قبل أن يصبح البابا حاكماً للقدس
حدَثٌ لا يقل شأناً – في نظري – عن أحداث
الحادي عشر من أيلول، أو الثورات العربية وما آلت إليه، لكنه يمر على الأُمة دون أن
يأبه به المراقبون، أو يغرد بوسمه المغردون، فضلاً عن أن تدبج في أهميته مقالات أو
تخص بموضوعه قنوات. لك أن تصفه بالوهم، أو تصمني بقلة الفهم، أو الإغراق في نظرية
المؤامرة؛ لكن هذا لن يغيّر من حقيقة الأمر شيئاً. أعلم أني قد أكثرت من الحديث
عنه حتى عُرفت به عند من حولي؛ لكنني أستميحك عذراً – قارئي الكريم – في أن أعيد
ذِكرَه، إذ استجَدّ فيه ما لا يمكن إغفاله. إنه مستقبل القدس في ظل زيارة بيريز
الأخيرة لكبير الروم.
لقد بَعث الله عيسى بن مريم عليه السلام
والقدس بأيدي الروم، ودخلها الفاروق رضي الله عنه وهي بأيدي الروم، واستنقذها صلاح
الدين من أيدي الروم، ثم اغتصبها الروم أخيراً ليسلموها حيناً من الدهر لأذنابهم
من اليهود؛ غيرَ أنّا شُغِلنا بالأذناب عن الرؤوس، مع أن الله قال بشأنهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ
النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْـمَسْكَنَةُ}
[آل
عمران: 112]. قال ابن زيد كما في تفسير الطبري:
«واليهود لا يأمَنون في أرضٍ من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل..
فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب ...».
لم يبرح الروم الصليبيون ساحات الأقصى حتى
رسموا خطة طويلة الأمد يعيدون بها القدس إلى أملاكهم، أو بالأحرى يعودون هم إليه؛
لكن ليس على طريقة أوربان الثاني هذه المرة، وإنما على طريقة دبلوماسيي روما
والأمم المتحدة. عِمادُ هذه الخطة إنشاء قوة أممية كبرى بيدها الحل والعقد، يجري
قرارها على كل أعضائها، ولها حق التدخل عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في سيادة أي
دولة لا تنصاع لهذا النظام، بل لهذه القوة الحق في تدمير القدرات العسكرية للأمم
ونزع السلاح بحجة منع الفوضى ونشر السلام حسبما يخدم المصالح الغربية. هذا النظام
هو ما أصبح يعرف بالنظام العالمي الجديد، وقد تجسد في عصبة الأمم، ثم في منظمة
الأمم المتحدة.
في عام 1961م أصدرت وزارة الداخلية
الأمريكية خطة بعنوان «التحرر من الحرب: برنامج الولايات المتحدة لنزعٍ
شاملٍ وكاملٍ للسلاح في عالم مُسالم»، تطرَّقَت فيها إلى ثلاث مراحل لنزع
السلاح من الأمم، وتسليحِ الأمم المتحدة في المرحلة الأخيرة؛ عندها «لن تمتلك
أيّ دولةٍ القوة العسكرية لمواجهة قوة السلام التابعة للأمم المتحدة التي ستتزايد
قوّتها تدريجياً»[1].
وهذا ما يجري أمام أعيننا لمن تأمل!
ولعلي أعود بك قليلاً إلى الوراء لنكشف عن
خيوط المؤامرة سوية. فقد صرح مهندسُ عصبة الأمم «روبرت سيسيل» قبل عام 1933م، أن عصبة
الأمم «في نهاية أمرها ستجعل من القدس مقراً رئيساً لها». وهي إشارة قديمة إلى
مشروع تدويل القدس. ثم ماذا؟
في عام 1947م أصدرت الجمعية العمومية
التابعة للأمم المتحدة قرار التقسيم (181) الذي جاء فيه: «[1] تنشأ في فلسطين
الدولتان المستقلتان (العربية واليهودية)، [2] والحكم الدولي الخاص بمدينة
القدس».
وقد أصبح بإمكاننا القول إن المرحلة الأولى
من قرار التقسيم انتهت أو شارفت على الانتهاء، ولم يبقَ سوى تقرير مصير القدس، وهو
المرحلة الأخرى.
