• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
فقه التراكمات

فقه التراكمات

قصة الإنسان في هذه الدنيا عبارة عن سلسلة من التراكمات الناتجة عن الحركة المستمرة للحياة، واطراد الأحداث وتجدد الوقائع، فالاستمرارية والحركة سنتان عظيمتان من السنن الكونية، التي تمضي عليها الحياة على هذه البسيطة، وهو ما نبه إليه الكثير من نصوص الوحيين، التي تعمق في نفس المسلم معاني الاستمرار والحركة، ولعل أبرزها حديث الفسيلة العظيم، الذي يتجاوز بالمسلم أخص ظرف وأخطر مرحلة - نهاية العالم - ليرسخ فيه مبدأ التفاعل مع الحياة، لذلك يعد نصًا محكمًا في تعميق معانى الاستمرار والتواصل.

وبرغم حيوية وأهمية عنصر التراكمات في حياة الأمم، باعتباره يشمل العنصر الزمني والمكاني والبشري، إلا أن الاهتمام به لم يجد حقه من الرصد والاستقراء والتحليل والاستنتاج، ولعل قلة الدراسات العميقة والأصيلة منذ عصر  ابن خلدون إلى يومنا هذا - اللهم إلا صنيع مالك بن نبي رحمه الله - دليل قوي على هذه الملحوظة التي تنبئ عن ضعف الأمة في تجسيد منهج علمي حقيقي ترصد به حركة كل مرحلة من البداية إلى المصير، بل إن الأمة صارت عاجزة حتى عن تحديد البدايات والنهايات المرتبطة بالمراحل التي تمر بها، وهو إخفاق له ما بعده، من تعارض وتناقض في النظر لكل مرحلة وتجسيد كل مشكلة، وبناء الحلول عليها، وهو ما نعيشه واقعًا اليوم. لماذا فقه التراكمات؟

لأن الحياة مراحل تتوالى، لا قطع منفصلة تسقط مرة واحدة على الناس بين الفترة الزمنية والأخرى، وهذا ما نجده في كل الأمم عند استقراء تاريخها المسطور، وما دامت الحياة عبارة عن مراحل متسلسلة فإن هذا يعني بداهة تأثير كل مرحلة في الأخرى، وهذا ما نغفل عنه بصورة لا يقبلها عقل، ولا يتصورها منطق، حيث ضاعت الأمة بين تراكم التراكمات المهملة، والمرمية في زوايا التهميش والتجاهل، والدليل على ذلك أننا نخرج من مرحلة إلى مرحلة ونحن لم نفقه ما عشناه في الأولى، ولم نحدد مشكلاتها ولا عقباتها ولا تحدياتها، ولا العلاجات التي كان يفترض تقريرها، وندخل الثانية ونحن مثقلون بتراكمات الأولى، مما يجعل تحديد الغايات والأولويات خارجًا عن أيدينا، بل إن التراكمات التي استصحبناها معنا هي التي تحدد غايات وأولويات وتصورات المرحلة الجديدة، مما يورث غبشًا في الرؤية، وغموضًا في التصور، وتخبطًا في تحديد الأولويات، والثمن ضياع أجيالنا وضمور حاضرنا وجهل مصيرنا، ولعل تعدد الجواب عن السؤال الذي حارت عقول المثقفين والنخبة في الإجابة عنه برهان ناصع على ذلك، وهو سؤال الأزمة: أية أزمة تعيش الأمة الإسلامية؟ حيث تتعدد الإجابات وتتضارب الرؤى، وتتصادم الاقتراحات وتتنافر المشاريع.

وكان يفترض أن تستقرئ العقول الفذة تراكمات كل مرحلة، ابتداء من مرافقة أحداثها إلى رصد صيرورتها، انتهاء لتقرير المشكلات وتجسيد الحلول، وإقصاء السلبيات واستصحاب الإيجابيات إلى ساحة المرحلة الجديدة.

