• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العمل الخيري المعاصر.. اجتثاث الفقر أم تكريس له؟!

العمل الخيري المعاصر.. اجتثاث الفقر أم تكريس له؟!


كتبت منشوراً على موقع فيسبوك أشرت فيه إلى ما يصاحب العمل الخيري خاصة في الأزمات الطويلة، من مشكلة خلق أمة من الكسالى والمتعيشين على الصدقات ومشاريع الإغاثة، وكان هذا نص المنشور: «إن مما ينبغي على المؤسسات الإسلامية العاملة في المجال الخيري؛ أن تعالج بعض الظواهر السلبية التي قد تصحب العمل الخيري كالاتكالية والكسل الناتج عن تلقي المساعدات بشكل متكرر من قبل المستفيد، وقد يقتل العمل الخيري روح العمل ويعوّد المستفيد الأخذ أكثر من العطاء، ونكون بهذا صنعنا أمة من الكسالى والمتعيشين على أموال الصدقات من حيث أردنا الخير، ولهذا فالاهتمام بالمشاريع الخيرية التي تكسب المستفيد مهنة وصنعة يعتاش منها، مع وضع برامج توعوية معالجة لهذه الظاهرة وغيرها من الظواهر التي تستوطن مجتمعات الفقر والعوز؛ لهي أولى من العطاء المادي المجرد».

 فراسلني من أُعزه وأشار بضرورة توسيع المنشور وإضافة أمثلة ونماذج تقرب المعنى المراد أكثر، وقد لقي حديثه عندي رغبة فكان هذا المقال، الذي أرجو أن يكون فاتحة لدراسة هذه المشكلة بشكل خاص ومعالجة آثارها من قبل الباحثين في العمل الخيري المعاصر، ويمكن أن نعرض لموضوع المقال في جملة من المدخلات الرئيسة:

المشكلة: سيطرة النمطية الإغاثية لا النمطية التنموية:

«إن ضعف التحول في العمل الخيري من الإغاثة إلى التنمية في الأزمات الطويلة ينذر بتكريس أثرين خطيرين، الأول: نشر ثقافة التسول الخفي فعندما يعتاد الناس استقبال المعونات المالية والعينية بشكل دوري ولمدة طويلة؛ فإن هذا يسهم في نشر الخمول وصناعة الكسل وتكريس مفهوم التسول غير الصريح، مما ينذر بخطر جسيم يتهدد المجتمع بعد انجلاء الأزمات أو انقطاع الداعم. الخطر الثاني: الإبقاء على الفقر، فالغاية من العمل الخيري أصلاً هي اجتثاث الفقر والقضاء عليه، وتحقيق عوامل الاكتفاء الذاتي للمستفيد، غير أن استمرار الجمعيات الخيرية في لعب دور «ساعي البريد» بين الغني والفقير - جمع التبرعات وإعادة توزيعها - لا يمكن أن يحقق الغاية من العمل الخيري»[1].

العمل الخيري المدني:

القارئ للسيرة والهدي النبوي في طبيعة معالجاته الواعية لمشكلة الفقر، يلحظ اتسامها بميزات خاصة تعطينا كشفاً لحجم الاختلالات التي يعاني منها العمل الخيري اليوم، ونتائجه المعاكسة للمقاصد الشرعية في مسألة البذل والعطاء، ويمكن أن نشير إلى بعض تلك السمات في معالجة مشكلة الفقر في العهد المدني:

ابتداء فإن السياسة النبوية العامة في العمل الخيري هي اجتثاث الفقر وتحويل الفقراء إلى ميسوري الحال ومن عاطلين إلى عاملين، ولتحقيق كل ذلك كان الخطاب الإصلاحي النبوي يحرّض على العمل ويحذر من التسوّل ويتخذ الإصلاح الشامل طريقة لتحجيم الفقر ومكافحته، وقد روى البخاري عن الزبير بن العوام عن النبي صلى الله عليه وسلم  قوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه»، كما قال صلى الله عليه وسلم : «ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده»، وفي هذه الأحاديث إشارة غير ظاهرة إلى أن يتوجه العمل الخيري إلى إعانة الفقراء بمشاريع عمل استثمارية دائمة لا صدقات لا تسمن ولا تغني من جوع.

وحتى الأحاديث التي وردت في كفالة اليتيم والأرملة والمسكين والضعفاء، حُصر فهمها من الناحية العملية اليوم في مجرد النفقة المالية المجردة من أي تأهيل للمستفيد لسوق العمل، فكفالة اليتيم لا تعني حصراً دفع مبلغ شهري أو سنوي ليقتات عليه، بل المعنى الأقرب للمقصد الشرعي بالإضافة للإنفاق المالي المباشر تعليمه وتدريبه وتأهيليه نفسياً ومهارياً ليكون قادراً على كفاية نفسه ونفع ومجتمعه، لا تعويده على التعيش من أموال المحسنين.

