مرآة الثقافة وإطلالة أجمل
الحمـد لله ربِّ العـالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
تُعدُّ معارض الكتاب من المناسبات الثَّقافيَّة التي تُفاخر بتنظيمها أكثر البلدان، ويقام معرِض للكتاب في جميع البلاد العربيَّة باستثناء بلدين اثنين، بسبب اضطراب الأول، وفقر الثاني. والله المسؤول أن يرفع الضَّرَّاء عن جميع بلدان المسلمين، ويعيد لها الأمن والحكم الشَّرعي العادل.
ومع أنَّ عمر بعض المعارض العربيَّة تجاوز أربعين عاماً، وبعضها الآخر يسير على المنوال نفسه، إلاَّ أنَّ المتابع لا يجد فيها إضافات نوعيَّة متميزة في كلِّ مرَّة، وقد يعود ذلك إلى أنَّ غالب اللجان المسؤولة عن المعارض لجان معمِّرة كأكثر السَّاسة العرب، وهي في أحوال كثيرة ذات فكر واحد، وتفتقد التَّنـوع الإيجابي؛ فلا يوجـد فيها - مثلاً - عالم بالشّـَريعة، ولا خبير في التَّربية أو علم الاجتماع، فضلاً عن غياب أرباب صناعة الكتاب، ومن ثَمَّ يَقِلُّ الإبداع. ويكرِّر القائمون على المعرِض التَّجربة الماضية دون إحداث ما يمكن الإشارة إليه من تطوير أو تجديد خشية العناء، وتحاشياً للانصياع إلى رغبات القُّرَّاء التي قد تخالف رغبات صُنَّاع القرار، والأصل أن يكون المعرِض مرآة لثقافة المجتمع وقيمه.
ويبدأ المعرِض وينتهي دون أن يعلم روَّاده عن أكثر الكتب مبيعاً، أو أكثر الدُّور نشاطاً، ولا يدري أحد ما هو الكتاب الذي استحوذ على اهتمام الرجال؟ وإلى أيِّ الكتب تنصرف عناية النِّساء؟ وماذا عن مستوى الإقبال على كتب الأطفال؟ وأمَّا الكتب التي صاحب بيعَها اعتراضُ أفراد أو مؤسسات فقضيَّة لم تخطر على بال المنظِّمين. والأسئلة المشروعة كثيرة في هذا الباب، وهي جديرة بأن تكون محلَّ رعاية وإحاطة من قِبَل إدارات المعارض؛ ليتداركوا ما فات في قابل الأيام، وينأوا عن تكرار الأخطاء مرَّة أخرى؛ حتى تكون النُّسخ الجديدة من المعارض أفضل من سابقتها، وحتى يكتسب المسؤولون عنها مهارة متكاملة في صناعة معارضَ باهرة للكتاب والثَّقافة.
وفي مثل هذه الإحصاءات وقوفٌ صريح على الفكر الحي الذي يروم النَّهل منه جمهورُ القُّرَّاء والمثقفين، وبيانُ الفكر الذي يترنَّح استعداداً للموت أو الإغماء الطَّويل بسبب هجرانه من القارئ النَّابه؛ لأنَّ ارتقـاء وعي جمهـور الكتاب أمر يحول دون الانقياد للتَّهويل الإعلامي، أو الوقوع في أسره الشَّنيع وإنْ ملأ ضجيجه ما بين الخافقين؛ فكم من صوت عالٍ وهو نشاز مستقبَح، وكم من صوت هادئ وهو غاية ذوي الألباب ومطلوبهم؟
ويصاحِب معارض الكتاب أحياناً أحداثٌ ثقافيَّة مؤسفة، من جنس منع الكتب الدِّينيَّة لأسباب لا تتعلَّق بغلطٍ في علومها، أو عدوان على الشَّريعة وأمن المجتمع في مضمونها، وإنِّما بسبب أسماء مؤلفيها وخلفياتهم العقديَّة والفكريَّة، مع أنَّهم - نحسبهم والله حسيبهم - متَّبعون مقتدون غير مبتدعين ولا منحرفين، وإنِّه لأمر جَلَل أن يتجاسر مسؤولٌ على حجب كتب أئمَّة أعلام كابن باز والألباني وابن عثيمن وغيرهم، ويعظُم الخطب علينا ونحن نسمع جعجعة هذا المسؤول وموظفيه حول الحرية واحترام الآخرين وآرائهم وفضيلة العقل المفتوح، ويزيد السُّوء قبحاً فَتْحُ الباب على مصراعيه لكتب تهدم الدِّيانة والأخلاق الكريمة، وهذا من الاستهانة الفجَّة بعقول النَّاس، والإزراء الكبير بوعيهم وفهمهم. ومن المضحكات في هذا الموضوع أنَّ بعض مَنْ يفحص كتب علماء الملَّة ليس له بَصَرٌ بالكتاب والقراءة فضلاً عن العلم والفقه؛ فاللهمَّ لا تجعل أمر المسلمين إلى جهالهم وأسافلهم.
