• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإرهاب واحتلال المصطلحات

الإرهاب واحتلال المصطلحات


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون..

مذ خلق الله الخلق والناس معسكران: معسكر في مقدمته رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، يسلكون بهم طريق الهداية والرشاد، وهو معسكر الإيمان؛ ومعسكر يقدمه الشيطان ليقود بهم في طريق الغواية والخسران، وهو معسكر الكفر؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: ٢].

فالحرب بين المعسكرين قائمة لا تنتهي ما دامت السموات والأرض، والمعركة معركة وجود أو زوال؛ أي إنها صفرية لا تقبل بأنصاف الحلول أو التنازلات المتبادلة من المعسكرين: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. وتأخذ الحرب صورًا كثيرة متنوعة بحسب الأوضاع، ومن صور الحرب بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر التي بدأت تنتشر في العصر الحديث حرب احتلال المصطلحات، فيبتدعون مصطلحًا يقبحونه ويذمونه ويملؤونه بمضمون لا تدل عليه لغة ولا اصطلاح ويحاولون إلصاقه بالإسلام والمسلمين، وإذا انطبق هذا المصطلح بحسب تعريفهم على أفعال بعض النصارى أو اليهود سارعوا بتبرئتهم من انطباق هذا المصطلح عليهم ليكون هذا المصطلح المذموم محجوزًا فقط للمسلمين، من ذلك مصطلح «الإرهاب» الذي أذاعه الغرب ونشره وحاول إلصاقه بالإسلام والمسلمين. ومن عجب أن الدول التي صكت هذا المصطلح وأشاعته تركته عائمًا غير مضبوط بضوابط حتى يكون سيفًا مصلتًا على الرقاب يدخلون تحته من أرادوا ويوظفونه متى شاؤوا، وذلك خدمة لمطامعهم وعداوتهم للإسلام. واستخدام هذا الأسلوب في الحرب محبب للدول الطاغية الظالمة؛ وذلك لقلة تكلفته بالنسبة لصور الحرب الأخرى ولشدة تأثيره وعظيم نتائجه وإمكانية التلاعب بمدلوله بحيث يوصم به من شاؤوا وينفونه عمن شاؤوا، وقد كان حظ الإسلام والمسلمين منه النصيب الأوفى، وكذلك حركات التحرر ومقاومة الظلم والاستبداد. ومتابعة ما يحدث من مواقف متناقضة في العالم تبين حقيقة هذ الكلام كما سنشير إلى بعضه.

الإرهاب لغةً: الإزعاج والإخافة، وكل استخداماتها في اللغة وآيات الكتاب العزيز تدور حول الخوف والخشية كما في قوله تعالى: {وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]؛ يقول: وإياي فاخشون، وقوله: {وَلَـمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]؛ يرهبون: يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه، كما استخدمت للدلالة على إعداد القوة لإخافة عدو الله والمسلمين كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]؛ وهذا أمر مطلوب ليس فيه منع أو نهي قال الرازي: «وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة، إلا أنه من فروض الكفايات»[1]، وهو مما يبين أن إعداد العدة وسيلة من وسائل التخويف لأعداء الدين، وإعداد العدة المرتكز على الإيمان القوي أهيب للمسلمين في صدور الكفار من الله كما في قوله: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم} [الحشر: 13].

والتخويف قد يكون بحق فيطلب ويحمد، وقد يكون بباطل فينهى عنه ويذم، وقد ورد التخويف بالباطل فيما فعله سحرة فرعون في قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116١].

والتخويف بالباطل أولى ما يطلق عليه لفظ المحاربة والفساد في الأرض وإخافة السبيل وقطع الطريق؛ كما قال تعالى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: ٣٣]، لكن الدول الطاغية المستبدة المفسدة في الأرض أرادت أن تدخل كل الصور الفاسدة من صور المحاربة أو الإفساد في الأرض تحت لفظ الإرهاب وترمي به المسلمين ودينهم، بينما المفسدون في الأرض حقيقة كاليهود في فلسطين الذين يقتلون الفلسطينيين ويسجنونهم ويعذبونهم لدفاعهم عن أراضيهم المغتصبة، وما فعله أضرابهم من الروس في الشيشان والأمريكان في أفغانستان والعراق، والهندوس في كشمير والبوذيين في مسلمي بورما والمليشيات النصرانية في مسلمي إفريقيا الوسطي، والصرب في البوسنة والهرسك وكوسوفا الذين يحتلون بلاد المسلمين من التقتيل والإبادة ويقتلون من يسعون لتحرير بلدانهم ويقمعون من يخالفهم أو يعارضهم من أصحاب البلاد الأصليين لا يصفونهم بوصف الإرهاب بل يبرؤونهم منه، كما قصفت أمريكا مصنعًا للأدوية في السودان زعمت أنه مصنع للمواد الجرثومية مع أن السودان لم تكن في حالة حرب معها كما أنه لا توجد لها مع أمريكا حدود مشتركة، وبرغم أن هذا إرهاب إلا أنه لم تقم مؤسسة دولية لإدانة هذا العمل الهمجي مجرد إدانة فضلًا عن عقوبتها على ما أقدمت عليه، ومنذ أسابيع قليلة تطاول صحافيو صحيفة شارلي إيبدو الساخرة التي تصدر في فرنسا على مقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم أعظم إنسان في التاريخ، فغضب لذلك أناس وعاقبوا بعض الصحفيين بالقتل، وبرغم ما يحيط بهذه العملية من شكوك لكن سارع الغرب باتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب، وكأن المسلم حتى لا يكون إرهابيًّا ويعطى شهادة بحسن السير والسلوك عليه أن يتقبل كل إهانة لدينه ورسوله بسرور وانشراح صدر ولا تتحرك فيه نوازع الغيرة والدفاع عن أغلى شيء عنده.

