• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الفتوى السياسية وسنة العراق

الفتوى السياسية وسنة العراق

 

شكّل الإفتاء مفصلاً مهماً في حياة المسلمين، ونال مكانة متميّزة في المجتمع الإسلامي؛ إذ إنه مهمة ربانية {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء: 176]، ولذا كان المفتي موقعاً عن رب العالمين كما يذهب جمع من العلماء منهم ابن قيم الجوزية - رحمه الله -، حتى أطلق على كتابه القيم «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، وهي إحدى مهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا كان المفتي من ورثة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «العلماء ورثة الأنبياء»، فكان قائماً في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الشاطبي في كتابه النافع «الموافقات».

وتأتي الفتوى السياسية في مقدمة الفتاوى التي تؤثر في المجتمع الإسلامي قوة وضعفاً؛ لأنها تتعلق بأمور الإمامة والحكم وأصلها قائم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به كما يرى الإمام الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية.

وفي ظل غياب الخلافة الإسلامية، فإنّ النّوازل السياسية تعد من أعقد القضايا التي تواجه الفقهاء المعاصرين، ومناط تعقيدها ومرد صعوبتها يكمنان في القدرة على الإحاطة بدوافع النّازلة السياسية ومتعلقاتها، واستشراف مآلاتها من خلال النتائج المترتبة عليها، وما يتطلب ذلك من مؤهلات إضافية للفقيه الذي يتصدى لها.. ومن هنا أدرك فقهاء السياسة خطورتها، فيقول د. رأفت عثمان، أستاذ الفقه في الأزهر وعضو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا: إن الفتوى، سواء كانت صادرة في مجال سياسي أو غير سياسي، لها خطورتها التي تفرض على من يتصدى لها أن يكون مؤهلاً علمياً لإصدار فتوى في هذا المجال.

الفتوى السياسية وضوابطها

يقصد بالفتوى السياسية ما يحرره العلماء من مسائل تتعلق بالحكم والمصالح العامة والنظر في القضايا المستجدة المتعلقة بإصلاح الراعي والرعية في العاجل والآجل، وبيان الحكم الشرعي فيها، ومن هذا التعريف نحدد المسائل والضوابط التالية:

ارتباط السياسة بالدين: إن الفتوى السياسية تتأثر بأمرين متلازمين، الأول: علاقة الدين بالسياسة من حيث إدراك النص الشرعي وفهم الواقع، وتحقيق الموازنة في المصالح. والآخر: علاقة العلماء بالحكام لكونهما مرجعية للمسلمين بعد المرجعية العليا الممثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الحسبة في الإسلام ص 15): وقد أمر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين. وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء.. وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر. ويقول العلامة الألوسي في تفسيره روح المعاني (5/ 96): وحمله كثير على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم؛ لأنَّ للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز.

وقال السعدي في تفسيره (ص 183 - 184): وأمر بطاعة أولي الأمر، وهم الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده.. لكن بشرط ألا يأمروا بمعصية.

ولقد أدرك خصوم الإسلام قوة هذه المرجعية؛ ولذا عملوا جهد طاقتهم وعظم مكرهم على الفصل بينهما، فرفعوا شعار «لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة»، انطلق من الغرب فتناقله أهل المشرق، وردده كثير من المفكرين والسياسيين، وهو شعار لا يصلح في المجتمعات التي تدين بالإسلام، فالدولة الإسلامية قامت على أساس هذا الدين بنظامه الشامل لأمور الدنيا والآخرة على السواء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مبلّغاً للوحي ومشرعاً وإماماً في الصلاة وحاكماً للأمة وقاضياً بين الناس وقائداً للجيش، والخلفاء من بعده كانوا كذلك أئمة في الدين وقادة في السياسة يجمعون بينهما ولا يفرقون. وسار الحكام على هذه السياسة بأنفسهم أو بمن عنهم ينوبون، وقد جاء من كلام أهل العلم السابقين ما يدل لذلك، فقد نقل ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (13/198) في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر رضي الله عنه أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم؛ قول الطبري: لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم. ويضيف ابن حجر: «والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة، مع اجتناب ما يخالف الشرع منها».

وهكذا سقطت هذه المقولة في بُعدها الفكري ومعها سقطت دوافعها وآثارها، ومنها: عدم تقيّد نظام الحكم بمبادئ الدين، ووجود حصانة للسياسيين من الفتوى الشرعية.