 الإسلام وفقه التراكمات:

وإن المرء ليتعجب من غياب هذا الفقه الثقيل العميق، برغم وجود عشرات النصوص من الكتاب والسنة التي تدل على أهميته كفقه ركين لفهم صيرورة الحياة وسننها، والمطلع على تراث الخلفاء الراشدين وخاصة عمر رضي الله عنه، يجد أن ممارساتهم تحمل في طياتها ركائز هذا الفقه المؤصل في نصوص الوحيين، وسنضرب لذلك نماذج للتأصيل والتوضيح:

فقد عبر الكثير من نصوص القرآن عن أهمية التراكمات في التحكم في الواقع والمستقبل والمصير، ومن أهم النصوص التي تناولت عنصر التراكمات كمؤثر فاعل في حياة الأمم القصص التي تتحدث عن بني إسرائيل، كيف كانوا وكيف تراكمت جناياتهم حتى أوصلتهم للضياع، وإلى التيه في الأرض عقودًا طويلة، وما حكاية القرآن عن المشكلات والآفات التي جاء يعالجها كل نبي في قومه إلا تأصيل لهذا الفقه المكين، فتراكمات الجريمة الاقتصادية في قوم شعيب عليه السلام جعلت العلاج النبوي لها في ترسيخ قيم التعاملات الشرعية السليمة من الخبث والغش، وتراكمات الجريمة الأخلاقية في قوم لوط جعلت دعوة لوط عليه السلام أخلاقية بالدرجة الأولى، وتراكمات عقدة العلو والاستعلاء في ثمود جعلت دعوة صالح عليه السلام تركز على ضعف المخلوق أمام جبروت الجبار، وتنبه على خطر الاغترار بالقوة، وتدعو لنبذ الكبر الذي جعلهم يتباهون بتحدي الخالق، وإرجاع الإنسان إلى حقيقته، وهي أنه عبد ضعيف أمام قوة الخالق العظيم. كما يتحدث القرآن عن سبب الجمود الفكري، وموت المنطق، ويربطه بالتقليد الأعمى الذي تراكم في العقل الجمعي السلبي للكفار {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ 23} [الزخرف: 23]، ولا يتوقف القرآن هنا في توصيف التراكمات تلك، بل يحدد العلاج انطلاقًا منها، فيستعمل الحجاج العقلي والحوار المنطقي لتفكيكها وهدمها، تمهيدًا لإحلال مفاهيم الحق مكانها، {قُلْ إن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] دعوة للتحرر من التقليد ومن ربقة عقيدة الآباء، نحو رحابة الفكر والتأمل والسؤال.

إن نصوصًا من أمثلة: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْـخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]، وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]؛ كلها تأصيل لوجود تراكمات يجب على الإنسان دراستها، هذه الآيات ومثيلاتها تحمل تنبيهات مهمة، على أن التراكمات نفسها تعطي النتائج نفسها، مما يجعل مؤشرات الصلاح والفساد والنجاة والهلاك واضحة جدًا في الخطاب القرآني على ضوء فقه التراكمات.

ولو جئنا للسنة واستقرأناها لوجدنا أمثلة كثيرة على فقه التراكمات المركوز فيها، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» رواه ابن ماجه في سننه؛ إنه حديث عظيم، يؤصل لهذا المنهج السديد، ويدعو لرصد التراكمات في الأمة وفقهها، وإرسال أي إنذار أو خطة عمل إصلاحية بناء عليها.

والناظر في عصر الخلفاء الراشدين يجد أن فقه التراكمات كان له حضور قوي في فتاواهم وسياساتهم، ولا شك أن أبرز فترة تجسد فيها هذا الفقه هي مرحلة العهد العمري، لما عرف عن الفاروق عمر رضي الله عنه من فقه سديد وسياسة محكمة، فها هو يجعل طلاق الثلاث في المجلس الواحد طلاقًا بائنًا بينونة كبرى، حماية للأسر من التفكك، بعد تراكم تساهل الناس في الطلاق، وها هو يجعل حدًا ثابتًا لشارب الخمر بعد أن كثر شربه في عهده، حفاظًا على طهر المجتمع، بل إن عمر رضي الله عنه لا يقف عند اطراد الوقائع في الحاضر، بل يستشرف المستقبل وتراكماته، فيمنع انتشار الزواج بالكتابيات خشية الجاسوسية وعنوسة المسلمات، مما يخلق بعد ذلك واقعًا يصعب مجابهته، ويستشرف توالي وتكاشف المستجدات والنوازل، فيمنع خروج الصحابة رضوان الله عليهم، في حركة فقهية استباقية بارعة تضمن له وجود أكبر مجمع فقهي قادر على تحريك دواليب الحياة والحفاظ على استقرارها الديني والدنيوي.

