مستقبل سايكس بيكو.. بين التيه والرشاد
تقف الأمة اليوم بعد مائة عام من اتفاقية «سايكس بيكو» في مفترق طرق جديدة، فبعد
تفكيك الخلافة العثمانية والمظلة الإسلامية الجامعة، وبعد إعادة تنظيم المنطقة بناء
على الهوية العربية في القرن الماضي، فإن المنطقة تتعرض اليوم لمرحلة ثالثة من
التقسيم بناء على الخطوط العرقية والمذهبية، بينما يتجه العالم من حولنا إلى
الاتحاد والاندماج، وتدشين ما سمي بالإقليمية، ثم الإقليمية الجديدة، ثم الكيانات
فوق الدول مثل الاتحاد الأوربي.. تفكيك في الشرق واندماج وتوحد في الغرب.
ومع التحديات الاقتصادية والطاقوية الجديدة التي تشهدها المنطقة في ظل حمى التقسيم
والتفكيك الحالية، فإن مستقبل اتفاقية سايكس بيكو يبدو أكثر هلامية، حيث تتعرض
الحدود الوطنية للدول إلى التحطم تحت ثقل التدخلات الإقليمية والدولية، حيث تقتحم
منطقة سايكس بيكو اليوم الإمبراطوريات التقليدية التاريخية في كل من إيران وتركيا
وروسيا ومعها وريثة الإمبراطورية الرومانية الولايات المتحدة، في ظل تدافع مع القوى
التقليدية في المنطقة مثل مصر والسعودية والخليج العربي، وحالة من تبدل التحالفات
الإقليمية العسكرية والسياسية، بدخول باكستان تارة وتقهقرها تارة أخرى، وبدخول مصر
تارة وخروجها مرة أخرى؛ طبقاً لمحاولات إعادة رسم مناطق النفوذ والمصالح في الإقليم
وطبقاً لتبدل الموازين على الأرض.
إن اللحظة الحالية مشابهة لحقبة ما بعد الأحداث العالمية الكبرى، حيث السيولة
والاستدعاء للقوى الدولية وحروب الوكالة
Proxy
Wars
التي شهدتها حقبة ما بعد الحربين العالميتين، وكذلك ما بعد الحرب الباردة وتفكك
الاتحاد السوفيتي، فالصراعات تدور اليوم حول إعادة توزيع الجغرافيا السياسية من حيث
الموارد والمصادر وآبار النفط ومصبات الأنهار والمناطق التكتيكية والجبال في
المواقع الإستراتيجية في كل المنطقة الممتدة من جبل قنديل شرق تركيا حيث حزب العمال
الكردستاني مروراً بمنطقة شمال وغرب الفرات ووصولاً حتى جبل التركمان والساحل
العلوي في اللاذقية وطرطوس ووصولاً حتى العمق اللبناني في الجنوب حيث يتمركز «حزب
الله»، وكلها مناطق صراع ملتهبة يسعى كل فصيل إلى اكتساب أكبر قدر من الأراضي فيها
وتطهير الأراضي وتهجير السكان من أجل خلق حقائق جديدة على الأرض بدعم من القوى
الإقليمية والدولية، وتحت الرعاية المباشرة من روسيا والولايات المتحدة.
وكما كان انهيار الخلافة العثمانية بمثابة انهيار المظلة الجامعة للإقليم، فإن
اللحظة الراهنة تشهد الانهيار ذاته في المنظومة الإقليمية بانهيار الجامعة العربية،
وكذلك بانسحاب المظلة الأمنية الأمريكية كضابطة لإيقاع الصراعات في المنطقة بعد
احتلال العراق وتحطيمه ثم الانسحاب منه مشرذماً، وكذلك بالتشجيع الواضح لتزايد
الدور الإيراني بعد الاتفاقية النووية والسماح بسيطرتها على شيعة الإقليم وتأليبهم
على حكوماتهم المحلية وإنشاء ميليشيات مسلحة تحت سمع وبصر قادة الحرس الثوري
الإيراني، والتشجيع الأمريكي للدور المتزايد للأكراد باعتبارهم «قوة منظمة يمكن
الاعتماد عليها»؛ فيما لم تجد السعودية وما سمي بالتحالف السني بداً من الدخول
المتأخر بالقوى الصلبة في الصراع من اليمن وحتى الحدود السورية وصولاً إلى قاعدة
«أنجرليك» التركية، انتظاراً للانتقال لمرحلة التدخل البري والجوي الفعلي في اللحظة
المناسبة في ظل شد وجذب ووقف هش لإطلاق النيران.
