الأمة إذ تستعيد مكانتها!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد تعرضت الأمة
الإسلامية - وما زالت - لمكر
كبَّار، استهدف وجودها بالمحو أو تقليل العدد، وانتقص أراضيها بالاحتلال والتقسيم،
ومسخ وعيها بالتشويه أو الطمس، من خلال المحاولات التي ما فتئت تحاول النخر في
أركان ثقافة الأمة: الدين، واللغة، والتاريخ؛ كي يعيش المسلم - إذا
بقي على إسلامه - بلا هوية جامعة، ولا عقيدة مانعة.
وظهر هذا العداء الكبير
لأمة الإسلام تارة عبر الحرب، وتارات أخرى عبر وسائل ناعمة، وتولى كبرها مجرمون
مختلفون: فمرة بيد دول وقوى غاشمة، وأخرى بواسطة
منظمات واتفاقيات، وثالثة الأثافي ما حمله المنافقون بأمر أسيادهم؛ فساموا الأمة
سوء العذاب، في عملية قهر وتقزيم مستمرة، كالحة المنظر، بغيضة المخبر، نتنة
الرائحة، كريهة الطعم.
ولأن الجهود الفردية مهما
عظمت فلن تستطيع الصمود في وجه العمل المنظم الخطير، الذي يستهدف كيان الأمة في
ذاته، وفي أبرز مكوناته، ولأن جهود الأفراد تقف عند حدود لا يمكن تجاوزها؛ فقد صار
لزامًا على الأمة بمجموعها - أفرادًا وجماعات ومؤسسات - أن
تستعيد ذاتها ومكانتها، مستلهمة ذلك من شريعة ربها، ومن دينه الذي جاء به النبي
الكريم صلى الله عليه وسلم، فالواحد وإن كان بنفسه
مسعر حرب لا بد له من رجال!
وحتى تبلغ الأمة هذا
الهدف السامي ينبغي لها أن تسلك طريقًا طويلًا غير ممهد، وتصبر على ما تلاقيه من
لأواء ومكائد وخذلان، وليست أمتنا الإسلامية بأقل شأنًا من مثيلاتها في الشرق أو
الغرب، التي فقدت مكانتها ثم استعادتها، بل زادت عليها، بعد عقود أو قرون من العمل
الشاق المضني.
وأول خطوة في طريق
استحياء الأمة هي تصحيح المفاهيم وإصلاح التصورات؛ فلا خير في وعي إنسان بني على
غبش وضبابية، فضلًا عما شاده الغش والتزييف من أفكار، فإذا عرف المسلم دينه كما
أراده الله، لا كما أفسده المحرفون، أو اختزله المتأولون بحسن نية أو بسوء طوية،
وإذا رسخت المفاهيم الشرعية التي أرادها الله في وجدان المسلم، متعالية على أفاعيل
المبطلين وما خططوا له؛ فحينها فقط تملك الأمة زمام الطريق الصواب، الموصل للفوز
في الدنيا والآخرة.
وعندما يقذف المرجفون
شبههم، وإفكهم وما يفترون في الأجواء عبر وسائل متعددة؛ ثم يكون مستقرها تحت أقدام
ناشئة المسلمين بَلَهِ كبارهم وعقلائهم؛ فحينذاك يصبح وعي الأمة في عافية مما
خامره طوال قرون من أمراض، ومما خالطه عبر حقب ممتدة من أوشاب، وهذه مرتبة لا تبلغ
بالأماني، ولا مناص لناشدها من جهد وجهاد بالقلم، واللسان، والفكر، والسنان، حتى
يقر في خلد المسلمين أو غالبهم أنهم أمة واحدة، تابعة لمراد الله، مستعلية على
الظلم والجور، مرتبطة بروابط الأخوة الدينية وإن نأت المنازل، فتتخلص من الغثائية
في مفاهيمها وأفعالها، وتميز بين الحق والباطل، وإن حاول المجرمون التلبيس عليها.
ولا يرتفع وعي الأمة
بنفسها، وما أراده الله منها، إلا حين ترجع لخطاب الله جل وعلا، وحديث الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم وسيرته
العملية العطرة؛ فتنظر في القرآن العزيز، وتديم قراءته بتدبر وفهم، وتنهل من السنة
المشرفة المحفوظة في الدواوين الصحيحة؛ بما يزيد من إدراكها لأمر ربها ومراده، ثم
تحيا مع السيرة الزكية مرحلة مرحلة، وحادثة حادثة، وتأخذ العبر من التطبيق النبوي
العملي، وكم في السيرة من بصائر وهداية لو أن الناس انصرفوا إليها، ثم استزادوا من
تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين ومن مواقف الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا.
