مراحل تطور الثورة السورية
شهدت الثورة السورية منعرجات ومراحل فارقة كان لكل منها طبيعة خاصة تميزها عن غيرها، فقد بدأت ثورة شعبية سلمية تعرض خلالها الشعب السوري لكل أساليب القمع والتنكيل، ولم ينجح الثوار حينها في توحيد صفوفهم برغم الحاضنة الشعبية التي كانت داعمًا لهم منذ بدء ثورتهم.
فرضت المواجهة المسلحة نفسها على الثورة في العام الثاني، حينما تمكن الثوار من الحصول على الأسلحة الخفيفة بفعل الانقسامات داخل الجيش السوري، ولجوء الكثير من قياداته إلى صفوف المعارضة، والتي استطاعت أن تشكل كيانًا ثوريًّا عُرف باسم «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» الذي جاء بديلًا عن المجلس الوطني بعد فشله خلال العام الأول في جمع قوى المعارضة.
برغم الانتصارات التي حققتها المعارضة على حساب النظام وتحريرها للكثير من المدن، إلا أن النظام غير من إستراتيجيته وخططه هربًا من الاستنزاف، مركزًا سيطرته على المدن الإستراتيجية ذات الأهمية، لكن دخول حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية مع بداية عام 2013م وما صاحبه من ولادة تنظيم الدولة (داعش) شكل عبئًا مضاعفًا على قوى المعارضة، التي تراجعت بفعل المواجهة في عدة جبهات؛ ما خلط الأوراق وجعل المشهد يبدو ضبابيًّا.
باتت الفرصة مهيأة للتدخل الدولي الذي استفاد من ضبابية المشهد السياسي، فاختلفت أهداف تلك القوى الخارجية وفقًا لمصالحها، فتحول نظام بشار الذي قتل مئات الآلاف وهجّر الملايين من شعبه بعد أشهر قليلة من نظام إرهابي إلى نظام شرعي يستوجب حمايته، وهو ما شجع روسيا على التدخل العسكري مستغلة الاعتراف الدولي بالوجود الإيراني في سوريا والمنطقة عمومًا، وعدم قدرة قوى المعارضة السنية على إسقاط النظام العلوي الذي استفاد من الدعم الإيراني وتعدد القوى المسلحة على الساحة السورية.
المرحلة الأولى:
ثورة شعبية ومقاطعة دولية وعربية
جاءت جمعة الكرامة في 18 مارس 2011م بمثابة الشرارة الأولى والأهم للثورة السورية التي شهدت مظاهرات عارمة قوبلت برد فعل عنيف من جيش النظام السوري الذي ارتكب خلال العام الأول للثورة عشرات المجازر راح ضحيتها نحو 8500 من أبناء الشعب السوري.
كانت محافظة درعا أول من انتفض في وجه النظام الذي واجه الثورة الشعبية بالقمع، لكن بطشه لم يثبط معنويات الشعب السوري الذي انتفض على النظام في محافظات أخرى أهمها بانياس واللاذقية وحمص وحماة وحلب ودمشق وريفها، واتخذت الاحتجاجات والمظاهرات طريقها تباعًا نحو المدن الساحلية في اللاذقية وجبلة، برغم إعلان الأسد إلغاء قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة وسن قانون التظاهر السلمي وإطلاق سراح بعض المعتقلين وتشكيل حكومة جديدة ومنح الجنسية لعشرات الآلاف من الأكراد، بالإضافة إلى إقالة محافظ حمص.
هذه الإجراءات السياسية التي اتبعها النظام لم تصل إلى الحد الأدنى لمطالب الثوار، خاصة أن الوضع في الشارع كان مختلفًا عما يقال في وسائل الإعلام، لأن مواجهة المتظاهرين من قبل الجيش أوقعت الآلاف من القتلى كما أشرنا سلفًا، لأن الجيش أجرى حملات مختلفة على بعض المحافظات والمدن أشهرها حي بابا عمرو في حمص، كما أن حديث النظام عن الإصلاحات السياسية الهزلية، لاسيما الاستفتاء على الدستور لإيقاف هيمنة حزب البعث كما كان يقال في الإعلام السوري، جاء بالتوازي مع الحملات العسكرية الدامية في حماة وأخرى في حمص وإدلب.