ومن التَّلبيس على العامَّة ما تفعله بعض وسائل الإعلام من التَّرويج لكتبٍ ورواياتٍ غاصَّةٍ بالمخالفات الشَّرعيَّة؛ فتحظى الرِّواية التي لا قيمة لها من النَّاحية الفنية بكمٍّ هائل من المقالات والتَّحليلات واللقاءات، وتُعرَض الكتب المليئة بالدَّس على الشَّريعة ولمز رجالاتها وكأنَّها خالية من الخطأ الفاحش والملاحظة البيِّنة، ومع هذا الغشِّ الثَّقافي فهم لا يفسحون المجال للرَّأي الآخر حول هذه الكتب التي يطبِّلون لها في وسائلهم التي أضحت سوقاً لانتقاص عقل المسلم واتِّهام ذائقة القارئ البصير.
ولا تبخس هذه الملحوظات كونَ تلك المعارض فرصة في اجتماع النَّاشرين، وفي أسعار الكتب، ويَحسُن بالقارئ النَّهِم اغتنامها حتى تعود عليه بالمصلحة في أمر دينه ودنياه. ومن الاستثمار الأمثل لمعارض الكتاب أن يزورها الواحد بعد إطلاعه على دليل المعرِض إن وُجِد، ويكون قد دوَّن ما يحتاجه من عناوين أو موضوعات، ويضم إليها عناوين الكتب التي راقت له ولم يجدها في مكتبات بلده، ثم يختار أنسب الأيام له لزيارة المعرض، وإن اصطحب مَنْ يعتنى بتربيته وتقريبه إلى عالم الكتاب فحسن. وعليه أن ينظر في الكتاب نظر الشَّحيح قبل شرائه؛ فبعضها لا يخلو من عيوب طباعيَّة، ومنها ما له عنوان جذَّاب ومضمون خراب، وفيها مجرَّد نقولات لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، وبعضها كتبُ فتنة في الدِّين بشبهاتها أو شهواتها؛ والسَّلامة السَّلامة في الابتعاد عنها إلاَّ ممن كان ذا اختصاص وقدرة على التَّعامل مع باطلها الذي يُشَّوِّش العقل أحياناً، ويضرم نيران الشَّهوة أحايين أُخَر.
ومن الفرص السَّانحة في معارض الكتاب مزامنة إصدار الكتب معها، وأن يتولى العلماء والكتَّاب التَّعريف بالكتب النَّافعة قبيل ابتداء المعارض، حتى يعلم عنها القُّرَّاء والمثقفون؛ ويقتنوا نُسَخَهم منها قبل نفادها، وفي الحديث الصَّحيح عند مسلم: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً». وفي التَّعريف فوائد أخرى؛ كتسلية المؤلف والثَّناء على جهده مع بيان مواضع الخلل في الكتاب ومواطن الضعف فيه، واقتراح ما يمكن إضافته في طَّبعات جديدة. ومما يُتاح في المعارض إصدار بعض الكتب التي يجدر ألاَّ يخلو منها بيت بطبعات شعبية يكون سعرها في متناول اليد، وكذلك الالتفات إلى كتب الأطفال تأليفاً وطباعة وعَرْضاً؛ لأنَّ ثقافة الطِّفل صارت مرمى لبعض أصحاب التَّوجهات الفكريَّة المريبة، وحرام علينا ترك أطفال المسلمين في أيدي مَنْ لا يُؤمَن على عقول الكبار وأخلاقهم، بَلْهَ النَّاشئة والصِّغار.
