المساجد وتصحيح المسار الإصلاحي
إن عمارة المساجد تشييدًا وصلاةً وتدريسًا ودعوةً من أمارات الإيمان والخشية، ومسلك
من مسالك الهداية؛ يقول الله تعالى: {إنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ
الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن
يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ}
[التوبة: 18].
والمسجد ركن من أركان الدولة في الإسلام، وكان تشييده من أوائل الأعمال التي قام
بها رسول الله صلى الله وعليه وسلم حينما استقر في المدينة لتكون عاصمة الدولة
الإسلامية، وقد أثنى الله عز وجل على هذا العمل وزكى أهله، يقول الله تعالى: {لَّـمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ
رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:
108].
وانطلقت الرسالة الإسلامية من المسجد، فهو مهبط الوحي، ومدرسة التربية والتعليم،
وكلية العلوم، وجامعة المعارف، ومقر الإفتاء والقضاء، ومركز صناعة القرار السياسي
والاقتصادي، وملتقى الوفود والسفراء، ومجمع بناء العلاقات الداخلية والخارجية،
وساحة التأهيل العسكري، ومحطة البث الإعلامي، ومنطلق بناء العلاقات الاجتماعية
والروابط الأسرية لتستظل بالشريعة بعيدًا عن هوى النفس ونزغ الشيطان وإغواء رفقة
السوء. عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسولَ الله صلى الله وعليه
وسلم قال: «أعلِنوا هذا النكاحَ، واجعَلوه في المساجدِ» (رواه الترمذيُّ)، وروي
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله وعليه وسلم قَالَ إِنَّ
الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ يَأْخُذُ الشَّاةَ
الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ وَعَلَيْكُمْ
بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ (رواه الإمام أحمد وصح موقوفًا).
ومثلما أكد الإسلام على رسالة المسجد في مجالات الحياة، فإنه التفت إلى منزلة رواد
المساجد كونهم حلقة الوصل بين الشرع والناس، يبلغونهم رسالة الإسلام قولًا وعملًا
وحالًا، قال تعالى: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ
فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ صلى الله وعليه وسلم36 رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ
يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار37 لِيَجْزِيَهُمُ
اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:
36 - 38]، فهم
يرتقون فيها من الشك إلى اليقين ومن الضلال إلى الهدى ومن الجهل إلى العلم ومن
الشقاء إلى السعادة، ومن الفرقة إلى الاجتماع، ومع هذا التغيّر في أحوالهم يعملون
على تغيير الآخرين وإصلاحهم، والارتقاء بالمجتمعات نحو هذه المعاني السامية
والمقاصد العلية.
فقد أثبتت الوقائع التاريخية أن أبناء المساجد الذين تربوا فيها ونشأوا تحت سقوفها،
ونهلوا من حلقاتها، وتعلقت أفئدتهم بها؛ كانوا أعمق المسلمين إيمانًا، وأشدهم في
دين الله، وأكثرهم تضحية لنصرة دين الله، وأقربهم صلة بالشريعة؛ فهم في العلم
أكثرهم خشية، وفي السياسة أحرصهم على الشرعية والعدل، وفي الجهاد أصدقهم في اللقاء
وأقلهم فتنة، وفي الاقتصاد والمال أورعهم عن الشبهات، وفي الحياة الاجتماعية أكثرهم
اقتصادًا للشهوات، وفي المجتمع أثقلهم في تحمل المسؤوليات. ولذلك استحقوا تزكية
الله تعالى وتزكية رسوله عليه الصلاة والسلام، والشهادة لهم بالإيمان والصلاح، قال
رسولُ الله صلى الله وعليه وسلم: «إذا رأيتم الرجلَ يعتاد المساجدَ، فاشهَدوا له
بالإيمانِ، قال الله تعالى: {إنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}،
الآية» (رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه).
إن التغيير والإصلاح المنشود في المجتمع الإسلامي سبيله المساجد، فيشهد التاريخ أن
النهضة الإسلامية وحركات التحرر كان منطلقها المساجد، وتخرَّج من أروقتها قادة
الفتح والعلماء الأعلام وزعماء الإصلاح الذين حملوا راية الإسلام، ونشروا تعاليم
الدين في مشارق الأرض ومغاربها، والتغيير لا يكون إلا إذا تحقق الآتي:
أن يقوم المسجد برسالته كاملة كما كانت في القرون الفاضلة، وعلى الجهات المعنية
بذلك كوزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في الدول العربية والإسلامية أن تضع الخطط
الريادية لتحقيق ذلك.
أن تناط إدارة المساجد بمجموعة متكاملة في مقدمتهم الإمام والخطيب، وأن يكون
متمكنًا في علمه مؤثرًا في محيطه، يعاونه شخص مؤهل إداريًّا لإدارة مرافق المساجد،
وتنظيم نشاطاته الداخلية والخارجية، مع العمل على تأهيل الملَكات الموجودة وتنميتها
والارتقاء بها في العلم الشرعي وكذلك المهارات.
مع العناية بالمساجد الكبيرة وإناطة الخطب والوعظ والتدريس فيها بالأئمة الأعلام
والعلماء الجهابذة، الذين يصدعون بالحق والحكمة، لا يخشون إلا الله ولا يخافون فيه
لومة لائم، يأسرون القلوب بدرر وعظهم ويفتحون العقول بنفائس علومهم، ويزرعون
المهابة في الصدور بجلالة قدرهم، وعظم شأنهم، ويحصدون محبة الناس بزهدهم بما في
أيدي الناس ولاسيما الولاة والحكام.