الواضح إذن أن النظام السوري كان يستخدم مصطلح الإصلاحات السياسية للتغطية على قمع الثورة خلال عامها الأول، فإعلانه عن إجراء انتخابات برلمانية في مايو 2011م جاء بالتزامن مع حملة عسكرية على مدينة إدلب من أجل قمع الثورة.
في هذه الأثناء ظهرت أولى التصدعات على الجيش السوري، حينما أقدمت مجموعة من الضباط على الانشقاق، بقيادة المقدم حسين هرموش، الذي أسس حركة الضباط الأحرار، وقد أعقب هذه الخطوة النوعية تشكيل الجيش السوري الحر في يوليو من العام نفسه، برئاسة العقيد رياض الأسعد، ومنذ ذلك الحين اتخذت الثورة منحى أكثر خطورة لأن المواجهات مع النظام اتخذت طابعًا عسكريًّا بحتًا، وبدأ الجيش الحر يشن هجماته على الكثير من المباني الحكومة، أهمها مقر المخابرات في ريف دمشق. ومع اتساع تلك المواجهات تزايد عدد الضباط المنشقين عن صفوف الجيش، وبدأت صفوف الجيش الحر في تزايد، ووصلت مع نهاية العام الأول للثورة إلى حوالي عشرين ألفًا.
المعارضة العسكرية للنظام العلوي خلال العام الأول للثورة صاحبها تشكيل معارضة سياسية عُرفت بـ«المجلس الوطني الانتقالي» في أغسطس 2011م برئاسة برهان غليون، ثم جاء الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري في أكتوبر برئاسة برهان غليون أيضًا، لكن الخلافات بين أعضائه وعدم انسجام أفكارهم ومطالبهم مع مطالب الشارع الثوري جعلته تجمعًا ثوريًّا هشًّا فجاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بديلًا عنه.
على الجانب الآخر، شهد العام الأول للثورة تحركات دبلوماسية دولية، أهمها عقوبات أمريكية جديدة على النظام السوري، كما اتخذ الاتحاد الأوربي قرارات عقابية في مايو 2011م ضد النظام، لكن الجانبين الأمريكي والأوربي عجزا عن تمرير قرارات عبر مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي الصيني، الذي وقف بالمرصاد للمحاولات الأمريكية الأوربية في أكتوبر 2011م وفبراير 2012م.
بدورها تحركت جامعة الدول العربية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر إرسال مراقبين في ديسمبر 2011م، دون أن يحققوا أي نتائج تُذكر، وقد تم تعليق عضوية سوريا في الجامعة، لكن الأخيرة أرسلت بالتوافق مع الأمم المتحدة مبعوثًا مشتركًا هو الأمين العام السابق للأمم المتحدة «كوفي عنان» مبعوثًا للنظام السوري، وقد سلم النظام مقترحات تمثل مخرجًا للأزمة لكن استمرار الأزمة وتصاعدها حال دون أي نجاح للمساعي الدولية والعربية، الأمر الذي دفع معظم الدول العربية وفي مقدمتها بعض دول مجلس التعاون الخليجي لإنهاء أي علاقة دبلوماسية تربطها بالنظام السوري.
المرحلة الثانية:
تحولات مهمة على مسار الثورة
مع دخول الثورة عامها الثاني بدت احتمالات التوصل إلى أي حلول غير ممكنة لأن مجازر النظام السوري فاقت التوقعات، فبحسب الأرقام التقديرية التي رصدتها جهات محلية سورية فإن النظام أنهى العام الثاني للثورة بقتل نحو 80 ألف مواطن سوري، وأكثر من 5 ملايين نازح ومهجر ومشرد، وخراب شامل ودمار ممنهج؛ الأمر الذي استدعى دخول أطراف جديدة على مسار الأزمة تمكنت من تحرير بعض المدن السورية من النظام الذي بدأ يذهب باتجاه توظيف النزاعات الطائفية، ومن ثم دخول أطراف إقليمية لاسيما التدخل الإيراني عبر المليشيات الشيعية المختلفة.