ومنطقة سايكس بيكو هي إرث إسلامي بحت وظلت مثاراً للتنازع التاريخي بين القوى
الإقليمية في المنطقة في طول التاريخ الإسلامي، وذلك لأنها منطقة منبسطة لا يفلح
طرف في السيطرة عليها حتى ينتزعها الطرف الآخر مع تبدل موازين القوة، وهذا مشاهد مع
معارك الشد والجذب مع تنظيم الدولة وبقية القوات النظامية في المنطقة، لذا ظلت
المناطق من غرب إيران حيث الأحواز وكردستان حتى ساحل البحر المتوسط مثار شد وجذب
وتقسيم من القوى الدولية بسبب فسيفسائها العرقي والمذهبي والثقافي الحضاري، بجانب
المتغير الجديد في العصر الحديث وهو آبار النفط في المناطق المتنازع عليها والتي
ظلت تثير شهية القوى الإقليمية وتغلف تارة بمغلفات دينية وتارة بمغلفات ثقافية مثل
مطالب الأكراد بالانفصال أو مراوحة مناطق التركمان لولائها بين الدولة الوطنية في
العراق وسوريا وبين ولائها الثقافي واللغوي للدولة التركية.
وأمام منطقة سايكس بيكو ومن ورائها الإقليم بكامله أحد خيارين: إما أن تصل الدول
الإقليمية إلى عمل مظلة جامعة جديدة بين القوى الفاعلة في الإقليم بحيث تضمن بثقلها
حقوق الأقليات وحفظ دمائهم وأعراضهم في إطار خطة تعاون متكاملة أمنية وسياسية
واقتصادية تكفل التوزيع العادل للثروات والعمل على تحقيق الحكم الرشيد؛ أو أن تدخل
المنطقة في حرب تكسير عظام شاملة لن تضع أوزارها حتى تأتي على الأخضر واليابس فيها
وتجتذب إلى أتونها كافة القوى في الإقليم المستقرة وغير المستقرة.
لذلك، ومع استعداد كل من القوات السعودية والتركية للتدخل البري في سوريا إذا اقتضت
الضرورة، برغم إعلان القوى الدولية عن هدنة قد تكون هشة لتوقعات عدم التزام نظام
الأسد بها، فإن تلك القوى بحاجة إلى الدعوة إلى تلك المنظومة التي تربط نزع السلاح
وصنع/ حفظ السلام بخطة تنموية شاملة والدعوة إلى مظلة تعاون إقليمي بين الدول
الكبرى وعلى رأسها السعودية ومصر وتركيا وإيران، تصهر في بوتقتها الخلافات المذهبية
والعرقية، وتجد حلولاً تنموية للأقليات المهمشة في الإقليم، على غرار الانفتاحة
الكردية التي قامت بها حكومة أردوغان بتحقيق مصالح ثقافية وتنموية كردية في ظل
الدولة القومية التركية، بدلاً من الإنفاق المتزايد والشره على التسليح وشراء ولاء
الجيوش في لبنان وغيرها يتم توجيه تلك المليارات لخطة تنموية شاملة في الإقليم.
ولعل نتائج الانتخابات التشريعية الإيرانية التي أجريت في 26 فبراير الماضي تعطي
بارقة أمل برهان الشعوب على الإصلاح وليس على التطرف المذهبي، بعدما تكبدت الدولة
الإيرانية خسائر فادحة من الأموال والدماء في الصراع السوري، وفقد نظام الملالي
شرعيته الأخلاقية المبنية على الشعارات الفارغة للثورة والانحياز إلى الضعفاء وصوت
الشعوب والانتصار على المستبدين، بعدما سقط سقوطاً مدوياً في الاختبار السوري، وبات
مؤكداً أن النفخ في نيران المذهبية لن يؤدي بالمنطقة وبالنظام الإيراني وشعبه سوى
إلى مزيد من الهلاك.