إلا أن السقوط الفكري لهذه المقولة لا يعني انتهاءها عملياً وانتفاءها واقعياً، لا سيما مع الحملة الشعواء التي تشن ضد الصعود السياسي للإسلاميين بعد ثورات الربيع العربي، وهذا مما ينبغي أن يتنبّه إليه فقهاء السياسة ورموزها الإسلاميون، باعتماد «إنَّ أصل هذه المرجعية هو العلم الشرعي المستند إلى الكتاب والسنة، ومقاصد الشريعة»، يقول الإمام ابن قيم الجوزية (إعلام الموقعين 1/49): وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الأمراءَ إنَّمَا يُطَاعُونَ إذا أَمَرُوا بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ فَطَاعَتُهُمْ تَبَعٌ لِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ. ويقول الدكتور عبد الله الطريقي (أهل الحل والعقد ص 38): فالعلماء هم الذين ينبغي أن تنتهي عندهم المرجعية.

ومن المسائل التي ينبغي مراعاتها ضمن هذا الأصل حتى لا تتخذ ذريعة في هذا الفصل؛ التفريق بين الفتاوى السياسية والفتاوى المسيّسة، إذ يعد جمع من الفقهاء المعاصرين الثانية نوعاً من التلاعب بالدين لصالح أمور سياسية أو كيانات حزبية، وحذروا من الإفتاء على وفق الأهواء السياسية أو إرضاءً لتوجه سياسي عام، والمخرج من هذا الإشكال يكون باعتماد الفتاوى السياسية بعد دراسة متأنية للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة وفهم الواقع ومآلاته.

الفتوى السياسية وفهم الواقع: يقول ابن القيم في إعلام الموقعين (1/87-88): لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الآخر: فهم الواجب في الواقع؛ وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر يتأكد في الفتاوى السياسية أكثر من غيرها؛ لأنها في أغلب أحكامها لا تستند إلى نص شرعي، وإنما إلى تقدير الواقع وتحليل معطياته ودراسة احتمالاته ومآلاته، وهذا يستدعي مراجعة ذوي الاختصاص الموثوق بتدينهم وعمق خبرتهم وحُسن تحليلهم للواقع السياسي. ومن كلام ابن القيم نتبيّن أن الفتوى السياسية تقوم على خطوتين، الأولى: بحسن تشخيص الواقع وتحليله. والأخرى: بتنزيل الحكم الشرعي على الواقعة أو النازلة. والأولى تكون بمدارسة أهل الاختصاص من سياسيين وغيرهم ومشاورتهم، والثانية تحصّل بمذاكرة الفقهاء ومراجعتهم.

الفتوى السياسية والمصالح: إن الشريعة كما هو مقرّر عند علمائها المحققين، مبنيةٌ على جلب المصالح ودرء المفاسد، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، والمصالح المقصودة هنا هي المصالح الحقيقية لا المتوهمة ولا الظنية، والعامة لا المرتبطة بشخص أو فئة، وعلى هذا فيجب أن تصدر الفتوى في ضوء الموازنة بين هذه المصالح، ومراعاة القرائن وشواهد الحال التي تعين على ذلك، وهي أمور يجب ألا تُهمل، وإلا وقع الناس في حرج كبير، فلكل حال مُقتضاه، ولكل عصر قضاياه.

الفتوى السياسية والالتزام

الأصل أنّ الفتوى تعد بيان رأي شرعي لا إلزام فيها، ومع ذلك فإننا ندرك أنّ قوة أي فتوى تكون بعد قوة حجتها الشرعية، بحرص الناس على تحريها ومن ثم اتباعها والالتزام بتنفيذها والعمل بمقتضاها والحرص على إذاعتها ونشرها. وندرك أيضاً أن المستفتين فرداً أو جماعة ليسوا ملزمين بسؤال مفتٍ معين عند تعددهم، يقول الإمام الغزالي (المستصفى 1/373): إذا لم يكن في البلدة إلا مفتٍ واحد وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل من شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم، كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء، كما أنهم ليسوا ملزمين بالعمل بهذه الفتوى دون غيرها من الفتاوى. ويقول الشيخ عبد الملك السعدي في فتواه بالانتخابات: فهذه الفتوى ليست مُلزِمة بل بيان رأي.

وعند الحرص على أن تحظى الفتوى السياسية بتلقي الناس لها بالقبول وتتضمن معنى الإلزام، فإنّ ذلك يكون إما أن يتفق مجتهدو البلد أو المصر عليها، وهنا تنتقل الفتوى إلى الإجماع الذي يطلق عليه د. قطب سانو (في كتابه الاجتهاد الجماعي المنشود) الإجماع القطري، وهو بلا شك حجة؛ وهنا نشير إلى أن الفتوى المنبثقة عن اجتهاد جماعي وتشاور هي أدعى إلى القبول من فتوى منفردة لفقيه؛ لأن الاجتهاد الجماعي كما يذهب جلّ الفقهاء المعاصرين: أكثر دقة وإصابة من الاجتهاد الفردي، ومن هنا تتجلى أهمية المجامع الفقهية التي تعتمد الإفتاء الجماعي.