1- إنجازات مهمة للمعارضة المسلحة وفشل المعارضة السياسية:
إلى جانب الجيش الحر وما تفرع عنه من ألوية، كلواء شهداء سوريا الذي قدرت أعداد مقاتليه بـ7 آلاف مقاتل، ولواء صقور الشام 35 ألف مقاتل، ظهرت في العام الثاني للثورة جبهة تحرير سوريا الإسلامية التي تضم نحو عشرين مجموعة منها «لواء التوحيد 10 آلاف مقاتل، ولواء الفتح، ولواء الفاروق 14 ألف مقاتل، ولواء الإسلام ٩ آلاف مقاتل، وغيرها»، لكن هذه الجبهة الإسلامية المعتدلة ظلت تعترف بالإطار القيادي للجيش الحر، هذا فضلًا عن الفصائل الإسلامية والجهادية التي ظهرت خلال هذه المرحلة المهمة من الثورة.
تعداد المقاتلين الكبير في صفوف المعارضة السورية بكافة أطيافها، وخصوصًا بعد انشقاق نحو 150 ألف عنصر من الجيش وانضمامهم لصفوف المعارضة، وكميات السلاح الكبيرة التي تمكنوا من الحصول عليها عن طريق الدعم الخارجي، أو من خلال السيطرة على العديد من مخازن الأسلحة التابعة للنظام؛ كل ذلك مكنهم من تحقيق إنجازات مهمة في المحافظات السورية الرئيسية، فأصبح لها حضور كبير ومواقع عسكرية وسيطرت على أجزاء كبيرة من محافظات ومدن ريف دمشق وحلب وإدلب والرقة ودير الزور والحسكة وحماة واللاذقية وحمص والرستن وغيرها.
وبالتزامن مع تطور المعارضة المسلحة وما حققته من إنجازات ميدانية قبيل نهاية عام 2012م تم الإعلان عن الجسم السياسي الجديد للثورة السورية وهو «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، وحصل حينها على اعتراف بعض الدول العربية ممثلًا للشعب السوري لكنه لم ينجح في تحقيق الانسجام مع الجسم الثوري والعسكري في الداخل، مما استدعى عقد عدة مؤتمرات أهمها في القاهرة في يوليو من العام نفسه تحت رعاية الجامعة العربية، وقد صدرت عن هذا المؤتمر وثيقتا «المرحلة الانتقالية» و«العهد الوطني» أو ما صار يُعرف لاحقًا باسم «وثائق القاهرة» على سبيل الاختصار.
أقرت الوثيقة الأولى «إسقاط الأسد ورموز السلطة» كهدف أسمى للثورة، لكن ذلك كان محل اعتراض ورفض شعبي، لأن هذه الصياغة الملتبسة قد يُفهم منها السعي إلى إسقاط مجموعة من رموز النظام فقط وليس إسقاطه كاملًا بكل رموزه وأركانه ومؤسساته، كما لم تسلم الوثيقة الثانية «العهد الوطني» من انتقادات واسعة بسبب محاولتها طرح رؤية استباقية أحادية لمستقبل سوريا بعد التحرير، وهي رؤية تتسم بقصور كبير في تحقيق هوية سوريا الإسلامية.
من جانبها، كانت الجامعة العربية قد طرحت مبادرة في يناير عام 2012م اقترحت تنازل بشار الأسد عن كامل صلاحياته لنائبه وتشكيل حكومة وطنية توافقية بين المعارضة والنظام، لكنها قوبلت برفض النظام العلوي الذي استغل حالة الانقسام الدولي حول مستقبل سوريا، فكان مصير الرؤية الدولية المشتركة التي طُرحت دوليًا والتي عُرفت بـ«بجنيف1» أشبه بمصير المبادرة العربية المشار إليها أعلاه، لذلك ظلت المحاولات الإقليمية والدولية دون أي نتائج تذكر.
2- توظيف النزاعات الطائفية:
خلال العام الثاني للثورة بدأ النظام السوري يتجه نحو إذكاء وتوظيف البعد الطائفي لتحويل مسار الثورة، وبرغم أن ثلاثة أرباع الشعب السوري البالغ 22 مليون نسمة هم من السنة إلا أن النظام حاول استغلال ذلك التنوع الطائفي عبر ممارسات متنوعة، خاصةً أن معظم المعارضين للنظام هم من أهل السنة الذين دفعوا ضريبة المعارضة إما بالموت تحت نيران طائرات النظام أو بالهجرة خارج البلاد أو بالنزوح إلى مناطق أخرى أكثر أمنًا أو الزج بالآلاف منهم داخل سجون النظام.