أن يكون مقر بعض المؤسسات لاسيما المدارس الشرعية والكليات الإسلامية والهيئات
العلمية والمراكز الإفتائية في المساجد الكبيرة، كما تُلحق مساجد بالمؤسسات الأخرى
كالقضاء تذكرهم بالله وتحثهم على طلب رضا الله وهم يؤدون مهامهم المتعلقة بحقوق
الناس، يقول: الدكتور
عبدالرحمن السيد في كتابه «مدرسة البصرة النحوية»:
«لم
تكن هناك بطبيعة الحال مدارس منظمة أو معاهد مهيَّأة يلتقي فيها المعلمون
والمتعلمون على النحو الذي نراه في عصرنا الحاضر، وإنما كانت الدراسة ملائمة لهذه
الحقبة من تاريخ البشرية، متمشية مع حاجات الناس في ذلك العصر المتقدم، فكان من
جملة ما يسعى إليه الدارسون لأخذ العلم والأدب واللغة المساجدُ، فكانت حلقات
الدراسة تُعقَد فيها».
على إدارة المسجد الاهتمام بالمؤسسات القائمة في محيطه ومنطقته، والتواصل مع
القائمين عليها، وتقديم العون لهم في أداء رسالتهم الإيجابية في المجتمع.
إحياء الوقفيات على المساجد أو أنشطتها، فالعامل الاقتصادي له دور في إحياء رسالة
المسجد في المجتمع.
توظيف وسائل الإعلام في تبليغ رسالة المسجد، والاستعانة بالعلماء والدعاة الذين لهم
حضور إعلامي في بعض نشاطات المساجد لاسيما الكبيرة، وكذلك ذات البعد الاجتماعي فهم
عامل جذب، والاهتمام بنشر المطبوعات الإسلامية الهادفة.
تشجيع أبناء المسلمين على ارتياد المساجد والتعلق بها، مع فتح مرافق ثقافية ورياضية
واجتماعية، ملحقة بالمسجد، وضبط عملها، لجذبهم إلى المسجد، وتفريغ طاقاتهم بنشاطات
شرعية ونافعة لعقولهم وأبدانهم ولمجتمعهم.
إن هذه الحركة الإصلاحية التي نبتغيها في المساجد، لتصحيح المسار، لن تكون بمنأى عن
الحركات الهدامة من قبل خصوم الإسلام، الذين يدركون أهمية المساجد ودورها الإصلاحي،
ويعملون على هدمها ليس في الجانب المادي وإنما بحرفها عن وظيفتها الربانية، بل
وتوظيفها لهدم الإسلام من خلال منابرها، وتقديم القدوات المنحرفة من خلال الأئمة
الأدعياء، وهذا قد يكون أشد خطرًا، وأعظم أثرًا.
ومن هنا ينبغي أن نواكب الرسالة الإصلاحية للمسجد بحملة وقاية ضد من يريد حرف مسار
الإصلاح أو توظيفه لخدمة خصوم الإسلام وأعداء رسالته.
الحركة الإصلاحية لمساجد العراق:
ومن الشواهد على أن الحركة الإصلاحية في المؤسسات الدينية سوف تلقي بظلالها على
المجتمع، ما شهده العالم الإسلامي من أنموذج معاصر لصحوة إسلامية أضاءت بنورها أكثر
بلدانه، يقول د. عبدالرحمن
الرواشدي في كتاب العرب السنة في العراق: وكان
حظ العراق منها موفورًا لاسيما في العقدين اللذين سبقا الاحتلال الأمريكي للعراق في
عام 2003م،
فقد شهدت المدن ذات الأغلبية السنية ومناطق في المدن ذات الأغلبية الشيعية نشاطًا
إسلاميًّا ملحوظًا تمثلت صوره بالآتي:
انتشار واسع للمساجد، وتضاعف عددها.
إحياء رسالة المسجد في إصلاح المجتمع وقيادته.
انتشار الكتاب والشريط الإسلامي.
الارتقاء بالوعي الإسلامي لدى كثير من شرائح المجتمع.
تزايد عدد الدعاة وطلبة العلم، لاسيما بعد فتح الدراسات المسائية في الجامعات،
ومنها كلية العلوم الإسلامية، وانتشار حلقات العلم في المساجد.
انطلاق الحملات الإيمانية (بصورة
رسمية) وتم
توظيفها من قبل الدعاة وأئمة المساجد في الدعوة الإصلاحية.
شيوع الالتزام بالهدي الإسلامي الظاهر من قبل الرجال والنساء، وفي مؤسسات المجتمع
كافة ولاسيما المدارس والجامعات والمصانع.
تأثر المحيط الاجتماعي بالصحوة الإسلامية، مما أدى إلى هداية كثير من العلمانيين
ومنهم البعثيون وتأثرهم بالمنهج الإسلامي الصحيح، وتحول أعداد كبيرة من الشيعة وبعض
النصارى إلى اعتناق منهج أهل السنة والجماعة، حتى وصل الحال إلى تحول مناطق وقرى
بأكملها.
:: مجلة البيان العدد 337 رمضان 1436هـ، يونيو - يوليو 2015م.