لقد استطاعت دول العالم تحقيق التعاون السياسي والاقتصادي من خلال التعاون
الإقليمي، ومن خلال ما سمي بـ«الإقليمية الجديدة»، والتي هي عبارة عن تحالف دول
مشتركة في مصالح وليست بالضرورة مشتركة في إقليم جغرافي، في تحقيق مصالح شعوبها،
والقفز فوق الخلافات العرقية والثقافية الضيقة، والعمل على بناء مظلات أمان سياسية
واقتصادية وتنموية للشعوب، وفي هذا الصدد تستطيع الدول الإقليمية طرح بارقة أمل
مشابهة عن طريق تقديم نموذج تعاوني يدمج الدول الأربع سالفة الذكر بكل من العراق
وسوريا ولبنان والأردن، تكون نواة لتعاون بناء يحقق التكافل والاكتفاء الذاتي لتلك
الدول، بالتوازي مع حل المشكلات السياسية لكل من سنة العراق وسوريا ما بعد بشار
الأسد وترتيبات إحلال السلام في سوريا وتحقيق إرادة الشعوب.
مثل ذلك النموذج إذا طرح نظرياً وأكاديمياً يمكن أن يجعل الشعوب ترنو إلى بارقة أمل
تتخطى صعاب اللحظة ورائحة الموت والدمار، فالشعوب في كل المنطقة بحاجة إلى نماذج
قيادية وليس مجرد شعارات زائفة فارغة من مضمونها، والخلافة الإسلامية بحد ذاتها
تمثل شكلاً ـ حتى لو أكثر شمولية ـ من تلك المظلة الأمنية والسياسية والاقتصاديًة
والتنموية، والتي ترنو إليها كل شعوب المنطقة بما في ذلك الشباب الذين يُحرقون في
محارق تنظيم الدولة بعدما هربوا من واقع أليم في بلدانهم أملاً في منظومة أكثر
عدلاً.
الخطوة الأولى يمكن أن تبدأ من دول التحالف السني بتقديم خطة تنموية شاملة لدول
الإقليم بالتعاون مع الدول الكبرى المعنية بحل الصراع وبمشاركة من المنظمات
الإغاثية حول العالم، شريطة أن يتم عقد صفقات سياسية عادلة تستوعب السنة في العراق
في مختلف مفاصل الدولة، وتحقق مصالح الأكراد بنوع من الاستقلالية الثقافية
والهوياتية في إطار سياسي كونفيدرالي، في الوقت الذي يتم تحقيق شراكة رباعية بين
الدول الإقليمية سالفة الذكر بنوع من تحرير التجارة بين البلدان وإزالة الحواجز
الجمركية وتعزيز التعاون الاقتصادي والتنموي، وببنود في دساتير تلك البلدان تحقق
التسامح الديني والتعايش المذهبي وحرية الاعتقاد والتمذهب في إطار الإقليم.
أما بديل تلك الخطة المتكاملة فسيكون استنزاف طويل الأمد لمقدرات الأمة، وتلاعب
القوى الكبرى بالإقليم لتحقيق مصالحها والاستثمار في الحروب وتصدير السلاح، وتحطيم
الإرث الثقافي والحضاري للمنطقة وتحويلها إلى كومة ركام ودوامة دامية تجتذب إليها
كل الدول في الإقليم، في ظل أوضاع اقتصادية تنذر بتفاقم الأزمات في الأفق القريب،
مع دق طبول حرب إقليمية طائفية مفتوحة ومباشرة بين التحالف السني من جهة وإيران
وحلفائها من جهة أخرى، يمكن أن ترجع المنطقة إلى حقبة ما قبل الحرب العالمية
الأولى.
إن الهدنة السورية وتزامنها مع الانتخابات التشريعية الإيرانية تمثل فرصة لالتقاط
الأنفاس والتفكير الجدي في الخيار الأول بتقديم المنظومة التنموية السياسية
الشاملة، هرباً من مصير يعيد المنطقة مائة عام إلى الوراء، إلى ما هو أسوأ وأكثر
قتامة من مؤامرات وكوابيس سايكس بيكو.
:: مجلة البيان العدد 350 شــوال 1437هـ، يـولـيـو 2016م.