الملاحظة الجديرة بالاهتمام في هذا المقام أن آلاف المصابين والجرحى كانوا يخشون الذهاب إلى المستشفيات الحكومية خشية تعرضهم للقتل والتعذيب أو الزج بهم في سجون النظام، وبحسب الكثير من التقارير الصحفية والحقوقية فإن النظام قد بدأ يتعامل مع المواطنين وفقًا لانتماءاتهم الطائفية، مما عرض آلاف الجرحى للموت بسبب خوفهم من تلقي العلاج في مستشفيات الدولة.
لم يقتصر توظيف الطائفية على السني والعلوي فحسب، لأن النظام استغل الظروف الاجتماعية الصعبة للكثير من الأسر المسيحية واستدرج 1500 شخص مسيحي وضمهم للجيش بعد دخول الثورة عامها الثاني، وحوّل مدينة «محردة» ذات الأغلبية المسيحية في شمال ريف حماة إلى ثكنة عسكرية مستغلًا بعض الكنائس والأديرة كدير «محردة» كمواقع عسكرية، ووضع أكثر من 15 حاجزًا عسكريًّا على مداخل المدينة، التي أصبحت رأس حربة للنظام يستخدمها لقصف المدن المجاورة، مما أثار حفيظة تجمعات الجيش الحر وجبهة النصرة فبدآ بالرد على قصف مواقع النظام في هذه المدينة مما جعل الطائفة المسيحية في مواجهة مباشرة مع قوى المعارضة، ولا شك أن حرف بوصلة الثورة السورية نحو الحرب الطائفية قد مهد الطريق لدخول إيران وحزب الله اللبناني إلى الأراضي السورية لدعم نظام بشار.
المرحلة الثالثة:
التدخل الإيراني وظهور تنظيم داعش على حساب المعارضة
التحولات الجذرية التي طرأت على الأزمة السورية خلال عام 2012م بسبب دخول أطراف جديدة رفعت حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات، ففي منتصف عام 2013م قُدر عدد الضحايا بحوالي بحوالي 90 ألفًا أغلبهم من المدنيين والمعارضة ونحو 10 آلاف من قوات النظام، لكن مع اتساع نطاق المواجهات كان عدد الضحايا قد تجاوز 120 ألفًا مع نهاية عام 2013م، الأمر الذي كان كفيلًا بتحول المشهد السوري من مرحلة الأزمة إلى مرحلة الصراع.
استغل نظام بشار هذا الوضع الجديد وبدأ في استخدام أكثر الأسلحة فتكًا تجاه المدن التي تم تحريرها على يد المعارضة، فوصل الأمر في أغسطس 2013م إلى استخدامه للسلاح الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية والغربية وزملكا وغيرها، ما أدى إلى سقوط نحو 755 من الضحايا أغلبهم من المدنيين.
ومع نهاية عام 2013م كان عدد اللاجئين والنازحين قد ارتفع بشكل غير مسبوق، فكان العدد بداية هذا العام نحو مليون لاجئ ونازح لكنه بلغ حوالي 7 ملايين، ومع نهاية عام 2014م بلغت أعداد النازحين واللاجئين داخل سوريا وخارجها أكثر من ١٢ مليونًا، أي أن نصف سكانها تحولوا إلى مشردين.
1-حزب الله والمليشيات الشيعية:
بدأت المشاركة العلنية لحزب الله في القتال إلى جانب النظام بداية عام 2013م بحجة إفشال مؤامرة دولية ضد سوريا، فكان واضحًا أن الصراع الدائر في سوريا صراعًا وجوديًا بالنسبة إلى حزب الله، فسقوط النظام السوري هو بداية نهاية هذا الحزب والهيمنة الإيرانية في المنطقة، فكانت معركة القصير في مايو 2013م أهم المعارك التي خاضها الحزب ضد المعارضة السورية، حيث قُدر عدد مقاتليه بنحو 14 ألف، ووفقًا لشهادة الناطق باسم القيادة المشتركة للجيش الحر فإن عدد القتلى في صفوف قوات حزب الله اللبناني قد بلغ نحو 1100 قتيل سقطوا في عدة مواجهات.
لكن العدد الإجمالي للمقاتلين الشيعة الذين دخلوا الأراضي السورية خلال عام 2013م كان قد تجاوز 60 ألف مقاتل من جنسيات عراقية وإيرانية ولبنانية وأخرى يمنية، وذلك بحسب تقديرات هيثم المالح مسؤول المكتب القانوني في ائتلاف قوى الثورة.
