيتهم لأهمية تحكيم
الشريعة وأن يبصِّروا الناس بحقوقهم وحرياتهم التي تكفلها الشريعة وما تتميز به
الشريعة في هذا المجال، وأن يرسخوا في وعيهم أهمية مطالبتهم وتأكيدهم على حكم
الشريعة؛ فهذا مجال متاح وممكن؛ فلماذا يغيب دوره عند كثير من الإسلاميين؟ ومما
يؤسف له أن الليبراليين والعلمانيين يقدّمون رؤاهم الفجَّة في مصادمة الشريعة
ومخالفة قطعياتها مع معرفتهم أنها ليست ممكنة في الواقع ولا عند الناس لكنهم يدركون
أن وعي الناس يمكن أن يتغير مع الزمن.
إن الإشكالية التي نراها بوضوح الآن أن المفاهيم الصحيحة للشريعة بدأت في التشويش
لدى كثير من الناس في مجتمعاتنا المسلمة، وأصبح بعض روَّاد الخطاب الإسلامي يقدِّم
لجمهوره مفهوم الشريعة بحسب ما هو ممكن له سياسياً وليس بحسب حقيقة الشريعة في
الأمر نفسه، وهذا تحوُّل خطر سيؤدي إلى تغييب كثير من الناس عن حقيقة دينهم وحلول
مفاهيم باطلة محل المفهوم الشرعي الصحيح، وحينها سيكون دور الإصلاح أصعب بمراحل
كثيرة؛ فإذا كان الإسلاميون قد شاركوا لأجل إصلاح السياسة في مرحلة سابقة حتى تكون
على وَفْق ما يريد الناس، فإنهم في المرحلة القادمة سيحتاجون لإصلاح مفاهيم الناس
وهي مرحلة أصعب وأعقد.
إنه من المهم جداً أن يحصل الفصل بين (الضرورة) و (الأصل)، وأن يعي الإسلاميون أن
دورهم الحقيقي هو في قيادة المجتمعات المسلمة نحو التحكيم الحقيقي للإسلام؛ كما
يريده الله ويريده النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستفيدوا من الواقع لأجل الوصول
إلى هذه النتيجة وأن يهيئوا الأسباب لذلك، ولا يجوز أن يكون دورهم شرعنة ما هو
موجود، والحكم بإعدام كلِّ مفهوم لا يمكن أن يطبقوه، بل لهم اجتهادهم في المجال
السياسي، وعليهم أن يبذلوا إصلاحاً آخر في تصحيح مفاهيم الناس أو على الأقل أن لا
يفتحوا خصومة مع من يفعل هذا؛ لأن إصـلاح وعي النـاس هو الكفيـل بأن يطالبـوا في ما
بعد بحكم الشريعة وأن يقفوا ضدَّ أي تيـار يرفضـه، وهو ما يحقق العودة إلى حكم
الشريعة.
وحين يقال هنا بأن الناس لا يريدون تطبيق الشريعة الآن وغير مهيئين له وأن الدعوة
المقبولة هي الدعوات التي يتفق الجميع عليها، فهذا في الحقيقة مما يزيد أهمية
العناية بالشريعة ويعلي من ضرورتها في المرحلة الحالية؛ ضرورة أن يعتني الدعاة
والمصلحون بإصلاح دين الناس وسلوكهم ومفاهيمهم، وبتعظيمهم لله ولرسوله صلى الله
عليه وسلم، وبإصلاح عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم لتكون على ما يريده الإسلام منهم؛
حتى يكونوا أشدَّ مطالبةً وتمسُّكاًَ بتحكيم الشريعة؛ فهذه حالة تستدعي مزيد عناية
بأمر الشريعة لا إعلان التخلِّي عنها إلى مرحلة قادمة وغيب مستقبل، وتلحُّ على
ضرورة العناية بتقرير وتوضيح المفاهيم الشرعية الصحيحة؛ حتى ترسخ في وعيهم
وضمائرهم، وأي محاولة أو سعي لتأويل الأحكام الشرعية وتغيير الصورة الصحيحة للشريعة
فما هي إلا عامل إضعاف لإعادة المجتمعات المسلمة إلى حكم الشريعة ونظام الإسلام يجب
الوقوف في وجهه بكل قوة وعزة؛ فالمطلوب السير بالمجتمعـات نحو الشـريعة وليـس
توجيـه الشريعة لتسير نحو ما عليه المجتمعات المعاصرة.
إنها دعوة لأنفسنا وإخوتنا ولجميع المسلمين بأن يطالبوا بعودة نظام الإسلام في كلِّ
أحكامه وتشريعاته، وهي دعوة إيمانية نجد في نفوسنا ضرورة لها؛ لأنَّها لازمُ
الإيمان وثمرته؛ فمقصودها تحقيق مراد الله والسعي لمرضاته، وهي واجبة على الجميع،
وليست هي راية حزبية لتجميع الناس على أهداف ومقاصد ضيِّقة، وليست شعاراً سياسياً
لتحقيق أهداف شخصية عاجلة، أو لأجل تجميع الأنصار، أو للتلويح بها تخويفاً لأمم
الشرق والغرب.