الكنيسة تقود أوربا
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
في لقاء حاشد لزعماء دول الاتحاد الأوربي وقف البابا فرنسيس الأول يتوسط ملوك أوربا
ليبعث رسالة إلى العالم أجمع بأن روما لا تزال في قلب الحدث، بل لا تزال في قلوب
قادتها.
وقد وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاتحاد الأوربي بأنه تحالف صليبي.
ليس العجيب في الأمر أن تجتمع أوربا بهذه الصورة المسيسة، فقد سبق أن دعاهم البابا
أوربان الثاني لغزو بلاد الإسلام منذ ألف عام فهبوا بخيلهم ورجلهم مستجيبين لندائه
من أصقاع أوربا؛ لكن العجيب أن ينتظر المسلمون صورة معبرة وصادمة كالتي نشرت
وتصريحاً رئاسياً ليدركوا بعض الحقيقة؛ أن الاتحاد الأوربي إنما قام ليكون جبهة
نصرانية صليبية.
تعود فكرة الاتحاد الأوربي إلى حقبة ما بعد الحروب الصليبية حيث كتب الفرنسي «بيير
دُوبْوا» كتاباً سماه «استعادة الأرض المقدسة»، اقترح فيه تأسيس «جمهورية نصرانية»
تجمع دول أوربا من أجل تحرير واستعادة فلسطين، ونشر السلام داخل أوربا.
لكن هذه الفكرة لم تكن جديدة تماماً، فقد دعا اللاهوتي الكاثوليكي الشهير توما
الأكويني قبلها بمدة يسيرة إلى بناء دولة عالمية موحدة الدين، تتألف من اتحاد
للملوك تديره الكنيسة الكاثوليكية.
وفي القرن السادس عشر دعا الفيلسوف الألماني لايبنتز أن تتخذ الدول الأوربية هدفاً
موحداً (كغزو مصر مثلاً) يكون في إنجازه توحيد لدول أوربا[1].
لكن السابقة الأشهر والأكثر تأثيراً هي تلك الدعوة التي روج لها «شارل إيرينيه
كاستيل دي سان بيير». وقد ولد «سان بيير» في مدينة سان بيير الفرنسية عام 1658م[2]،
وتلقى تعليمه في كلية «كاين» اليسوعية، ثم التحق بالأكاديمية الفرنسية عام 1695م،
وبعدها بسبعة أعوام عُين مرشداً دينياً في بلاط دُوقةِ أورليان التي منحته رئاسة
دير تيرون الشهير[3].
كان هذا الأب الكاثوليكي يجلس بانتظام في صالون «مدام دوبان» يلقي محاضراته حول
كتابه الشهير «مشروع السلام الدائم»
Projet de Paix Perpetuelle
الذي دعا فيه إلى سلام شامل من خلال اتحاد أوربي ثم عالمي. يُلخص «بيتر فان دن
دونجن» فكرة المشروع في تقديمه للكتاب بقوله: «حتى تتحقق خطةُ سان بيير اشترط على
الملوك أن يوقعوا معاهدة يتخلون بموجبها عن جزء من سيادتهم... ويعترفون بسلطة مجلس
شيوخ أوربي أعلى من الدولة»[4].
ولكن من هم الملوك الذين يتحدث عنهم سان بيير في كتابه؟ يقول سان بيير: «في سبيل
تعزيز التحالف العظيم بجعله أكثر عتاداً وعدةً، على الحلفاء العظام أن يتفقوا على
دعوة كل الملوك النصارى للالتحاق به بتوقيع هذه المعاهدة الرئيسة»[5].
فنص على نصرانية الملوك في أكثر من موضع من كتابه، ودعا إلى تحالف أوربي نصراني على
وجه الخصوص.
إن من ضياع الأعمار أن ينظر إلى الاتحاد الأوربي باعتباره تحالفاً سياسياً بريئاً
لا يجمعه إلا التقارب الجغرافي أو المصلحة السياسية أو الصفقات التجارية. ألم يكن
في توقيع دستور الاتحاد الأوربي الموسع عام 2004م تحت التمثال البرونزي للبابا
الرومي إنوسنت العاشر رمزية كافية لأولي الألباب؟ أم استلزم الأمر تصريحاً سياسياً
بعد ثلاثة عشر عاماً ليعلم العالم أن الاتحاد الأوربي هو في حقيقته تحالف صليبي؟
لقد صرحت «شيرلي ويليامز» وزيرة العمل البريطانية عام 1975م قائلة: «إننا سنتحد مع
أوربا حيث الدين الكاثوليكي سيكون العقيدة الغالبة، وتطبيق المبدأ الاجتماعي
الكاثوليكي هو العامل الأكبر في الحياة السياسية والاقتصادية اليومية»[6].