بل يتضح فقه عمر رضي الله عنه في فهم التراكمات أكثر فأكثر في قضية منعه سهم المؤلفة قلوبهم عن سيد غطفان، بناء على ما تراكم عنده من فهم عميق لمقاصد الإسلام، حيث ربط ذلك بفقهين تراكميين هما فقه الضعف وفقه القوة، اللذان يحددان ميزة كل مرحلة، فتراكم عناصر القوة له فقهه الخاص، وتراكم عناصر الضعف في الأمة يجعل الفقيه يتجنب الفتوى انطلاقًا مما تقرر في مرحلة القوة، وفقه عمري لامع استمده من فقهه للمرحلة المكية والمرحلة المدنية، باعتبارهما محلين لهذين الفقهين.

وهذا الخليفة الأموي العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يرد على ابنه الذي طالبه بتطبيق الشريعة تطبيقًا كاملاً، بفقه التراكمات، حيث يقول له مجيبًا: «يا بني لو حملتهم على الحق جملة لخرجوا منه جملة»، ولا شك أن هذا الفقه الراشد نتاج فقه لما تراكم عنده من علم وخبرات وسياسة سابقة.

وهذا المنصور يقول للإمام مالك بعد أن طلب منه وضع كتاب جامع للناس يكون فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... وتجنب تشددات ابن عمر وتساهلات ابن عباس وشذوذات ابن مسعود» رضي الله عنهم، وهذا حكم مبني على ما تراكم عند هذا الخليفة من علم بما خلفته تلك التيارات الفقهية.

فقه التركات وفقه التراكمات:

إن الراصد للحركة الفقهية والفكرية والسلوكية لأمتنا، يجد أن تعاملها مع الوقائع الحادثة، والنوازل الخطيرة، لا يخرج عن تعامل الفقيه مع تركة ميت يستعجل ورثته نصيبهم منها، فبدل استقراء الماضي ورصد الحاضر ودراسته، ثم تحديد مشكلاته ومعضلاته، نجدها تتعامل معه بصورة رياضية جافة، فتقدم إجابات سريعة تتسم بالسطحية، والبعد عن المنهجية العلمية التي قررها علماء الإسلام بعد استلهامها من روح الشريعة وفلسفة التشريع، وعلى رأسها رصد التراكمات، وربطها وتحليلها، وبناء الاستنتاجات والعلاج عليها، خاصة مع ما تعانيه الأمة من تداخل في التخصصات تداخلًا غير مدروس، فترى أن أغلب من يخوض في أزمات الأمة، ينظِّر ويؤصل ويطرح الحلول ويجزم بنجاعتها، بعد أن يؤكد بقطعية تحديده للمعضلة، وهذا ينبغي أن يختفي أو أن يقلل أهل البصيرة من وجوده في واقعنا، فضرره عظيم على مجموع الأمة.. وشتان بين فقه التركات وفقه التراكمات.

لماذا فشلنا في دراسة التراكمات؟

قد تكون إشكالية الإخفاق في استغلال التراكمات، في غرق العقل المسلم اليوم في ذهنية التجميع والتكديس، وإعطائها جل اهتمامه، تأصيلًا وحماية، وهذا قطعًا ليس بالمنهج الذي تستقرأ به كتلة التراكمات الضخمة التي تزخر بها حياتنا، ومن المؤشرات الدالة على انغماسنا في تحويل كل جهودنا نحو عملية التكديس، ضعفنا في مناهج البحث، بل إن غالبية الباحثين يشكون من معاناتهم الشديدة في جانب المنهجية العلمية الرصينة، التي لم يتمكنوا من الإلمام بها وتحقيقها، بسبب ضعف حلقة مناهج البحث في عالمنا الإسلامي اليوم، وما لم نعمل على تحقيق التخصص الدقيق في كافة الشعب والتخصصات الإنسانية، وإيجاد ملكة البحث والتنقيب فيها، فإننا لن نكرس إلا العجز في التعرف على طبيعة الأشياء، والتعمق في فهم منطقها، والتمكن من تحديد مساراتها وتفاعلاتها أثناء ذلك ومحاولة تحديد مصيرها، ونحن لم نستخدم أدواتها أصلاً.

