أين موقعنا من ذروة السنام؟!
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن الجهاد ذروة سنام الإسلام، كما صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرته العملية أصدق برهان على المكانة العالية لهذه الشعيرة الباقية، حيث قاد الرسول عليه الصلاة والسلام سبعاً وعشرين غزوة بنفسه، وأرسل سبعاً وأربعين سرية، فالجهاد خلال عصر النبوة كان بمعدل سبع وقائع لكل سنة بعد الهجرة الشريفة.
ووردت في فضل الجهاد بالمال والنفس، وفضل الرباط، وفضل الشهادة، آيات وأحاديث وروايات كثيرة عن الرعيل الأول، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من خيرة علماء الإسلام وقادته الكبار، وورد بالمقابل التحذير من ترك الجهاد، والركون إلى الدنيا، والتهاون في مجابهة العدو، أو التولي يوم الزحف.
وجاءت آيات الجهاد والنفير في القرآن العزيز عبر سبعين آية، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار»، وقوله: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر»، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: «رباط ليلة في سبيل الله أحب إلي من موافقة ليلة القدر بجوار الحجر الأسود».
ولمكانة الجهاد عدَّه بعض الصحابة من فرائض الدين الكبار، وشارك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وصحابته رضوان الله عليهم بالنفس والمال والفكر، وبعقد ألويته وتوجيهها، ومتابعة الجيوش، وقادتها، والتواصي معهم على الحق، وعلى تطبيق الأحكام الشرعية مع العدو وفي الحرب، مما يعد من فرائد الحضارات في فقه الحروب وآدابها.
وألف علماء الإسلام في القديم والحديث مصنفات مستقلة عن الجهاد، أو أدرجوه ضمن كتب الحديث، والفقه، والعقيدة، والسير وغيرها؛ بل حتى الشعراء شاركوا في المسيرة الجهادية المباركة عبر تاريخنا الإسلامي، وربما أن هذه التآليف والتصانيف حمت هذه الشعيرة من أي فهم منحرف، أو غلو في التطبيق، أو هجر لها، وهذا ما نفتقده في العصور المتأخرة؛ حين صار الحديث عن الجهاد يصاغ وفق التوجهات المختلفة الحكومية التي تريد تفصيل معالم الديانة على أهوائها، ولذا ظهر فيه الإفراط والتفريط.
ومن أهداف الجهاد في شريعتنا: رد العدوان، ونصرة المظلومين، وإرهاب العدو، ومنع الفتن، وتأمين الدعوة، وبسط سيطرة الإسلام، وإعلاء كلمة الله، ويشمل جهاد أهل الكفر، والمرتدين، وأهل الحرابة، والبغاة المعاندين بعد إقامة الحجة عليهم، ويتضح من ذلك أن تقسيم الجهاد إلى طلب ودفع ليس له كبير تأثير، إذ سوق الجهاد قائمة، ووجوبه مستقر في نفوس المؤمنين، لينصروا دينهم، وأهله، وينشروا دين ربهم، وتعلو كلمته في الأرض، وبين الخلق.
والجهاد في ديننا، حرب نبيلة البواعث، سامية المقاصد، شريفة الغايات، أخلاقية حتى وإن أزهقت فيها الأرواح، ودمرت بعض المواضع؛ مما لا تسلم منه حرب البتة. وقد قيدت النصوص الشرعية الجهاد بكونه في سبيل الله ليس فيه عصبية، ولا حمية جاهلية، ولا أغراض دنيوية. ووسع بعض العلماء معنى الجهاد ليشمل جلَّ مناحي الحياة بما فيها جهاد النفس، وإنما نعني هنا القتال وصد العوادي.
والجهاد أرفع من سائر النوافل، ويأتي بعد أركان الإسلام، وهو داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومر تشريعه بأربع مراحل تدريجية مناسبة لحال المسلمين هي: المنع والصبر، ثم الإذن، فوجوب الدفاع عن النفس، وأخيراً إيجاب قتال الكفار كافة، حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا يفتن الناس عن دينهم، أو تنتهك حرماتهم وممتلكاتهم وديارهم، فالجهاد مرتبط بحفظ مقاصد الشريعة وحياطتها، وأعظم به من عبادة.
ولما للجهاد من أثر، وقف المستشرقون وأتباعهم من المنافقين والمخذلين والمستغفلين منه موقفاً عدائياً بالتشويه، والتحريف، والاتهام، والافتراء، ونقلوه من سمو العبودية وعلو الغاية إلى حضيض الأرض، ومستنقع الشهوات، وحظوظ النفس، ثم حرمته القوى الكبرى في مواثيقها وإعلاناتها، وأصبح جريمة إن فعلناه، وحقاً طبيعياً إن كان الفاعل غيرنا؛ حتى غدت أمتنا نهباً للغزاة دون أن يكون لهم الحق في الرد والصد، وهو حق تفعله الحيوانات بداهة بدافع غريزة البقاء، فكيف بالإنسان؟!
وبما أن فقهاء الإسلام استنبطوا من النصوص الشرعية أربعة أحوال يتعين على المسلم الجهاد فيها وهي: إذا هاجم العدو بلاد المسلمين، وإذا التقى الجيشان، وعند الاستنفار للجهاد، وإذا كان في المسلمين قلة وهم يدفعون العدو، فقد انبرى لهذه الشريعة بعد تخاذل الدول أو عجزها، أفراد، وجماعات، وحركات، حتى أصبحت هذه الحركات مكوناً أساسياً من مكونات العمل الإسلامي في القرن الماضي والحالي، وصارت موضوعاً مهماً على جدول أعمال مؤتمرات ولقاءات إقليمية ودولية، وغدت تكأة للتنكيل بكل عمل نافع، وللزج بالمصلحين في ظلمات السجون، وغياهب المعتقلات، فضلاً عن استخدامها إعلامياً للتنفير من الدين أو التدين، ونبز الأعمال الصالحة وروادها.