لما صدر قرار التقسيم عام 1947م كان ممن طار
به فرحاً كهنة روما، حيث صرحت صحيفة «كيڤيلتا كاتوليكا» - لسان الفاتيكان الرسمي -
في عدد فبراير 1951م، بأنه: «من الضروري أن نضغط على ممثلي الأمم المتحدة من الدول
الكاثوليكية كي يشكلوا جبهة صلبة تدافع عن تدويل القدس، كما أقرته الأمم المتحدة».
فما حقيقة «تدويل القدس» التي ابتهج بها
كهنة الروم؟
لا شك عندي في أن تدويل القدس مناورة لتنصيب
بابا الروم حاكماً للقدس في ظل حماية دولية؛ وقد أشرت إلى رأيي هذا في مقالات شتى
لقناعتي بأنه أضحى وشيكاً. ومما يدل على صحته وقرب وقوعه ما يلي:
أولاً: جاء في قرار الجمعية العمومية 181: «يقوم
مجلس الوصاية [التابع للأمم المتحدة] بتعيين حاكم للقدس يكون مسؤولاً
أمامه، ويكون هذا الاختيار على أساس كفايته الخاصة دون مراعاة لجنسيته».. لكن هذا
الحاكم، بنص القرار، «لن يكون مواطناً من أي من الدولتين في فلسطين»! والمقصود أنه
لن يكون يهودياً أو مسلماً (He shall not, however,
be a citizen of either State
in Palestine).
ثانياً: صرحت صحيفة التايمز في
أعقاب الحرب العالمية الثانية بأن ثمة خطة غربية لمنح القدس للبابوية بينما تعاد
الفاتيكان إلى إيطاليا[2].
ثالثاً: في عام 2000م، في خطابٍ أمام الأمم
المتحدة، أعلن الكاردينال «ريناتو مارتينو» أن «انفراد القدس
بكونها مدينة مقدسة لدى أديانٍ ثلاثةٍ عظيمة، يجعل من الضروري أن يشرف عليها زعماء
دينيون لا ساسة».
وقد صرح وزير خارجية الفاتيكان «بييترو
بارولين» بأن البابا إنما زار القدس ليؤكد أموراً ثلاثة:
1) حق إسرائيل في «الوجود والعيش بسلام وأمن
داخل حدودها المعترف بها دولياً».
2) حق الشعب الفلسطيني في أن «يكون له وطن
مستقل يتمتع بالسيادة».
3) الاعتراف بالطابع المقدس والعالمي لمدينة
القدس، وكذا «إرثها الثقافي والديني»[3].
وهو تأكيد لمعنى الزعامة الدينية في القدس.
رابعاً: وهو الأهم، وهو ما أردت التنبيه إليه في هذا
المقال، ألا وهو زيارة بيريز الأخيرة لزعيم الروم «فرنسيس»، وما تضمنتها من
تصريحات خطيرة.
لقد سبق أن أشرت في مقال بعنوان «البابا
فرنسيس.. هل سيكون أوباما الفاتيكان؟»، إلى أن هذا البابا إنما وصل إلى كرسي
البابوية بعد إقالة سلفه «بندكت السادس عشر»، وهو أول يسوعي يتسنّم كرسي البابوية
رغم النفوذ اليسوعي القديم داخل الكنيسة الكاثوليكية، ما يوحي بأن اختيار هذه
المرحلة للوصول إلى زعامة الكنيسة الرومية لم يكن عبثاً؛ ولأجل هذا قلت في بداية
انتخابه إنه «سيتّبع سياسة الحمل الوديع تجاه المسلمين واليهود، في محاولة لإعادة
الاعتبار للكنيسة الأم، وقد يكون سبباً في التمهيد لتسوية بشأن القدس إن طالت
ولايته»[4].
مما يؤيد هذا وجود توجه إعلامي داخل إسرائيل
يُشيد بالبابوية ويمتدح صفات المخلِّص الجديد، ما جعل صحيفة هَآرتس تعلق ساخرة:
«ألم يجد كُتّاب الأعمدة اليهودُ قضايا ساخنة يكتبون عنها حتى أصبحت آخر صيحة
عندهم أن يسبّحوا بحمد البابا؟ لم يعد يمر أسبوع في الأشهر الأخيرة دون أن تَنشر
صحيفةٌ مهيبةٌ في أمريكا أو بريطانيا أو إسرائيل عموداً لأحد كبار كُتابها، ويصادف
أن يكون ممن ينتمون إلى حزب الممجدين لفضائل البابا»[5].