تلك الأعداد الكبيرة التي دخلت سوريا عبر البوابة العراقية أو اللبنانية جعلت وزير الخارجية العراقي «هوشيار زيباري» حينها يقر بوجود مقاتلين شيعة في سوريا يقاتلون إلى جانب قوات النظام، لكنه شدد على أن ذلك لا يتم من خلال سياسة حكومية عراقية، كما أشارت مصادر يمنية إلى توجه مئات المقاتلين الحوثيين للقتال إلى جانب النظام، وأشارت إلى أنهم باتوا ينظرون إلى القتال في سوريا على أنه جهاد مقدس، وأن هؤلاء المقاتلين تطوعوا للقتال لأسباب عقائدية ومالية وبتشجيع من إيران، وأوضحت أنهم يذهبون إلى معسكرات تتبع حزب الله في لبنان قبل أن يتم نقلهم إلى الجبهة السورية.
2- ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش):
ردًّا على الهجوم الكبير لمليشيات حزب الله والمليشيات الشيعية المختلفة في القصير وسقوطها إلى جانب بعض القرى المجاورة، ومعارك الاستنزاف التي خاضها النظام على المدن السورية المحررة، وفي إطار تحول الصراع من حالته الثورية إلى حالته الطائفية، بدأ الكثير من المجاهدين العرب ينجذبون إلى سوريا لتلبية الواجب الديني والدفاع عن إخوانهم من السنة، فخلال عام 2013م قُدرت أعداد المقاتلين السنة من العرب وغيرهم الذين دخلوا سوريا بنحو 10 آلاف مقاتل، الأمر الذي مهد الفرصة لدخول تنظيم القاعدة والكثير من الجماعات الجهادية.
لكن التطور الأسوأ في عام 2013م والكارثة الأكبر في تاريخ الثورة السورية جاء حينما تم الإعلان عن ولادة تنظيم «داعش» في أبريل من العام نفسه، ثم تمدده خلال الشهور الأربعة الأخيرة منه في المناطق المحررة على حساب الكتائب المحلية والفصائل الإسلامية، حيث استطاع السيطرة على مساحات واسعة في محافظات حلب وإدلب والرقة والحسكة ودير الزور بعد تحريرها بشكل كامل في عام 2012م.
كان عام 2014م على موعد مع تمدد غير متوقع لتنظيم «داعش» فتمكن من طرد عناصر الجيش الحر في يناير 2014م من محافظة الرقة التي أعلنها عاصمة للخلافة المزعومة، كما سيطر بشكل شبه كامل على محافظة دير الزور النفطية، واستولى على عدة حقول نفطية وغازية في محافظة الحسكة شمال شرق البلاد وعلى مقربة من الحدود مع تركيا والعراق، فضلًا عن سيطرته على مدينة البغدادي قرب قاعدة الأسد الجوية.
وحتى منتصف عام 2014م أصبح تنظيم داعش يسيطر على نحو 35% من الأراضي السورية بمساحة متصلة جغرافيًّا، ممتدة من بادية حمص إلى الهول على الحدود السورية العراقية جنوب شرق محافظة الحسكة، وصولًا إلى بلدة الراعي على الحدود السورية - التركية، وعلى قرية شامر بالقرب من المدخل الشمالي الشرقي لمدينة حلب، وذلك وفقًا لتقرير المرصد السوري، لكن أغلب المدن والقرى التي وقعت تحت سيطرة تنظيم داعش كانت فصائل المعارضة قد تمكنت من تحريرها من النظام السوري خلال ثلاث سنوات مضت من عمر الثورة.
3-تراجع قوى المعارضة:
خلال عامي 2013م و2014م فقدت الثورة الجزء الأكبر من مكتسباتها الميدانية التي حققتها خلال مرحلة الصعود والانتصارات، بحيث صارت سوريا موزعةً بين خمس قوى رئيسية، هي:
• النظام الذي نجح في إعادة احتلال مواقع إستراتيجية مهمة كان الثوار قد حرروها في وقت سابق، وبات يسيطر على 23% مساحة سوريا، وهي المساحة الأهم التي يضم العاصمة وبعض المدن الكبرى (حمص وحماة وإدلب) وتشمل غرب سوريا بأكمله تقريبًا.
• حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (المتحالف مع النظام) سيطر بالتعاون مع قوات النظام السوري على النصف الشمالي من محافظة الحسكة، وينفرد بالسيطرة التامة على منطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي.
• أما تنظيم داعش الذي احتل ثلاثة أرباع المناطق التي حررها الثوار في حربهم مع النظام، بات يسيطر على نصف سوريا الشرقي كله، باستثناء الجزء الخاضع لسيطرة الأكراد في محافظة الحسكة.
• بينما القوى الثورية المستقلة أو ما يسمى اصطلاحًا الفصائل الإسلامية وكتائب الجيش الحر فقد انحسرت المساحات التي تسيطر عليها بحيث صارت تقتصر على نحو 15% من مساحة سوريا، وتضم: الجزء الجنوبي من محافظة حوران، ومحافظة القنيطرة، وأجزاء من محافظتي دمشق وريفها (المناطق المحاصرة في الغوطتين الشرقية والغربية وجنوب دمشق والقلمون) ومن ريف حمص الشمالي وريف حماة الشمالي، وجبل الأكراد، وريف إدلب، وقسمًا من مدينة حلب، بالإضافة إلى ريف حلب الغربي، وتشترك جبهة النصرة مع قوى الثورة في السيطرة على تلك المناطق المذكورة.
في هذا السياق استمرت حالة الشلل المؤسسي على المعارضة السياسية (الائتلاف الوطني) بسبب طبيعته القائمة على الكتل والمحاصصات، وبلغ التدخل الخارجي والصراع على النفوذ ذروته مع «فرض» الكتلة الليبرالية الجديدة على الائتلاف في مايو 2013م، وتسبب صراع النفوذ في عرقلة وتعطيل أهم المؤسسات الثورية السياسية التي يُنتظر من الائتلاف إنجازها، وهي «الحكومة الوطنية الانتقالية»، حيث أُعلن عن تشكيل الحكومة الأولى في مارس وتم إلغاؤها في يوليو، ثم شُكلت الحكومة الثانية في نوفمبر من عام 2013م. ولم تستطع أي من الحكومتين القيام بدورها السياسي والخدمي الحقيقي بسبب الصراعات والتناقضات الداخلية، التي أنهكت الائتلاف وتسببت في تعطيله وعزله عن الثورة.
المرحلة الرابعة:
التدخل الدولي واحتمالات تقسيم سوريا
لم يشفع للقوى الثورية المستقلة نجاحها في نوفمبر 2014م في الاجتماع تحت مظلة واحدة هي «مجلس قيادة الثورة» الذي أُعلن عن تشكيله في وقت متأخر جدًّا، لأن تمدد تنظيم الدولة على نصف مساحة سوريا أعطى مبررًا لتدخل الغرب عسكريًّا في سوريا بعد فشلة في توجيه ضربة عسكرية لنظام بشار الذي استفاد أيضًا من قوة الموقف الروسي وتراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، حينها أعطى تنظيم الدولة مبررًا كافيًا للتدخل العسكري الغربي ومن ثم الروسي.
من ناحية أخرى، تؤكد إحصائيات حديثة أن عدد ضحايا الصراع السوري قد اقترب من ربع مليون، كما أن عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار وصل إلى ٤٫٢ مليون بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، هذا بالإضافة إلى نحو ربع مليون لاجئ سوري في أوربا بحسب إحصائيات شهر يوليو 2015م، علاوة على 7.6 مليون نازح داخل سوريا، وبرغم ذلك لم تفلح التدخلات الدولية في إنقاذ الشعب السوري.
1- فشل التحالف الدولي:
بدأ التحالف الدولي المكون من 60 دولة أولى غاراته على الإرهاب مطلع أغسطس 2014م، واستمرت ضربات قوى التحالف على مدار عام كامل، تم خلالها توجيه أكثر من خمسة آلاف ضربة جوية وتدمير آلاف الأهداف، إلا أن ذلك لم يوقف تمدد «داعش» على خريطة الاشتباك في سوريا مما يلقي بظلال من الشك على الهدف الحقيقي من الغارات.
وبرغم هذا العدد الكبير من الضربات العسكرية إلا أن تنظيم داعش قد حافظ على مناطق نفوذه في سوريا، بل ونجح في التمدد إلى مناطق وسط البلاد حين سيطر على مدينة تدمر بعد تراجع قوات النظام السوري، كما أن خسارة التنظيم لبعض المدن لاسيما «كوباني» الكردية في شمال سوريا لم تكن ثمرة الحملة الجوية حصرًا، بل بسبب اقتران الضربات الجوية بالمعارك البرية التي خاضتها قوات كردية.
