المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن
إذا كانت الأدوات النقدية التقليدية عاملة في النصوص الأدبية منذ قرون إلا أنها لم تنفرد بالساحة النقدية طول الثلاثين سنة الماضية، حيث زاحمتها المناهج النقدية الحديثة واشتغلت على النصوص الشرعية والأدبية وغيرها، ولكن الجديد في هذا الاستعمال أن هذه المناهج تعاملت مع النص دون أي نظر إلى قائله، وهذه المساواة بين النصوص انسحبت على النصوص المقدسة: القرآن والسنة الصحيحة، حيث كانت الدعوات تتكرر من نقاد استلهموا هذه المناهج من المستشرقين، وأعملوها في قراءاتهم للقرآن الكريم بغية الوصول إلى نتائج تتفق مع المخرج العلماني في النهاية وتقرب الهوة بين الإسلام والغرب.
ولكن السؤال المطروح وبقوة: «ما الموقف من استخدام هذه المناهج؟»؛ خصوصًا أن بعضها ليس بالضرورة يؤدي إلى نتائج خاطئة بشرط ألا تكون القراءة أيديولوجية - هذا إذا افترضنا أن بعض هذه المناهج يحمل حمولة ثقافية معينة.
إن هناك تفريقًا بين اشتغال المناهج النقدية على النص القرآني أو السنة الصحيحة، وبين اشتغالها على بقية النصوص، وهو ما يمتنع قبوله في الأولى مع إمكان قبوله في الثانية. وهذا التفريق بين النص القرآني وغيره من النصوص من منطلق شرعي ديني، كما أنه من منطلق فلسفي أيضًا، فإذا نظرنا إلى النصوص البشرية سواء كانت نصوصًا تاريخية أو نصوصًا أدبية، أو أية نصوص سردية، فإنه لا يمكن أن تتشكل هذه النصوص بعيدًا عن أي مؤثر خارجي، فهي بالضرورة ابنة مجتمعها الذي تولّدت فيه، بما فيه السياقات الاجتماعية، ونوازع الكاتب وأغراضه لا يمكن أن تنفك عن النص، ولا يمكن للنص أن يتجرد منها بحال من الأحوال، وهي إلى حد ما مدخل من مداخل نظرية «التناص» المعروفة، وهذه النظرية فيها جانب كبير من الصواب، مع أنها ليست جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هناك من تكلم عنها من نقاد الأدب في القديم، والشعراء أشاروا إلي شيء من هذا المعنى كما قال كعب بن زهير:
ما أرانا نقول إلا معارًا
أو معادًا من قولنا مكرورًا
لذلك فالنص البشري في هذه الحالة سيكون مجالًا خصبًا للممارسة النقدية في ضوء المناهج الحديثة، فظروف تشكل النص تسمح بمثل هذا، فعلى سبيل المثال عندما نُعمل المنهج اللساني الحديث في الأمثال الشعبية، وكيف تشكّلت مدلولاتها بناء على الخلفية الاجتماعية؛ فإننا نخرج بنتائج صحيحة وجيدة، فكم من مثلٍ أو عبارة لها دلالة إيجابية في مجتمع ما، بينما هي نفسها لها دلالة سلبية في مجتمع آخر، فهناك اتفاق في دوال معينة بينما يكون الاختلاف في المدلولات. والخلاصة أنه لا يمكن للنص البشري أن ينفك عن مؤثرات ساعدت أو أثرت في تشكله أيًّا كان هذا التأثر.
وعندما يكون الحديث عن النص القرآني فإننا نؤمن أن القرآن نص إلهي، بمعنى أن جميع ما ذكر في النص البشري لا ينطبق عليه بتاتًا، فهو نص متعلق بالذات الإلهية، والقرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الله، وتكوينه لا يتأثر بأي مؤثر خارجي. ولأن اشتغال هذه المناهج في النص المدروس فرع عن طبيعة النص نفسه، فإذا كانت طبيعة النص لا تسمح به كما هو النص القرآني فلا يمكن فلسفيًّا أن يصح اشتغال المنهج عليه.