وبعد ذلك بأيام قلائل قام أمريكي بقتل أسرة فلسطينية مسلمة في أمريكا لإسلامها فلم تقم تلك الضجة وُعدَّت عندهم جريمة عادية، كما حدث قبلها الشيء نفسه عندما قتل رجل ألماني امرأة مسلمة سورية في المحكمة لإسلامها ولم يُتهم لا هو ولا دينه بالإرهاب؛ مما يبين الإصرار على وصم الإسلام بالإرهاب الذي يذمونه برغم أنه لا يمتنع وقوع الخطأ أو الجريمة من المسلم، لكن ما دام دينه لا يأمره بها بل يأمره بضدها فلا يمكن نسبتها إلى الدين.

لقد أصبح «الإرهاب» سمة من سمات العصر، أخذ الغرب منه بنصيب كبير جدًّا، لكنهم أسموه بأسماء خادعة؛ فباسم «الحرب على الإرهاب» أضحى الإرهاب صناعة رائجة!

ومن أنواع الإرهاب المسكوت عنه في أروقة المنظمات الأممية والإعلامية:

أولًا: الإرهاب الذي تمارسه بعض الدول، وتتعدى به على الحقوق والحرمات ظلمًا وعدوانًا. ومن أبرز أمثلته: إرهاب الكيان الصهيوني في الأرض المحتلة، وانتهاكه الصارخ لمقدسات المسلمين وحقوقهم، وإرهاب الغرب الذي امتدَّ منذ عهود «الاستخراب» الذي يسمونه الاستعمار، إلى إرهابهم في أفغانستان والعراق، وإرهاب الروس في الشيشان وداغستان وبلاد القرم، وكذلك إرهاب النظام الأسدي الذي تجاوز كل الأعراف في طغيانه وسحقه للشعب السوري!

ثانيًا: إرهاب المتطرفين الهندوس في كشمير، والمتطرفين البوذيين في بورما، وإرهاب المليشيات المتطرفة النصرانية في إفريقيا الوسطى!

ثالثًا: إرهاب الشيعة المتطرفين في العراق وسوريا واليمن ولبنان، حيث يمارسون القتل على الهوية، واستهداف المساجد والأوقاف السنية، وتهجير السكان الأصليين من دورهم ومدنهم!

رابعًا: إرهاب المتطرفين الغربيين في أوربا وأمريكا الذين شرقت حلوقهم بانتشار الإسلام، فغلبت عليهم نزعة الخوف من الإسلام (الإسلام فوبيا)، فراحوا يسخرون من نبي الإسلام # برسومهم المسيئة، ويضيقون على المسلمين ويمنعونهم من إظهار شعائرهم، ولعل آخر الأمثلة قيام الإرهابي الأمريكي بقتل الأسرة الفلسطينية المسلمة في أمريكا، ومع ذلك سكت الإعلام ولم يجد في قاموسه القانوني ما يتهم به هذا القاتل بالإرهاب!

خامسًا: إرهاب غلاة الليبراليين واليساريين من بني جلدتنا، الذين يتطاولون بكل جرأة وصفاقة على الدين وأصوله وثوابته ورموزه وجذوره العقدية والحضارية!

إنه عبث حقيقي في صياغة المصطلحات، وتقصد ماكر في تغييب الوعي..

والغريب في الأمر أن ذلك لم يقتصر على مواقف الدول الغربية والمؤسسات الدولية ووسائل الإعلام النصرانية أو اليهودية ونحوها بل امتد ذلك إلى كثير من وسائل إعلام عربية أخذت تسوّق لمصطلحات الغرب، وتمارس دور التضليل والخلط، وتوظف هذا المصطلح لتمرير بعض الرؤى العلمانية لحرب المسلمين.

إن عملية احتلال المصطلحات وتعبئتها بمضمون فاسد غزت البلاد والعقول من أبناء جلدتنا حتى تحول كثير من أبناء أمتنا إلى ما يشبه الناطق الرسمي باسم أعداء أمتنا!

فمتى يتحرر مثقفونا وكتابنا من عقدة ذنب لم يرتكبوه؟ ومتى تتحرر المصطلحات من احتلال الغرب لها وتسويقها في بيئتنا حتى يغدو كثير من أبناء جلدتنا أشد حماسة لها ودفاعًا عنها أكثر ممن صكوها ونشروها وسوقوها؟

:: مجلة البيان العدد  334 جمادى الآخرة  1436هـ، مارس – إبريل 2015م.


[1] التفسير الكبير 15/499.

أعلى