إننا نحتاج إلى مؤسسة الفكر، من أجل خلق تحول ناجح ينتقل بنا من ذهنية التكديس، نحو صناعة فكر التنقيب والإنتاج، لأجل التعرف على طبيعة الأشياء، والتعمق في فهم منطقها، والتمكن من تحديد مساراتها وتفاعلاتها أثناء ذلك، ومحاولة تحديد مصيرها، وهذا لا يتم إلا من خلال عمل مؤسساتي شامل يتصف بالتكامل، ويستند إلى دعامة الوحيين {قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، لأن أي بحث وتنقيب معرفي يبقى ناقصًا قاصرًا ما لم يستنر بقيم الوحيين، والمقصود هنا هو الاستظلال بظلال السنن الكونية في التعامل مع كل الظواهر الكونية، والتمسك بسنن الله في الحياة والأحياء أثناء ممارسة ذلك.

الغرب والتراكمات:

لعل أهم ميدان يمكن من خلاله الحكم على فقه التراكمات عند الغرب هو ميدان التاريخ، الذي عرف في القرن التاسع عشر جهودًا راقية في استقراء التاريخ، ومحاولة التعرف على ماهيته، ثم استغلاله والتحكم في مساراته ليكون في خدمة الغرب، وهذا ما يفسر ظهور نظريات مرموقة في تفسير حركة التاريخ في العالم الغربي، ولعل أبرز من تعمق في ذلك هم المؤرخون الألمان وأشهرهم أوزفالد شبنغلر، ولا يمكن تجاهل ألمع مؤرخي الغرب في ميدان دراسة التراكمات، الإنجليزي أرنولد توينبي، الذي أنتج في واحد وأربعين سنة موسوعة علمية هامة سمّاها «دراسة للتاريخ»، أبدع فيها وهو يصول ويجول في استقراء لتراكمات التاريخ والحضارات، وممارسة لعملية الحفر والتنقيب بشكل رأسي مكثف، مستعملًا مكلته العلمية الثقيلة وخبرته الحصيفة، إننا نجزم أنه لم يصل إلى حقائق كاملة أو نهائية في بحوثه تلك، لاعتبارات عدة أهمها عدم معرفته بقيم الوحيين، لكننا نصر على أن الغربيين تمكنوا فعلًا من إيجاد بعض أدوات التنقيب والحفر في التاريخ وتجاوز مرحلة الجمع والرصد، مما يجعل الاستفادة منهم أمرًا مطلوبًا، مادامت الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها. خاصة أن هذا الغرب أثبت حلم عقله في الميل إلى المنهجية في التعامل مع أزماته من خلال فقه التراكمات، وما فعله الإنجليز في الحرب العالمية الثانية إلا دليل على ذلك، فعندما تعرضت لندن للقصف مدة سبعة أشهر كاملة وبشكل مستمر، ومقتل الآلاف، وظهور علامة الهزيمة الساحقة، جمع الإنجليز خيرة خبرائهم ومهندسيهم ومفكريهم وعلمائهم من مختلف التخصصات، وقرروا دراسة أسباب إخفاقهم في الحرب، وسبب التفوق الألماني عليهم، وظلت هذه النخبة شهورًا تحت الأقبية تدرس وتراجع كل المنظومات التي تحكم الحياة والإنسان في إنجلترا، وكان ونستون تشرشل رئيس وزرائهم في ذلك الحين يقول لهم بصوت عالٍ: «لا أعدكم بشيء سوى مزيد من الدماء مزيد من الدموع مزيد من التضحيات»، وفعلًا بعد شهور طويلة نهض الإنجليز ودارت الدائرة وقصف الإنجليز برلين وأغرقوا السفينة الأسطورة البسمارك، كانت التراكمات التي وقف عليها نخبة إنجلترا رصدًا وتحليلًا ومدارسة بداية الحل ومفتاح النصر في الحرب، والناظر في القرآن يجد أن الآيات التي نزلت بعد غزوة أحد حددت لهم تلك التراكمات النفسية التي قلبت المعركة من نصر إلى خسارة، داعية أهل الإيمان إلى الاعتبار بعد أن غيرت مفاهيم وقيم الحرب في نفوسهم.