ونَشْر الرِّواية الماتعة السَّليمة في معارض الكتاب يُعدُّ مجالاً خصباً يمكن استثماره وتفعيله؛ فنحن في زمن أقبل فيه الشَّباب فمَنْ فوقهم على قراءة الرِّوايات حتى صارت حديث الصُّحف والمجالس، وإنَّ في كتَّاب الرِّواية مَنْ يستطيع المنافسة بقوة في هذا الحقل الأدبيِّ الجذاب؛ دون مساس بثوابت المسلمين وقيم المجتمعات؛ فتقرأ الفتاة في خدرها والشَّاب في خلوته هذه الرِّوايات دون أدنى وجل من الآباء على عقائد أولادهم وأخلاقهم. ومن الكتب التي يوصي الخبراء بنشرها لأثرها المتيَّقن في شباب الأمَّة الكتب الثَّقافية العامَّة المنطلقة من وجهة نظر أصيلة غير دخيلة؛ فقراؤنا من الجنسين يتطلعون لاستجلاء النَّظرة الإسلامية عن كثير من القضايا التي تُلِح على أذهانهم: كالاستبداد، والحرية، وثقافة الحقوق، وشؤون العمل، والمذاهب الفكرية، ومسائل الإعلام، وقضايا التَّنمية، وبعض أبواب الاقتصاد والسياسة... وغيرها، فيا حبَّذا أن ينهض ذوو الاختصاص لمثل هذا المشروع الثَّقافي الكبير كما نهض أوائلهم لنفع الأمَّة ورفع الجهل عنها، وكم ترك الأول للآخر.
والتَّرجمة إلى اللغة العربية من المجالات التي تفيد أمتنا، وقد نالتها يد التَّقصير والإهمال، مع كثرة مَنْ يستطيعها من الرِّجال والنِّساء؛ فنحن نحتاج إلى ترجمة كتب الصَّيدلة والطِّب والهندسة والزِّراعة والفلك وعلوم الإدارة والتَّقنية وأيِّ علم يمكن أن يفيد أجيال النَّاطقين بالعربيَّة دون أن يشتمل على آراء تخالف النُّصوص الشَّرعيَّة المقدَّسة، أو خرافات لا يصدِّقها العقل. وإنَّه لأمر مؤسف أن تنصرف همَّة بعض المسلمين لترجمة كتب أدبيَّة وعلوم إنسانيَّة مليئة بالإشكالات المنهجيَّة والقصور في المعلومات؛ فضلاً عن أنَّ تراث أمتنا غني عنها بما حواه واحتواه من كنوز لا يزهد فيها إلاَّ جاهل بها أو متحيِّز إلى فئة بُغيَة العزَّة، ولله العزَّة ولرسوله وللمؤمنين. ومن المتعيِّن على المترجمين: الحذر البالغ من تصيير المكتبة الأجنبية مصدراً أعلى للمعرفة في أذهان الشُّبان والشَّابات خاصَّة في الحقول الإنسانية.