وفي عام 2003م علقت وكالة الأنباء الكاثوليكية
Zenit
على أحد خطابات البابا يوحنا بولس الثاني بقولها: «لقد حث الأب الأقدس أن تعترف
المسودة الأخيرة للدستور الأوربي بالأصول النصرانية للقارة [الأوربية] لأنها تشكل
ضماناً للمستقبل»[7].
وبعد أربعة عشر عاماً يصرح البابا اليسوعي فرنسيس الأول في خطابه الأخير أمام أعضاء
الاتحاد الأوربي قائلاً: «لقد نذرتُ الشقَّ الأول من حديثي للآباء المؤسسين
لأوربا... لقد كان القاسم المشترك بينهم روح الخدمة مضافةً إلى حب السياسة، وإدراك
أنه في أصل الحضارة الأوربية توجد النصرانيةُ التي من دونها لا يمكن فهم قيم العزة
والحرية والعدالة الغربية»[8].
فعزة الغرب إذن وحريته في التزام النصرانية، ومعيار العدالة عنده ما تفرضه الملة
النصرانية لا ما تسنه الدساتير الأممية؛ ولا شك أن البابا يتحدث هنا عن النصرانية
الكاثوليكية التي شنت الحروب الصليبية على بلاد المسلمين.
هذه الحقيقة الصادمة لبعض الساسة! صرحت بها صحيفة
The Spectator
قبل أكثر من عقد من الزمان قائلة: «لطالما أُخفيت قضية اتحادٍ ديني أوربي بصورة
أعمق من خطط اتحادٍ سياسي، لكن التقدم نحو أوربا كاثوليكيةٍ لا يقل مصداقية. إن
مطالبة البابا [يوحنا بولس الثاني] بإبراز الرب في الدستور الأوربي الناشئ رددها
سياسيون وأساقفة كاثوليك بارزون»[9].
لقد كانت بداية الاتحاد الأوربي فعلياً عام 1950م على يد وزير الخارجية الفرنسي
«روبرت شومان» والمستشار الألماني «كونراد آديناور»، وكلاهما كان كاثوليكاً
متديناً. وهؤلاء - إلى جانب الكاثوليكي المحافظ «ألسيد دي جاسبري» - من الآباء
المؤسسين للاتحاد الأوربي كما هو معلوم. وقد قام الكرسي البابوي بتطويب هؤلاء
الثلاثة - أي إنهم قاب قوسين أو أدنى من لقب «القِدِّيسية» - جزاء تأسيسهم أوربا
جديدة «على أسس رومية كاثوليكية»[10]!
هذا ما اكتشفه أردوغان، ونرجو ألا يكون متأخراً، وأن يدرك غيره ما أدركه!
[1]
Zhenis Kembayev,
Evolution of
the
Idea of a
United Europe: Some Legal Conclusions (2013).
[2] “Saint-Pierre,
Charles-Irénée Castel, Abbé
de.” Encyclopedia
Britannica (Chicago: 2012).
[3]
David Williams, ed. The
Enlightenment (Cambridge
University Press, 1999), p. 355.
[4]
M. L’Abbe de SAINT-PIERRE, An Abridged Version of the Project
for Perpetual Peace (Midsea
Books Ltd., 2008), p. xxx.
[5]
An Abridged Version of the Project
for Perpetual Peace, p. 21.
[6]
The Spectator (F. C. Westley, 2003), vols. 292-293, p. 14.
[7]
https://goo.gl/Srcd2P.
[8]
Address of His Holiness Pope Francis to the Heads of State and
Government of the European Union
in Italy for the Celebration
of the 60th Anniversary of the Treaty Of Rome. (Friday,
24 March 2017).
[9]
https://goo.gl/izqbVe.
[10]
https://goo.gl/kt6E5i.