مظاهر تكريس الفقر في العمل الخيري:

للفقر من حيث المؤدَى التصاق بمعاني القهر والجهل والذلة، وإن الناظر في سلوك الداعمين والمؤسسات الوسيطة في تنفيذ العمل الخيري، يجدها لا تتعرّض في معالجاتها لنتائج وآثار الفقر بل تكتفي بإنفاق مالي يسير لا يكاد يشبع بطناً فضلاً أن يغير حياة إنسان باتجاه الإنتاج والعطاء، ويمكن أن نلخص مظاهر تكريس الفقر في كثير من ممارسات العمل الخيري اليوم في ثلاثة مظاهر:

غياب مشاريع الإغناء:

جل المشاريع التي يتم تسويقها اليوم من طرف المؤسسات الخيرية تكاد تنحصر في تقديم الإعانات المالية والغذائية المؤقتة التي لا يتجاوز العمر الزمني للإفادة منها الشهر غالباً، مما يجعل المستفيد في حاجة دائمة نظراً لأن مشكلته الأساسية لم تعالج، وهي أنه عاطل عن العمل أو أنه غير مؤهل لسوق العمل، أو أنه بحاجة إلى رأس مال يفتتح به سبباً للرزق، ينقله من الحاجة الدائمة إلى الاكتفاء الدائم بل والعطاء.

 مشاريع تعالج النتيجة لا السبب:

قد يكون الفقر المالي والعوز نتيجة وليس سبباً أولياً عند المستفيد، فالفقر قد يكون نتيجة للجهل وقد يكون نتيجة لتصور خاطئ يحبذ الفقر ويراه زهداً مطلوباً، وقد يكون نتيجة لضعف الإرادة والكسل، وقد يكون نتيجة لعدم توفر فرص عمل مواتية، وقد يكون نتيجة لسوء التدبير والإسراف، فالصحيح أن يتوجه العلاج نحو السبب ابتداء لا النتيجة المتمثلة في الحاجة إلى المال، والعلاج الواعي هنا هو دراسة مجتمع المحتاجين والبحث في خلفية وأسباب هذا الفقر عندهم ومن ثم معالجته، فإن كان المحتاجون مثلاً من النساء الأرامل فسبب فقرهن أو حاجتهن موت المعيل الذي كان سبباً في كفايتهن، فهنا قد يكون العلاج في تيسير تزويجهن أو تعليمهن وتدريبهن على مهنة تناسبهن، لا مجرد إعطائهن مبلغاً شهرياً من المال إلى أن يوافيهن الموت! فنكون بهذا قد عالجنا سبب الفقر لا نتيجته.

 التوازن الغائب:

لا شك أن الأزمات والكوارث الطارئة تتطلب إغاثة عاجلة قد يكون من سماتها تحقيق الإشباع لا الإغناء، كما أن ما يحل ببعض الأفراد من مرض مفاجئ أو مشكلة طارئة حلها يكون في المال المجرد، وهو ما يسمى في التصور الإسلامي «بتفريج الكرب»، وهذه لها خصائصها وسياقاتها الطبيعية، لكن المستنكر أن تتحول مشاريع الإغاثة ذات السمة المؤقتة إلى صبغة عامة للمشاريع الخيرية، فهذا يعني غياب التوازن في معالجة الفقر وضعف التفريق بين درجاته وأنواعه وحالاته، غياب التوازن هذا أيضاً يتمثل في طبيعة الإنفاق على بعض المجالات الخيرية دون بعض، إذ نشهد مثلاً كثافة في كفالة الأيتام وقد تجد اليتيم الواحد مكفولاً عند ثلاث جهات خيرية في نفس المدينة، ولو وجه المتبرع والمؤسسات الدعم لمجالات أخرى قد تكون أهم ككفالة طلبة العلم من روّاد المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث ممن يتعدى نفعهم إلى عموم المجتمع لكان هذا هو الفقه، والقصد ليس التقليل من أهمية كفالة الأيتام أو نحوها من مجالات الخير إنما القصد الإشارة إلى أهمية التوازن وضرورته في مختلف مجالات العمل الخيري.