ولبيان الموضوع بشكل أكثر إيضاحًا، فإن الحديث عن المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن موضوع متشعب والحكم فيه لا يمكن أن يكون نهائيًّا، حيث إننا نتعامل مع ثقافة في طور التشكل وهذا له صعوبته المعروفة، وهو بخلاف التعامل مع ثقافة مكتملة تم تسلمها دفعة واحدة كما حصل مع المسلمين الأوائل الذين تعاملوا مع الوافد اليوناني، هذا الأمر يجعل المسألة صعبة الحسم بشكل نهائي، لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع الوقوف على الصواب فيما يتعلق بممارسة المناهج الحديثة في دراسة القرآن كما لا بد من البيان أيضًا أن هذه المناهج النقدية متعددة بشكل كبير جدًّا وفيها من التداخل الشيء الكثير، وبعض مباني هذه المناهج ليس جديدًا بل نحن نمارسه في حياتنا اليومية، وهو ممارس قديمًا وحديثًا، لكن لم يكن منصوصًا عليه، والفرق أنه كان يستخدم بشكل بدائي وتلقائي أما في النظريات النقدية الحديثة فقد أخذ الصبغة العلمية بشكل أكثر تطورًا.
من وجهة النظر العلمية، من المهم التفريق بين استخدام تلك المناهج النقدية في استخراج الدلالة الشرعية، وبين استخدام المناهج في قراءة النصوص التاريخية كالسيرة النبوية، أو لنقل النصوص التي نشأت حول ضفاف النص القرآني لا لغرض استخراج الدلالة الشرعية المباشرة، هذا جانب. أما الجانب الآخر: فمن المهم التفريق بين خطاب الأنا والآخر، وأقصد به استخدام المناهج النقدية في الخطاب الموجه إلى من يعترف بالمتفق عليه من الأسس المنهجية الاستدلالية المعروفة في أصول الفقه، وبين الآخر المخالف لنا في تلك المناهج الاستدلالية، كمن يشكك في تلك المناهج ويرى أنه تم تدشينها بناء على نزعات أيديولوجية.
صار لدينا الآن أربعة مفاصل مهمة في استخدام المناهج النقدية الحديثة في دراسة القرآن:
المفصل الأول: استخدام المناهج النقدية في استخراج الدلالة الشرعية من القرآن، وهذا لا شرعية له إطلاقًا؛ حيث إن الدلالات الشرعية لا تستخرج بمثل هذه الظنيات، وإلا لتحولت الدلالة الشرعية إلى دلالة ظنية، والمباحث الأصولية قد توسعت بشكل لا يدع أحدًا يزايد عليها في قدرتها على استخراج الدلالة الشرعية من النصوص القرآنية، وفيها من الانضباط والاتساق ما لا يمكن أن يتحقق في المناهج النقدية الحديثة، إضافة إلى أن المباحث الأصولية نشأت وتشكلت لهذا الغرض، فهي مناهج «مأصولة» - إذا استعرنا مصطلح طه عبدالرحمن.
أما المفصل الثاني: فهو استخدام المناهج النقدية في النصوص التي نشأت على ضفاف النص القرآني، ولنقل مثلًا علوم القرآن أو المسائل الفقهية ونشأة الفقه الإسلامي، فهذه ليس الغرض منها استخراج الدلالة الشرعية المباشرة وإنما قراءة الواقع أو استخراج بعض مقومات الحكم الشرعي، فمن وجهة نظري إن استخدام المناهج النقدية في هذه الحالة فيه شيء من السعة، فمثلًا قراءة المجتمع المكي والمدني أثناء البعثة المحمدية من زاوية المنهج المادي تعطي نتائج غير مذكورة في كتب السيرة والتاريخ. وهناك محاولة لمحمد عابد الجابري، أصنِّفها قراءةً مادية للتاريخ، في الجزء الثالث من رباعيته، وهو كتاب «نقد العقل السياسي العربي»، حيث إن جزءًا من تفسيراته مقبول علميًّا ولا يخالف عموم ما تقرر من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وصحابته وتاريخ الحقبة الأولى من التاريخ الإسلامي، وهذا لا يعني الموافقة التامة بل هو قد غالى في الجانب المادي في بعض النواحي غلوًّا يقدح في شخص النبي عليه الصلاة والسلام، كقوله عن زواج النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رضي الله عنها بأنه «زواج سياسي»! ومثله هشام جعيط في تجربته مع السيرة النبوية. وليس القصد تقييم الجابري أو جعيط ولكن الغرض بيان أن المناهج النقدية في مثل هذا الحقل وما شابهه قد تعطي بعض النتائج الجيدة، وأرى أنها مقبولة علميًّا لكن الحساسية أحيانًا من النص على المنهج باسمه، لأن بعض النتائج متداولة قديمًا وحديثًا، بل هي متداولة قديمًا بشيء من التلقائية والعفوية بدون تأسيس علمي لها، بخلاف استخدامها في المدارس النقدية الغربية.