 كيف نتعامل مع التراكمات؟

إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى عمل جبار، تقوده نخب متمكنة من مختلف العلوم الإنسانية، وتتميز بالعمق في النظر والطرح، ولا يمكن الإجابة عليه في هذه العجالة ومن منطلق غير مؤسساتي، ولكننا نكتفي بذكر هذه القاعدة الذهبية التي ذكرها عالم المقاصد الطاهر بن عاشور رحمه الله عندما قرر قاعدة «الشريعة تقرير وتغيير»، وهي قاعدة جليلة عظيمة الفائدة، تؤصل لكيفية التعامل مع الواقع، انطلاقًا من رصده وتحليله، وانتهاء بإرساء الكيفية الصحيحة للتعامل مع مشكلاته وحل عقباته، وترسخ مبدأ أن الواقع لا يقبل التعامل معه كوحدة موحدة لا تقبل التجزؤ، ودليل هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؛ فهو حديث أصل في هذا الباب أي فقه التراكمات، فالحكم الذي نطق به الحديث لم يبنَ على فراغ بل بني على واقع حقيقي يربط الماضي بالحاضر، لذلك جاء الإسلام فأقر ما تراكم من الأعمال الصالحة، وغيّر ما لا يتوافق مع الفطرة ورسالة الإسلام، وهذا هو المنهج الصحيح الذي على الأمة سلوكه والتلبس به، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، لكن منهج التقرير والتغيير هو نهاية وثمرة لمرحلة سابقة هي مرحلة الرصد والدراسة والتأمل في الواقع، وليس منهجًا منفصلًا عن باقي الحلقات والسلاسل التي يربط بعضها بعضًا، ويسلم بعضها ما فيه للبعض الأخر.

فقه التراكمات ومراكز الدراسات الإستراتيجية:

إن هذا الفقه العظيم يستدعي منا الحرص على إنشاء مراكز للدراسات الإستراتيجية المتنوعة، التي تتولى هذه المهمة الشاقة والعظيمة، والتي تستحق التعب والنصب لما لها من فوائد عظيمة تعود على الأمة في حاضرها ومستقبلها، ونظرة سريعة على واقعها في الغرب يدلنا على أهميتها.

وهنا يجب التطرق لنقطة مهمة جدًا؛ وهي أن هذه الكيانات العلمية القوية، لم تظهر في أوربا ثم أمريكا إلا بعد ظهور ثورة علمية هائلة في كل المجالات، تميزت بتسارعها في التطور، والتدفق العالي في المعلومات، ما جعلهم يتفرغون لها عن طريق خلق مراكز حسب كل مجال، ثم التخصص داخل كل مجال، وكان الأساس الذي تعمل عليه هذه المراكز هو التراكمي الحيوي الذي أنتجته الثورة العلمية والنهضة الأوربية، التي تمخضت عن الواقع الجديد بعد الثورة الفرنسية.

ولم يكتفِ الغرب بذلك بل سخر لها كافة الوسائل المادية والمالية والبشرية التي تكفل استمرارها ونجاعتها، وهذا أمر منطقي ما دامت هذه المراكز تشكل الإنذار المبكر، وتشكل أبرز الأسس التي يعتمدها الغرب في صناعة القرارات واختيار الوسائل والمكان والزمان في الصراع الحضاري المشتد يومًا بعد يوم.

وفكرة الإنذار المبكر هي فكرة عرفها المسلمون منذ قرون طويلة فهذا خالد بن الوليد يقول قولته الشهيرة لقادة الجيوش الفاتحة في الشام: «إنذار مبكر خير من طليعة جيش»، فهذه المراكز هي الإنذار الباكر الذي يدرس الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل، ولا يترك فرصة للارتجال والعشوائية.