وإن إشغال المجتمعات
بتشعبات المسائل الفقهية - على أهمية بعضها -،
يضيِّع على الناس فرصة العيش مع المصادر الأصلية المقدمة؛ فكم يحفظ البعض دقائق
بعض الأحكام التي يسوغ فيها الخلاف، بينما تغيب عنه القضايا الكلية، والمقاصد
الكبرى، التي لا يُقبل من أحد فيها خلاف أو رأي شاذ، ولذا ينكر العامة أمرًا يسع
الخلاف فيه؛ بينما تمر بهم الطَّوام والموبقات، آمنات غاديات رائحات، بلا نكيرٍ
ولا حتى امتعاض!
ومما تستعيد به الأمة
مكانها إشاعة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب في جلب المصالح
العامة ودفع المضار، ومن المهم إعادة غرس هذه الفريضة شعبيًا؛ حتى يقر في نفس
العامي قبل المتعلم، والمرأة قبل الرجل، أنها فريضة عامة تجب على كل أحد قدر
طاقته، ومبلغ علمه، وأنها تنتظم أمر الدين والدنيا، وتشمل الأخلاق والأموال،
والإدارة والسياسة، وكل الشأن العام. وأنها سبيل للأمن، وحفظ
الحقوق، والمراقبة البصيرة، وتقليل الشرور، وغير ذلك من فضائل هذه الشعيرة التي
بُهر بها بعض أساتيذ القانون والمفكرين؛ ولا يزال وقعها في آذان بعضنا يحدث ضجيجًا
يمنع حسن السماع، ومنطقية التفكير؛ ولو تبَّصروا لعلموا أن شريعة ربهم لا تأتي إلا
بما ينفع ويصلح.
وخير ما تُستحيا به هذه
الفريضة، حتى تصبح سمة المجتمع المسلم، هو ألا تُقصر على أناس بأعيانهم، ولا تقتصر
على شؤون دون غيرها، بل يجب أن تكون الوسيلة الشرعية الآمنة، المتاحة لكل مسلم، كي
يؤدي من خلالها دوره المجتمعي الإيجابي، فيحفظ الكليات الخمس وما دونها من حاجيات
وكماليات، ويأنف من أن يرى حقه منتهبًا وهو ساكت لا يحير جوابًا، ولا يتحرك يمينًا
أو شمالًا.
وكيف تُقبل من مسلم هذه
السلبية؛ وهو المأمور من الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال
سبحانه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ} [آل
عمران: 104]،
وروي مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»،
رواه مسلم في صحيحه.
وإذا تفاعلت قوى الأمة مع
شعيرة الاحتساب، وتكاتفت في تطبيقها ونشرها، سيصدق على أمتنا وصف الخيرية، فإذا
أصبحنا خير أمة فلن نرضى بغير موقع الأخيار المتصدر على صعيد الأمم، ولن تحيد
الأمة قيد أنملة عما يرضي خالقها وولي نعمتها، ولن تتراجع عما يحقق لها المكانة
التي تستحقها، ما دامت مطيعة لأمر ربها، متبعة سنة نبيها، مهتدية بالشريعة،
ومتوسلة لغاياتها بحسن الذريعة.
ومن الواجب على الأمة كي
تسترد عافيتها المسلوبة أن تلتف حول الرواد والمصلحين، الذين يريدون الخير لها في
العاجلة والآجلة، ويسعون للمصالح الشرعية العامة، مترفعين عن الرغبات الشخصية
والمكاسب الذاتية، وقد جعل الله من القبول العام دليلًا تبصر به الأمة؛ فتعرف
الصادق من المدخول، والناصح من ذي المآرب، ومن هو معها ممن هو عليها، وقمين بأفراد
الأمة؛ أن يكونوا خير عون لهؤلاء البررة الذين صرموا أعمارهم، ولم يحبسوا أنفسهم
على خاصة شؤونهم، بل انغمسوا في كل أمر يعلي موقع أمتهم، ويصلح شأن شعوبها، ويحفظ
على المجتمعات دينها وأمنها، ويسترجع لها كرامتها وعزتها.