 أسباب المشكلة:

لكل مشكلة أسبابها، والمشكلة التي نحن بصددها تتلخص في كون العمل الخيري أشبه بعملية طبية طارئة هدفها إزالة الألم بشكل مؤقت وقصير عن المريض لا علاجه بشكل كلي، وهذه المشكلة في العمل الخيري لها أسبابها ومبرراتها بطبيعة الحال، وهذه الأسباب والمبررات تحتاج إلى معالجات جادة من طرف القائمين على العمل الخيري كونها تشكل في الوقت نفسه تحديات يجب تجاوزها ليحقق العمل الخيري هدفه الذي من أجله وجد، وتتلخص أهم هذه الأسباب في جملة نقاط أهمها:

 الداعمون:

غالباً ما يشترط الممول سواء كان فرداً أو جهة دعم مجالاً معيناً من أبواب الخير وبطريقة هو يحددها، واختيار مجال التمويل من طرف الداعم في معظمه لا يتم عن دراسة ميدانية لمجتمع المستفيدين بل عن رغبة وميول نفسية، أو لأسباب أخرى كتجربة ومعاناة خاضها، أو لتأثره بآية أو حديث أو رأي يحثه على الإنفاق في مجال معين، والصحيح أن يكون اختيار العينة المستفيدة مع طريقة دعمها محل تشاور بين الداعم والجهة المنفذة ويكون ذلك قائماً على دراسة شاملة عن المجتمع المستفيد من هذا الدعم.

 المؤسسات الخيرية:

تلعب المؤسسات الخيرية دوراً مهماً في تحديد المجالات الخيرية المطلوب دعمها وإسنادها، كما تلعب الدور الأبرز في اختيار طرائق تحقيق تلك الاستفادة للمحتاجين، غير أن الحاصل أن كثيراً من المؤسسات أصبحت «مقاولاً منفذاً» لرغبات الجهات المانحة، لا تملك من أمرها غير التنفيذ والخضوع لجهل بعض الجهات المانحة دون محاولات إقناع المانحين بالشكل الأفضل لتقديم المساعدات، بطريقة تضمن الإغناء لهم لا مجرد الإشباع، وهنا تظهر أهمية التنسيق بين المؤسسات العاملة في المجال الجغرافي الواحد لتحديد مجالات العمل الخيري التي لها الأولوية في تلقي الدعم، وفقاً للفترة الزمنية والمكانية التي يمر بها المجتمع وطبيعة قائمة الحاجيات الملحة التي تفرضها ظروف ذلك المجتمع وما يمر به من أزمات.

   الخطاب الخيري القائم:

حين يطرق الخطباء والكتاب موضوع العمل الخيري من الناحية الشرعية، فالحاضر بكثافة في خطابهم هو نماذج خيرية من القرآن والسنة النبوية وفعل سلف الأمة، تصب جلها في البذل المالي المجرد بقصد تحقيق الأجر عند الله، وهذا حسن غير أن الأحسن منه تقليب النظر في المقاصد الشرعية من تشريع العمل الخيري، والنظر في مختلف زوايا التصور الإسلامي حول العمل الخيري وطرائقه وغاياته وتاريخه، وما يهدف إليه من اجتثاث للفقر من حياة الأفراد وحياة المجتمع، وليس مجرد تسكينه أو تهدئته لفترة زمنية معلومة، ففقه العمل الخيري عند القائمين بفعل التوجيه الشرعي يحتاج إلى تنشيط وتوسيع؛ لنخلق في المجتمع ثقافة خيرية شرعية تستوعب الفكرة الأصلية من العمل الخيري، والتي تتلخص في أن العمل الخيري وجد لاجتثاث الفقر وأسبابه وأعراضه ونتائجه وأمراضه، لا لتسكينه وتوطينه.

كانت هذه أبرز الأسباب وكل سبب منها يتضمن تفاصيل وتفريعات جمّة لا يسع المقال هنا لبسطها خشية الإطالة، لكنها إشارة أردنا بها لفت نظر المختصين من الباحثين إلى توسيعها والغوص في جوانبها لعل ما يقدمونه يكون مرشداً لقطاع العمل الخيري وموجهاً له.

أفكار تقريبية لاجتثاث الفقر:

حتى تتضح الصورة للقارئ ولا يظل حديثنا كما جرت عادة الكتاب في طرق العموميات الفارغة من أي أمثلة تطبيقية يسهل استيعاب الفكرة من خلالها، فهنا نشير إلى أمثلة ثلاثة لما يمكن أن يحدثه العمل الخيري في صورته البسيطة من اجتثاث للفقر في من حياة الأفراد، وعلى بساطة هذه الأفكار والأمثلة وسهولة استحضارها في الذهن إلا إنها تكاد تغيب في ممارسة العمل الخيري:

   كفالة الأرامل حتى الموت:

