«الموسوعة البريطـــانية» ومقص الرقيب الكاثوليكي

«الموسوعة البريطـــانية» ومقص الرقيب الكاثوليكي

 تُعَدُّ الموسوعة البريطانية (Encyclopaedia Britannica) التي نعرفها باسم «دائرة المعارف البريطانية» مرجعاً له مكانته في عالم البحث العلمي. ولعل اسم «إنسايكلوبيديا بريتانيكا» لا يزال يرنُّ في مسامع بعضنا منذ أن كنا صغاراً نشاهد أفلامها الوثائقية.

بدأ صدور الموسوعة البريطانية عام 1768م بعد أن استُلهمت فكرتها من الموسوعة الفرنسية (Encyclopédie) التي ظهرت قبلها بعقد ونيِّف؛ فظهرت بعض الأقلام المتحررة من الصولجان البابوي، وتَشَكَّل بذلك تيارٌ فكري مناوئ للكهنوتية انتهى بالثورة الفرنسية عام 1789م. ولكن بينما توقف صدور الموسوعة الفرنسية عام 1780م، استمرت طبعات «الموسوعة البريطانية» إلى زمننا هذا، بعد أن «طُهِّرت بماء المعمودية» من قِبل الكنيسة.

لعل أذهان بعض الناس لا تتقبل صورةً لقسيس كاثوليكي يحرر موسوعة «ليبرالية»، لكنها الحقيقة التي أَقرَّ بها «اتحاد وِستمنستر الكاثوليكي» (Westminster Catholic Federation) الذي أشرف بنفسه على طقوس العماد. فبعد أن ذاع صيت الموسوعة وأصبحت مرجعاً للقراء الأمريكيين فضلاً عن الإنجليز بحلول عام 1920م، كان لزاماً أن يعاد النظر في محتواها لتواكب التقدم العلمي آنذاك؛ فانتُخِب لهذه المهمة فريق من المحررين البريطانيين والأمريكيين. ولما انتهى المشروع عام 1928م علق «اتحاد وستمنستر الكاثوليكي» على الحدث بكل جرأة قائلاً: «لقد قام مشروع مراجعة «الموسوعة البريطانية» لأجل حذف الأمور المعارضة لوجهة النظر الكاثوليكية وإضافة ما هو دقيق ومحايد. لقد تم تمحيص المجلدات الثمانية والعشرين، ثم حُددت المقاطع المعارضة، وبُيِّنت أسباب حذفها أو تعديلها. إن كل الأسباب تدعو إلى الأمل في أن تكون الطبعة الجديدة من «الموسوعة البريطانية» أكثر دقة وحياداً من سابقاتها»[1].

ولنا وقفة هنا مع هذا الاعتراف الصادر عن السلطة الكاثوليكية التي باشرت بنفسها تعديل «الموسوعة البريطانية» لتجعلها سائغة للذوق البابوي؛ إنها دليل قاطع على أن سلطة الكنيسة الكاثوليكية في البلاد الغربيـة واقـع لا يمكن تجاهله وإن غـابت الأصـابع المحـرِّكة عن أنظار العامة. وهذا النفوذ الذي صرَّح به «اتحاد وستمنستر الكاثوليكي» نجد مثيله في الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر، وقد عبر عنه «جستن فلتن» في كتابه «واشنطن في حجر روما» بقوله: «ما من صحيفة مؤثرة على الكنيسة الكاثوليكية يُسمح لها أن تطبع حتى تُعرَض على الكاردينال للنقد»[2].

ولعلِّي أضرب لذلك بعض الأمثلة: فبينما كنت ذات مرة أقرأ عن تنظيم المتنورين (الإلوميناتي) ومؤسسه «آدم وايسهاوبت» في طبعة عام 1911م من «الموسوعة البريطانية» لفت نظري إقرار الموسوعة بأنه «أستاذ القانون الكنسي بـ «إنجولشتات»، ويسوعي سابق»، وهو ربط مباشر بين اليسوعية الكاثوليكية وبين مؤسس تنظيمٍ ماسوني يُنسَب عادة إلى تأسيس «النظام العالمي الجديد». فلما رجعت إلى نسخةٍ حديثةٍ للموسوعة وجدت أن ذلك المقال المفصَّل حول «الإلوميناتي» صار لا يتجاوز بضعة أسطر، بل قُلِّمت أظفاره حتى صار هزيلاً لا يمتُّ إلى الأكاديمية بِصِلة.