أما المفصل الثالث من استخدام النظريات النقدية في دراسة القرآن، فهو استخدامها في خطاب من يتفق معنا في المنطلقات، وأعني بها الأسس الاستدلالية سواء قلنا إنها مناهج الاستدلال المشهورة في أصول الفقه بمختلف أدواتها، أو مناهج الاستدلال في العقيدة، فلا أرى الحاجة تدعو إلى استخدامها لأن النتائج يمكن الحصول عليها بالطرق المتفق عليها وبالأدوات المتداولة في عموم العلوم الإسلامية، سواء قلنا إنها أدوات علوم القرآن مثلًا أو أصول الفقه أو مناهج الاستدلال في العقيدة، هذا طبعًا إذا كان الغرض من الاستخدام استخراج الدلالات الشرعية، أما إذا كان الغرض قراءة الواقع أو استخراج بعض مقومات الحكم الشرعي فقد سبق بيان ذلك وأن المسألة فيها شيء من السعة.
بقي المفصل الأخير من استخدام المناهج النقدية في دراسة القرآن وهو استخدامها في مخاطبة الآخر المختلف معنا في المنطلقات، ويكون ذلك في حالتين: التقرير والنقد، أما التقرير: فهو استخراج الدلالات الشرعية من خلال المناهج النقدية في مخاطبة الآخر، وهذا سبق الكلام فيه وأنه لا يصح بل إنه لا يستقيم منهجيًّا حتى لو كانت النتائج صحيحة لأن بعض النتائج يمكن أن تحصل بالمنهج النقدي الغربي ويمكن أن تحصل بأدوات أصول الفقه وعلوم القرآن لكن هذا لا يعني صواب الاستخدام، لأن إقرار المنهج في نص شرعي يلزم منه سحبه على بقية النصوص الشرعية، وهذا ما لا نسلم به. أما الحالة الثانية: أن يكون الاستخدام في مجال النقد، وهذا الاستخدام من وجهة نظري من أهم الأمور، بل يمكن أن يكون الوسيلة الأكثر نجاعة في نقد الآخر، لأن النقد أفضل ما يكون إذا انصب على المناهج والأدوات قبل النتائج، خاصة أن خلافنا مع كثير من نقاد النصوص القرآنية الذين يزعمون ضرورة إعادة قراءتها إنما هو خلاف في المقدمات قبل أن يكون خلافًا في النتائج، فبالمناهج النقدية نستطيع نقض ما أبرمه كثر من العلمانيين، وهذا من السهولة بمكان إذا استطعنا توظيف نقد المناهج النقدية بعضها لبعض، واقتنصنا فرصة عدم ثبات النظريات النقدية، فيمكننا بكل سهولة زعزعة كثير مما يقال عنه أنه نظريات، ويكون هذا الاستخدام من باب النقد والإلزام لا من باب التقرير.
بقي التأكيد على هناك نقطة أخيرة في موضوع المناهج النقدية الحديثة في قراءة القرآن وهي أن هذه المناهج ليست محددة المعالم بشكل دقيق، بعكس مناهج وطرق الاستدلال في أصول الفقه وعلوم القرآن مثلًا، بل هي أشبه بمفاهيم ومحددات كلية تتشكل بصور مختلفة، ولذلك نجد هناك تفاوتًا في استخدامها بين المشتغلين في نقد النص القرآني، وهذا يسمح لنا باستخدامها أدوات مساعدة في استخراج النتائج على التفصيل الذي تم ذكره سابقًا، بحيث نشكل المنهج بما يتناسب مع المسألة المدروسة، وهذا مقبول علميًّا إلى حد ما، حتى عند المستخدمين لهذه المناهج النقدية، فالجابري مثلًا يؤكد أنه يستخدم هذه المناهج بالشكل الذي يراها تكون منتجة فيه، ومثل ذلك أركون، وبغض النظر عن صحة ذلك منهجيًّا فإنه مقبول في الجملة (في مجال النقد) على الوضع الذي تم تفصيله، فمثلًا يمكن أن نستخدم نظرية موت المؤلف مثلًا في نقد النص (غير القرآني والنبوي) بعيدًا عن تأثير مكانة المؤلف، وهذا يستخدم كثيرًا في النقد الأدبي، ويمكن أن نستخدم بعض مفاصل النظرية الوجودية، في تحليل أسباب الخلاف الفقهي مثلًا، وأن ذلك راجع إلى ظروف تشكل الفهم في عقلية الفقيه أولًا، وقد أشار ابن تيمية إلى شيء من هذا وإن لم يسم ذلك بالوجودية أو الأنطلوجيا طبعًا، ويمكن أن نستخدم مثلًا بعض مفاصل نظريات جماليات التلقي (تربط بين فهم النص بشكل أكثر دقة واعتبار حالة المتلقي ومدى تفاعله مع النص) على صحة فهم السلف وهكذا.
:: مجلة البيان العدد 342 صـفــر 1437هـ، نوفمبر 2015م.