فقه التراكمات والمعادلات الاجتماعية:

يجب أن نقر بأن لكل شيء معادلته الاجتماعية التي من دون فهمها لا يمكن التعامل معها، وهذا يعني أن فهم واقع الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة والعلاقات الدولية، لا يتأتى إلا من خلال فهم قاعدتها الاجتماعية والتاريخية، وهذا يتأتى للدارس حتمًا من خلال الإلمام بالأدوات التي تكفل له التحقق بفقه التراكمات تنظيرًا وتطبيقًا.

وهنا يجب أن نستدعي مفاهيم معينة وهي: العمق في فهم الرصيد الضخم الذي تراكم في أمتنا، والابتعاد عن التوصيف السطحي لما نريد دراسته ومعرفته، ويكون ذلك بتكوين قاعدة بحثية قوية وصلبة علميًا وعمليًا، وطريق ذلك جذب أهم وأجود الكفاءات البشرية التي تتمتع بها الأمة، وجعلها تتفرغ لهذا الفرض الكفائي المهم، وقد سبق فعل عمر رضي الله عنه فعل الغرب بقرون مديدة، عندما جعل مجلس شورى المسلمين قائمًا على خيرة الصحابة وأهل بدر الكرام.

فقه التراكمات وعلم الاستشراف.. وصناعة المستقبل:

بدأت الأمة تعقد المؤتمرات والملتقيات وتؤلف الكتب في علم الاستشراف، بل أنشأت بعض الدول وزارات خاصة سمتها وزارة الإحصاء والاستشراف، وهذا أمر محمود، لكن الملاحظ أن الاستشراف الذي يتحدث عنه الكثيرون جاء في نسخته تقليدًا للغرب الذي ينطلق في الكثير من الأحيان من تحيين الواقع الحاضر والانطلاق منه وفصله عن القيم وعالم الأفكار وربطه بعالم الأشياء، بينما تختلف أمتنا في ذلك حيث تستند على رصيد تاريخي مهم - باعتبارها أمة شاهدة على الناس، مدعوة لتبوؤ الريادة في الحياة باعتبارها الأمة الهادية للبشرية أجمع - لا يزال يؤثر في حاضرها تأثيرًا قويًا وملموسًا، لأجل ذلك وجب التنبيه على قضية مهمة وهي أن مراكز الاستشراف لا يمكن أن تنجح ما لم تهتم بفقه التراكمات، وما لم تتقيد بحقيقة وهوية الأمة ماضيًا وحاضرًا أثناء الخوض في ذلك.

إن صناعة المستقبل لم تعد مركونة للمفاجآت، والمسارات العشوائية، ولم تعد الحياة تتقبل التغيرات غير المدروسة، وأمتنا لم تعد تتحمل توالي أثقال المراحل، وتحكمها في الحاضر والمستقبل، وقد علمنا الإسلام أن تصحيح الوجهة قبل وقوع الكارثة والاصطدام ممكن في كل الأحوال، لذلك وجب علينا الاهتمام بثنائية الرصد والاستشراف، والجمع بينهما جمعًا حقيقيًا لا صوريًا وصفيًا.

وختامًا فإن المشتغل بميدان المعرفة ليدرك حجم السعادة التي يعيشها الباحث وهو يقف على الجديد في ميدان بحثه، فكيف وهو يصل إلى مستوى أرقى في نظرته للأشياء، وإدراك أعمق للأشياء وخصائصها وتفاعلاتها وتطوراتها، وتزداد سعادة البشرية أيضًا كلما وصل وعيها للأشياء وللذات مرحلة متقدمة في تاريخ البشرية، وتزداد سعادة الباحث وهو في ذلك كله يشتغل بثغر من أهم ثغور الحياة.

هذه الصفحات لا تعدو أن تكون تنبيهًا لأهمية هذا الفقه، وحضًا للنخبة على الاهتمام به، وعقد الملتقيات والندوات التي تنبه إليه وترسخ قدمه في حياة المسلمين، لأجل مساعدة الأمة على الخروج من عثراتها، والوقوف على رجليها، والدفع بها نحو النهوض والشهود الحضاري.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

:: مجلة البيان العدد  332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.

أعلى