كذلك المقال المتعلـق بـ «لـودريجـو بورجا»، ذلك الكاهن الإسباني العربيد الماجن الذي أصبح يعرف فيما بعد بالبابا «الإسكندر السادس». لقد حاول مقص الرقيب الكاثوليكي بقدر الإمكان تحسين صورته لدى قارئ الموسوعة؛ فقد بيَّن كاتب المقال الأصلي أن الإسكندر عُرِف بانحلاله الخلقي قبل جلوسه على كرسي البابوية حينما كان كاردينالاً، ومع ذلك اختير ليعتلي عرش البابوية! فكان مما كتب: «بالرغم من الفساد الكنسي الذي بلغ ذروته إلا أن حياة العربدة التي عاشها [الإسكندر] جلبت له نقداً لاذعاً جداً من قِبل البابا «بيوس الثاني»؛ أي أن فساده الأخلاقي تجاوز المعهود في زمانه. وفي موطن آخر من المقال يذكر الكاتب أن «من أمثلة فساد البلاط البابوي أن «لوكريزا» ابنة «بورجا» [الإسكندر] كانت تعيش مع خليلته «جيليا» التي ولدت له ابنته «لورا» عام 1492م (وهو العام الذي اختير فيه لمنصب البابوية)» لكن مقص الرقيب لم يتجاوز ما أوردتُه حتى حذف العبارتين كلتيهما بحجة الاختصار حتى لا تتضخم الموسوعة. لكن الموسوعة تتنازل عن مطلب الاختصار عندما يتعلق الأمر بتمجيد أعلام اللاهوت الكاثوليكي. فمقال «أثناسيوس» أسقف الإسكندرية الذي نافح عن الكنيسة ضد الآريوسية يزداد توسعاً في الطبعات اللاحقة.

وأختم بالمقال المتعلق بـ «اليسوعية» ذلك التنظيم الكاثوليكي الخطير الذي تحدثتُ عنه بإسهاب في غير هذا الموضع. فقد هُذِّب هذا المقال حتى في نُسَخِه القديمة. ثم وُكِلَت كتابة المقال إلى الأب اليسوعي «تونتون» الذي زيف حقيقة اليسوعية في أعين القراء وألبسها لباس التقوى والورع. لكنه قال في أثناء المقال: «إن حقيقتين مرَوِّعتين لا يُختلَف حولهما تقابلان الدارس المتتبِّع لتاريخ الجمعية [اليسوعية]:

أولهما: الشكوك والعداء العالميان اللذان جلبتهما على نفسها، ليس فقط من البروتستانت الذين تعهَّدَت بمعاداتهم ولا من أعداء الكهنوت، بل من كل الأمم الكاثوليكية في العالم. لقد كان أكبر أعدائها من أتباع العقيدة الرومية الكاثوليكية»

لكن مقص الرقيب أتى على هذا المقطع فلم يُبق منه سوى عبارة وجيزة تزعم أن «أبرز حقيقة في تاريخ الجمعية هي الشكوك والعداء اللذان جلبتهما على نفسها من أتباع العقيدة الرومية الكاثوليكية» والفرق بين المعنيين شـاسـع. لكـن سـبب الشـكوك والعـداء – وَفْقاً للنسخة المنقحة هذه – هو فضل اليسوعية وانعدام الأمانة عند منتقديها!

هذا غيض من فيض أردت منه بيان هيمنة البابوية على تاريخ الغرب وفكره. فمن أراد أن يعرف مدى هذه الهيمنة فلن يجده فيما يُنشَر للعامة؛ فمقص البابوية لم يترك موسوعةً بوزن الموسوعة البريطانية؛ فكيف بغيرها؟

لقد كُتِب التاريخ الغربي لنا بأيدٍ ملطخة بالدماء، ومن ظن أنها ستكتب لنا قصة الضحية فقد وَهِم. فها نحن نشهد تزويراً لتاريخ نشهده ونعلمه؛ فكيف بما لم نشهده وما لا نعلمه؟

 

 


[1] McCabe, Joseph. The Social Record of Christianity (Book Tree, 2000), p. 4

[2] Fulton, Justin D. Washington in the Lap of Rome (Boston: W. Kellaway, 1888), p. 25

أعلى