لكن زيارة الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون
بيريز للبلاط البابوي مؤخراً، تفسر كثيراً من الدعم المريب لتوجهات البابوية في
الداخل الإسرائيلي؛ فقد قدم بيريز في أثناء زيارته لرأس الصليبية «فرنسيس»
اقتراحاً بإنشاء «منظمة أديان متحدة» تكون وسيلة لمحاربة «الإرهاب» ونشر السلام
خلفاً لمنظمة الأمم المتحدة، التي قامت بدورها وآن لها أن تتنحى. وأضاف بيريز
قائلاً: «أرى لزاماً أن يكون هناك ميثاق الأديان المتحدة (United Religions Charter) كما أن هناك ميثاق الأمم المتحدة. هذا الميثاق الجديد سينص
بالنيابة عن كل الأديان على أن حَزَّ الغلاصم والمذابحَ الجماعية كما رأينا مؤخراً
ليست من الدين في شيء»[6].
هنا ينبغي بيان أن هذه المبادرة لم تأتِ من
خارج الفاتيكان، بل لُقنها بيريز تلقيناً، وهي مؤامرة غربية لفرض سلطة دينية موحدة
تحدد الأُطُر التي سيُسمح لأي دين بلا استثناء بأن يتحرك خلالها. وقد ذكرت مثل هذا
في مقال بعنوان «هل ستنتصر الأمم المتحدة لسيد المرسلين»[7]،
وبيّنت أنه سعي أممي لتمييع القضايا العقدية الجوهرية؛ كالولاء والبراء، وأن
استعمال بعض الألفاظ الشرعية كـ «الكافر» و«المبتدع» سيصبح يوماً من الدعوة إلى
الكراهية والتعدي على حقوق الإنسان، وقد يُمنع المسلم من نقض عقائد التثليث والصلب
ونحوهما في سياق دعوته النصارى، باعتبار ذلك تجاوزاً على خصوصيات الآخر، بل إنه قد
يُصادَق على الفتاوى الشرعية في بلاد الإسلام من قبل الأمم المتحدة! وهو ما يمكن
تسميته «عولمة الدين».
لكن الأغرب في تصريحات بيريز اقتراحه
أن يتولى البابا فرنسيس نفسه زعامة «منظمة الأديان المتحدة»؛ لأنه «ربما الزعيم
الوحيد الذي يُحترم بحق»[8]! فهل بقي لذي لب ريب في أن الأمم
المتحدة ستجعل البابا زعيماً للأديان، وأن عاصمة هذه المنظمة الجديدة ستكون القدس
كما بيّنت في غير هذا الموضع[9]. وهذا كله يفسر ما جاء في قرار الجمعية
العمومية 181 بأن حاكم القدس سيُختار على أساس كفايته الخاصة دون مراعاة
لجنسيته، وأنه لن يكون يهودياً ولا مسلماً!
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.
[1] Arthur Meier Schlesinger.
A Thousand Days: John F. Kennedy in the White House (Houghton Mifflin
Harcourt,
2002), p.
476.
[2] http://www.timesonline.co.uk/tol/comment/faith/article6269490.ece.
[3] http://www.aljazeera.net/home/print/f6451603-4dff-4ca1-9c10-122741d17432/833df730-8508-47fa-8268-e4fd616be94b.
[4] http://www.albayan.co.uk/MGZarticle.aspx?ID=2700.
[5] http://www.haaretz.com/weekend/jerusalem-babylon/.premium-1.562006.
[6] http://vaticaninsider.lastampa.it/en/the-vatican/detail/articolo/medio-oriente-middle-east-medio-oriente-36134/.
[7] http://www.albayan.co.uk/MGZarticle.aspx?ID=2303.
[8] http://blogs.reuters.com/faithworld/2014/09/05/shimon-peres-floats-idea-of-u-n-style-united-religions-with-pope-francis/.
[9] http://www.albayan.co.uk/MGZarticle.aspx?ID=838.