وكم من أجر ومحمدة يبلغها
من خلَف غازيًا في أهله بخير، أو أعان من تصدى للإصلاح والشأن العام؛ حتى يفرغ
المصلح للقضايا المصيرية، خاصة أن الإصلاح كان سابقًا عريضة تكتب، وغدا اليوم
فريضة يجب أن تحتسب لأجلها طائفة من سادات المؤمنين، وأحسن ما يؤازروا به بعد
الدعاء، أن يجدوا من يكفيهم مؤونة الشواغل الدنيوية اليومية التي تبعثر الجهود،
وتضيع في دهاليزها الطاقات الجديرة بالتفرغ للمطالب العليا، وأن يُذب عن أعراضهم،
ويُحال بينهم وبين المتربصين من السفهاء والظلمة.
ومن باب ما سبق أن ترتبط
الأمة بعلماء الشريعة الأمناء الصادقين، الذين يوقعون عن رب العالمين، ولا يصدرون
عن أهواء الشياطين، وما احتمت أمة بالعلم إلا نجت، وما ارتبطت حركة بالعلماء
الربانيين إلا رشدت، وأصابت غايتها. وكم يؤلمنا أن تكون
العلائق مقطوعة، أو متوترة، أو ضعيفة الصلة، بين العامة والعلماء، فلعمر الله إن
العامة لخير من كثير من النخب والمتصدرين، لصدقهم وحسن نيتهم، وصفاء تدينهم، وخلو
مسلكهم من الذاتية والاعتبارات الوهمية، وقد كان عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه
أفضل للدعوة الإسلامية من كثير من صناديد قريش وأكابرها، ولأجل توجيه الخطاب له
واستقباله وتعليمه، نزلت آيات كريمة تتلى إلى يوم القيامة، وما أحرى العلماء
والدعاة بالإفادة من سبب نزول سورة عبس، ومن إشراقات آياتها الكريمة؛ فكم في النخب
من عطب، وكم في العامة من قامة!
وحين يرتفع وعي الأمة إلى
المستوى الذي يقف فيه حاجزًا منيعًا ضد الشبهات والافتراءات، تعلم الأمة بمجموعها
ما الذي يجب عليها فتؤديه، وما الذي يجب لها فتطلبه بشتى الوسائل المشروعة، وفوق
ذلك تأنف من ضياع حق لها، أو التفريط في واجب عليها القيام به، وهذا الشعور يمنح
لأفراد الأمة قيمة أكثر من كونهم مجرد رقم يسأل عنه موظف التعداد السكاني بين فترة
وأختها، أو حمَلَة هوية وطنية قد تفيد في موضع دون آخر، وينقلهم من موقع المشاهدة
إلى ميدان الفعل والتأثير.
وإذا استعادت الأمة
وعيها، نأت بنفسها عن المعارك الجانبية، والمهاترات الداخلية، والمناوشات اللفظية،
والمهارشات الفكرية، التي يتطاحن بها الفرقاء لصالح طرف ثالث، برغوثي الطبع، لئيم
السجية. وحين تفيء الأمة لرشدها؛ فلن ترضى بأن تكون
منقادة دون تمحيص ومفاتشة، ولن تقبل بولاية ظالم أو تافه أو منافق؛ فضلًا عن
المحتل الكافر. وإذا استيقظت الأمة من غفوتها الطويلة،
فستعرف أي تعليم تستحقه، وأي إعلام يجب أن يعبر عنها، وستحسن إدارة مواردها وتنمية
اقتصادها، وسيكون بمقدورها أن تبصر مواطن قوتها، ومكامن ضعفها، فتنهض بعزم لا يلين
كي تفيد من القوة؛ وتعالج الضعف، وتنطلق في فضاء واسع من العمل الرشيد، والتغيير
الناضج.
ولعمركم إن أمة تملك ما
حبى الله به أمة الإسلام من عدد، ومساحة، وبحار، وثروات، وعقول، لجديرة بأن تكون
الأولى البارزة الفاعلة، المهتدية بكتاب الله وسنة نبيه، لا أن تكون المتأخرة
المفعول بها، المنشغلة بما لا ينفعها من طبوليات المسائل؛ أو شواذ الأقوال، بينما
تذهل عما يراد بالملة من جذورها، وبالأمة في رجالها ونسائها وأراضيها، وبالتاريخ
في أنقى عهوده، وباللغة الفصحى، وإذا ضاعت هذه الأصول من الحاضر فإن المستقبل
مخيف، وإذا تداركتها الأمة نجت، وصنعت لنفسها مستقبلًا مختلفًا، يحاكي شيئًا من
ماضيها الزاهر، ويحفظ لها البقاء والقوة.
:: مجلة البيان العدد 332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.