لذلك كان لفشل التحالف الدولي عدة عوامل كانت كفيلة بإعاقة حملته العسكرية، أهمها:
أ- استحالة التعاون مع القوات الحكومية التي تفتقد للشرعية بالنسبة لمعظم الدول، خاصة أن النظام السوري متهم بالتواطؤ مع تنظيم «داعش» أو في أحسن الأحوال عدم جديته في محاربته.
ب- ضعف وتشرذم المعارضة المسلحة واختلاف أهدافها وتعدد ولاءاتها.
ج- تخوف بعض القوى الإقليمية لاسيما تركيا من التواطؤ والدعم الغربي الصهيوني للأكراد في شمال سوريا بهدف عزل تركيا عن محيطها الإسلامي، الأمر الذي جعلها أقل دعمًا للتحالف الدولي حتى وإن كانت قد شاركت في بعض العمليات العسكرية ضد الإرهاب في سوريا، لذلك كانت متهمة بشيء من التساهل على حدودها الطويلة مع سوريا. د- فشل العمليات العسكرية الجوية كان يحتاج لعمليات برية إلا أن واشنطن كانت قد أبدت وعدة دول غربية عدم نيتها خوض أي معركة برية.
2- التدخل الروسي:
إذا كان التحالف الدولي قد رفض إعطاء أي شرعية لنظام بشار أثناء حربه على الإرهاب في سوريا فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا مطلع أكتوبر 2015م جاء أصلًا لدعم وإنقاذ النظام السوري، لكن أغلب التوقعات تشير إلى أن التدخل العسكري الروسي لم يأت إلى سوريا للقضاء على تنظيم «داعش» كما هو معلن، بل من أجل التخلص من فصائل المعارضة السورية التي تشكل خطرًا حقيقيًّا على نظام بشار.
وبعد مرور أكثر من أسبوعين على الضربات الجوية الروسية لأهداف مختلفة في سوريا أظهرت بعض النتائج الأولية أن تركيز تلك الضربات يستهدف مدن وقرى تلبيسة والرستن في ريف اللطمانة في ريف حماة، وهي مناطق لا تخضع لسيطرة «داعش»، كما تبين أن أول ضحايا القصف كانوا من المدنيين، فضلًا عن أن الإعلان الروسي المتكرر لقصف محافظة «إدلب» وحماة يؤكد بما لا يقبل التأويل أن فصائل المعارضة السورية هي المستهدف الأول، بينما يتم استخدام تنظيم «داعش» لتبرير الوجود العسكري الروسي فقط.
في الوقت نفسه، استغل النظام السوري قصف الطيران الروسي لمواقع الثوار وبدا أكثر تحفزًا نحو استعادة بعض المناطق في ريف حماة وسهل الغاب، لكن صمود الثوار حال دون نجاح قوات النظام في إحراز أي تقدم مهم، لكن حتى الآن لم يحقق النظام العلوي أي نجاح يذكر في هذا الشأن، لكن نجاحه الوحيد كان بفضل تنظيم داعش الذي تنازل طوعًا في يونيو 2015م عن بعض القرى في ريف حلب لقوات النظام السوري، ليؤكد تحالف كل الأطراف المحلية والدولية على الثورة السورية.
3- احتمالات تقسيم سوريا:
يبقى احتمال تقسيم سوريا وارد بقوة لأن النظام السوري قد أنجز الجزء الأكبر من المهمة، كما أن التدخلات الدولية ساعدت على ذلك بشكل كبير، خاصة أن مسألة الإعلان عن دولة كردية في الشمال السوري أصبحت قاب قوسين أو أدنى بفعل الدعم الغربي، كما أن سيطرة تنظيم الدولة على نحو نصف الخريطة السورية لم يعد يزعج المجتمع الدولي الذي يقف متفرجًا على التدخل الروسي الساعي إلى تفريق قوى المعارضة السورية فقط دون أي اكتراث لتمدد تنظيم الدولة، والواضح أن الهدف الأهم للتدخل الروسي يكمن في مساعيها القديمة في وضع موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط.
:: مجلة البيان العدد 342 صـفــر 1437هـ، نوفمبر 2015م.