ومن الأفكار التي قد ترفع من القيمة الثَّقافية لمعارضنا: تسهيل بيع المكتبات الشخصيَّة؛ فكم من عالم أو أديب ترك بعد وفاته مكتبة حافلة، ولم يوصِ بها لمؤسسة علميَّة، وليس في ورثته مَنْ يعتني بأمر الكتب وشأن الثَّقافة، فتضيع غالباً بسبب الإهمال وعوامل الزَّمن، أو تُباع دون أن يعلم عنها الكثيرون ممن يرغبون في شراء شيء من كتب هذا الكتبي الرَّاحل. ومما يجدِّد في معارضنا وَضْعُ أركان متجاورة لذوي الاحتياجات الخاصَّة الذين ابتلاهم الله بفقد حاسَّة أو أكثر، فلهم حقٌّ ثقافي على مجتمعهم كي لا يُحرموا متعة تصفح الكتب، وقد ساعدت التَّقنية الحديثة في هذا الباب وأبدعت ما يُعيْن هذه الفئة المتكاثرة عددياً على اللحاق بركب أخوانهم الذين امتنَّ الله عليهم بالمعافاة.
ويستطيع النَّاشرون اهتبال فرصة إقامة المعارض لتقليب أوجه النَّظر في مشكلات النَّشر والتَّسويق، وتداول الحلول المقترَحَة مع أصحاب الشَّأن من ملاَّك المكتبات التِّجارية وجمعيات النَّشر الإقليميَّة وممثلي وزارات الثَّقافة. ومن الأفكار التي يناسب طرحها أثناء الحديث عن معرض الكتاب: إقامةُ معرِض سنوي لكتب العلوم الدِّينية واللغوية والتَّاريخية في مكَّة أو المدينة النَّبوية - حماهما الله - على أن يكون موعده الثَّابت في شهر رمضان أو أشهر الحج، وتتولى رعايته إحدى الجامعات هناك، وكم من الفائدة ستعود على الحجَّاج والمعتمرين والزُّوار، وهم ينعمون بأداء النُّسك، والجوار الشَّريف، ويتقلَّبون بين مختلف الفنون والكتب!
والدَّعوة إلى الله على بصيرة من أجلِّ الأعمال وأوجبها، وبما أنَّ كبرى المدن العالميَّة تحتضن معارض ضخمة للكتاب، وقد يكون مجال العرض فيها أرحب من بعض معارضنا العربية؛ فليت أنَّ المنظَّمـات الإسلامية الدولية تتعاون مع المكتبات التِّجارية والمؤسسات الدَّعوية لتأليف وطباعة ونشر كتب دعوية بلغات مختلفة، تخاطب الشُّعوب حسب الطَّريقة التي يفهمونها؛ دون تميُّع أو تنازل عن الثَّوابت؛ حتى تكون تلك المعارض فرصة للدَّعوة وإنقاذ الخلق من النَّار، أو تصحيح تصوراتهم المغلوطة عن ديننا وكتاب ربِّنا ونبينا، عليه الصَّلاة والسَّلام، ولعلَّ هذا الأمر لم يغب عن فطنة الفضلاء العاملين للإسلام، ولعلَّهم أن ينشطوا له. وفي المشاركة بالمعارض الدَّولية اكتساب لخبرة متوافرة لدى الآخرين، وفرصة لنقل المناسب من تجاربهم.
وإنَّ سوق الكتاب ومعارضه السَّنوية مناسبة ثقافيَّة رائعة، يهَشُّ إليها أولوا العلم والفكر والمثقفون لإمتاع عقولهم، وزيادة معارفهم، وتقريبهم من تحقيق أهدافهم التي يرومونها في الدُّنيا والآخرة، وكم يتمنَّى النَّاصحون أن تكون هذه المعارض فرصة لإظهار الحق ونشره؛ وليس وسيلة لتمكين الباطل والتَّمادي فيه. ولا بد أن يعيَ مسؤولو المعارض أنَّهم يخاطبون أمَّة لها دين قويم، ولغة ثريَّة، وتاريخ مجيد، ومستقبل مشرق موعود؛ ومن العقوق أن تتجاهل إدارات المعارض مكوِّنات الأمَّة الثَّقافيَّة في سوق العلم والمعرفة، ومن العار أن تنقض بعض معروضاتنا عُرى وحدةِ المجتمع وتماسك أبنائه واجتماع أطرافه التي يأتي على رأسها الدِّين الإسلامي الحنيف.