جرت العادة في المؤسسات الخيرية وعند الداعمين أن يسلم مبلغ شهري للأرملة، تعيش به وتنفق على نفسها وأولادها منه، وهذا للأسف يجعلها في حاجة دائمة لجهة داعمة، ومع مرور الزمن تكون قد اعتادت على «التسول الخفي» المتمثل في الحصول على المال دون بذل جهد يذكر، والصحيح أن ينظر في مقدار المبلغ الكلي الذي خصصه الداعم لها خلال فترة سنة أو سنتين، ثم ينظر في ما يمكن أن يناسبها من عمل يليق بعمرها وما تملكه من قدرات، فُيفتح لها مشروع خياطة أو توفر لها الأدوات الأولية لصناعة الأطعمة والحلويات وبيعها، أو أن يشترى لها حاسب آلي تعمل على برامجه ويكون سبب رزق بالنسبة لها، ويمكن أن تدرب على صناعة البخور والعطور وبيعها، وإن كانت في الريف فينظر ما يناسبها من المشاريع الصغيرة، وتدرب على كل ذلك إن لم تكن متقِنة، وبهذا حققنا لها مهنة تعتاش منها حتى الموت، واجتثثنا الفقر من حياتها برؤية إصلاحية تتجاوز مسألة العطاء المالي.

   توزيع الزكوات.. آليات مفقودة:

الملاحظ أن كثيراً من التجار والميسورين ممن وجبت عليهم الزكاة يخرجونها بطريقة عشوائية، فلو افترضنا - وهو الواقع - أن مؤسسة أوكل إليها توزيع زكاة مال مقدراها 100 ألف، فإن الآلية المتبعة غالباً أن يوزع هذا المبلغ في المتوسط على مئة ومئتي ريال للمحتاجين، فيكون متوسط عدد المستفيدين من هذا المبلغ نحو 600 مستفيد، والذين سيعودون بعد أسبوع من استلام هذا المبلغ إلى مربع الفقر والحاجة، ومع كثرة تكرر العطاء والأخذ يكون المحتاج قد ألفت نفسه هذا وتسربت في دواخلها معاني «التسول الخفي»، ولو أن هذا المبلغ وُزع على 50 فرداً لكان من حيث النفع أدوم وأبقى، فقد يرمم به المستفيد بيته، أو يعف بالزواج نفسه أو يعلم به ابنه، أو يكون له رأس مال لمشروع صغير يكفي به نفسه، وبهذا اجتثثنا الفقر أو خففناه من حياة 50 فرداً وحولناهم إلى منتجين لا آخذين.

   مشاريع الإغناء الغائبة:

ستجد في الملفات التسويقية لكثير من المؤسسات الخيرية كل ما يخطر في بالك من مشاريع الخير، لكنك لن تجد في غالبها مشاريع تدعم الاكتفاء الذاتي للمحتاجين، فلن تجد ملفا تسويقياً لفتح مشروع لأسرة فقيرة تعتاش منه، ولن تجد فيه مشروعاً يتحدث عن دعم التدريب المهني والفني لأبناء الأسر الفقيرة، كما أنك لن تجد فكرة عن دعم تعليم أبناء الفقراء عبر تدريبهم في مجالات تعليمية تشكل لهم سبباً للرزق يعتاشون منه ويكملون تعليمهم بسببه، لماذا هذا الغياب ولو على مستوى الأوراق في تلك المؤسسات؟! هل هذا ليس من أبواب الخير وأفضلها التي دعا إليها الإسلام، أم إنها أعمال خيرية من الدرجة الثانية؟! أظن أبرز مبرر يمكن أن يقال في هذا أن الممولين يميلون عنها إلى ما سواها، وهذا صحيح وهو تحد حقيقي وعقبة متكررة أمام العمل الخيري بصورته الصحيحة، وهنا يأتي دور تلك المؤسسات والدعاة والمصلحين في توعية الممول بهذه المشاريع وتبيين فضلها ونتائجها وثمراتها على المستفيدين.

هذا ما تيسر قوله ورغبنا بالبوح به ومشاركته، وخلاصة القول إننا بحاجة إلى فقه العمل الخيري وترشيده وتطبيق الأسس العلمية المعاصرة في ممارسته؛ حتى يؤتي هذا القطاع الضخم في الأمة ثمرته ولا يضيع بسبب عشوائية الإدارة وضعف الوعي به وبطرائق إدارته، ويمكن أن ينظر من أجل هذا تاريخ العمل الخيري للأمة خلال القرون الماضية ويدرس من ناحية تأريخية، كما سيكون من المفيد جداً الاطلاع على تجارب الأمم المعاصرة في العمل الخيري من غير أهل الإسلام، وكيفية إدارتها لقطاعات العمل الخيري وإفادتها منه.

 


 


[1] بتصرف يسير من مقال: مشكلات منهجية في العمل الخيري خلال الأزمات الطويلة، موقع الجزيرة.

أعلى