ولأنه لا يخلو عمل ولا عامل من نظر، ولأن النيات خفية لا يعلم حقيقتها إلا الله علام الغيوب، ولأن المقاصد قد تسمو ثم تختلط؛ حتى تقع في الوحل دونما خلاص أو فكاك، ولأن المراقب قد يبصر ما لا يراه المشارك في العمل، والمنهمك في تفاصيله، والمنغمس في دقائقه، وجب على العاملين للإسلام، والصادقين في تعظيم شعائره أن ينصروا هذه الفريضة وأهلها، ومن النصرة النصح، والتقويم، والتسديد.
وعندما ندعو لهذه النصرة التصحيحية من خلال فحص سجل الحركات الجهادية، والحديث معها وعنها بصراحة، فإنه لا مناص من التنبيه إلى مسلمات ضرورية، وهي:
أولاً: لسنا نتحدث عن الشعيرة ذاتها، فهي فرض عين أو كفاية بحسب الحال، ومكانتها عظيمة كما سلف، ولا جدال.
ثانياً: لا يعني انتقاد بعض هذه الحركات أو أعمالها إسقاطها تماماً، أو نفي حسناتها، وآثارها المباركة، وإنما العدل والإنصاف يقتضيان ذكر الجانبين دونما تهوين أو تهويل.
ثالثاً: نؤكد على أننا ضد أي اعتداء على المسلمين وبلادهم، ونؤمن إيماناً راسخاً بمشروعية صد العدوان، ودفع الغزاة، مع بذل الوسع في ذلك.
رابعاً: فحص الحركات الجهادية لا يعني البتة موافقة المستشرقين والمنافقين في مواقفهم ضد العمل الإسلامي السلمي والقتالي.
وعليه، فحديثنا لهذه الحركات هو حديث المحب لأمته، الناصح لها، المشفق على بنيها وخيرتهم من الطليعة الجهادية والمقاومة، وليس فيه أي تخذيل أو وقوف مع العدو والخصم، فحاشا لله أن نكون يوماً ضد العاملين للدين وحماة الأعراض والأهلين والديار، وإنما الغاية فتح الباب لمشروع مراجعة وتقويم، وعسى أن يكون سبيلاً لنبذ الخبَث، وللاجتماع، والائتلاف، والتعاون، وتنسيق الأدوار والمهام.
ومما ينبغي مناقشته مع الحركات الجهادية ما يلي:
• قلة ما تحتويه أغلب هذه الحركات من علماء شرعيين، أو ضعف تنسيقها مع العلماء العارفين بحال البلد وأهله.
• ضعف الجانب السياسي للحركات الجهادية، مما يقلل من جاهزيتها في المفاوضات، ووقوعها في مكر الأبالسة.
• انعدام التنسيق بين المجموعات الجهادية حتى في أحلك الأحوال، وأي حال ضرورة أعظم مما جرى في حلب الواقعة تحت النار من كل جهة؛ وفيها بضعة عشر فصيلاً لم يتحدوا بل اعتدى بعضهم على الآخرين!
• سهولة الاختراق الاستخباراتي، والسياسي، والفكري لهذه الحركات، والأمثلة تعز على الحصر، فضلاً عما أحدثته الاختراقات من بلاء وانشقاق وتقاتل.
• رخاوة الترتيبات الأمنية، وتخلخل سياسة الحذر، والوقوع في فخاخ الاستدراج، حتى استطاع العدو قتل عشرات المجاهدين والقادة في عملية واحدة.
• سهولة توظيف بعض الحركات من قبل القوى الإقليمية والدولية لمصالحها، دون أي فائدة للمجاهدين بعد ذلك.
• نكارة بعض الأسماء التي تمثل الحركة الجهادية في القيادة، والتوجيه الشرعي، والظهور الإعلامي.
• استباحة الدماء المعصومة سواء من الفصائل الأخرى، أو المسالمين، أو غيرهم ممن لا يجوز سفك دمه.
• تنفيذ أعمال التخريب والقتل داخل البلاد الإسلامية بحجة فساد الأنظمة، وليس لهذه الأعمال مسوغ شرعي، أو مصلحي، حتى انحرف الجهاد عن مقصوده، وتشوهت صورته لدى الفضلاء بله العوام.
• مواقف هذه الحركات من مشروعات الاتحاد، والتنسيق، والتحاكم إلى الكتاب والسنة وبالتالي التساؤل عن جدية الوقوف عند أوامر الشرع.
وإننا إذ نقول ذلك من منطلقات شرعية وأخوية، لنتمنى أن يبزغ لأمتنا فجر جديد من العمل الصالح المبارك، لا يتخذ الأعداء فيه بعضنا سلاحاً ضد إخوانه وبني دينه، فكم عانت أمتنا من تنازع المتوافقين ظاهراً في الغاية، في حين أن أعداءهم يرمونهم عن قوس واحدة بالسلاح، والقرارات، والشبهات!
فمتى يسعد المسلمون بتآلف أهل ريادتهم بالنعمة التي امتن الله عليهم بها، وشملت المجاهدين كما غيرهم من العاملين لدين الله ضمن آيات التحذير من التفرق، وأنه سبب للهزيمة، وتغلب الأعداء، مع الدعوة للاجتماع والائتلاف، وترك التنازع والتشاحن والخلاف، كما في قول ربنا سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} [آل عمران: 103]، فهل يكون لهذه المناداة آذان صاغية، وقلوب واعية؟
:: مجلة البيان العدد 359 رجــب 1438هـ، مارس-إبريل 2017م.