ويأتي الالتزام أيضاً عند تبني السلطة الشرعية هذه الفتوى وتأخذ بها، يقول القرافي (في كتابه الفروق 2/94): إنَّ حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء. ويقول د. مصطفى الزرقا (في المدخل الفقهي العام 1/215): نصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أنَّ السلطان إذا أَمَرَ بأمرٍ في موضوعٍ اجتهادي أي: قابل للاجتهاد، غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة كان أمره واجبَ الاحترام والتنفيذ شرعاً. وجاء في المجلة العدلية (ص 84): فإذا أمر إمام المسلمين بتخصيص العمل بقولٍ من المسائل المجتَهَدِ فيها، تعيَّنَ ووجبَ العملُ بقوله. ونرى أن هذا الأمر يتأكد في الفتاوى المتعلقة بالنظام السياسي ومتعلقاته والمسائل العامة التي يرتبط بها مصير أبناء المجتمع.

وهنا مسألة ينبغي تأكيدها؛ هي أنّ الالتزام لا يعني تعدي مسؤولية العلماء إلى عمل المستفتين بما جاء بالفتوى؛ لأن ما يصدر عن المفتين لا يمثل قضاء، فهم مسؤولون عن بيان الحكم الشرعي في المسائل والنوازل، وليس تنفيذه ومحاسبة الناس على عدم الالتزام به، فسلطتهم علمية وليست قضائية، يقول الشيخ جمال الدين القاسمي عن الفقهاء (في كتابه الفتوى في الإسلام ص 74)، إنهم: فرقوا بين الفتيا والقضاء، بأن الفتيا لا إلزام فيها، وأما القضاء ففيه إلزام، ووجه أنّ المفتي مخبر عن الحكم، والقاضي ملزم به.

الفقه السياسي والفتوى السياسية

إن الرجوع في الإفتاء السياسي يكون لمن عُرف بالفقه السياسي، وهذا ليس من باب الفصل بين الدين والسياسة، وإنما من باب مراعاة التخصص، وهي تعد منقبة للفقه الإسلامي، وقد عرف التخصص من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ)، أخرجه الترمذي. وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر بالجابية: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ أُبَي بْنَ كَعْبٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ فَلْيَأَتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفِقْهِ فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَالِ فَلْيَأْتِنِي؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَنِي لَهُ خَازِنًا وَقَاسِمًا»، أخرجه الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في مصنفه.

وإن مما يشخص على الفتوى السياسية، لا سيما في العراق، أنها تفتقر في أغلبها إلى الدراسات التأصيلية المتخصصة، وبعض من يتصدى لها يقر أنه لا باع له في السياسة؛ ولذا تأتي الفتاوى إما مترددة يعتريها التغيير في مدة وجيزة، أو مضطربة سرعان ما يعتذر عنها من تصدر عنه بعد ظهور قصورها في قراءة الواقع.

سنة العراق والفتاوى السياسية

تنازع العرب السنة في العراق صراعين داخليين كل منهما يجذبهم نحوه ليشكل مرجعية لهم، وهذا الأمر متأصل في شخصية أهل السنة عموماً، يقول د. عبد الرحمن الرواشدي (في كتاب العرب السنة في العراق ص 347): إن طبيعة العرب السنة أنهم أهل خلافة ودولة، ولذا ينشدون إلى الخليفة والقائد السياسي مرجعاً لهم، وهذا يضعف الفتوى السياسية إن لم ترتبط بتأييد السلطة. ويقول د. محمد عياش في مقال له بجريدة العرب: إن المجتمع السنّي مجتمع مدني بطبعه وتاريخه وثقافته ومرجعيته عبر التاريخ إنما هي الدولة ومؤسساتها، أما الفتوى فستبقى عنده في إطار الاجتهاد العلمي المتعدد والمتنوع ولا يمكن أن تنتقل عنده إلى مستوى القرار والقيادة.

في مقابل ذلك فإن التدين يجذب شريحة واسعة من أهل السنة، لا سيما بعد الاحتلال وسقوط النظام السياسي، ما ولّد فراغاً في قيادة أهل السنة لم تستطع القيادات الدينية التي برزت على الساحة العراقية أن تملأه، لعوامل عدة، لكن أثره بقي شاخصاً في شخصية جمهور أهل السنة في العراق في تعلقهم بالفتوى السياسية وفي شخصية القيادات السياسية السنية (الإسلامية والعلمانية حتى الشيعية)، لتمارس ضغطاً على العلماء في الخروج بفتاوى أقرب إلى كونها مسيّسة من كونها سياسية، إلا ما ندر.

ومن قراءة متأنية للفتاوى والمواقف السياسية التي صدرت من العلماء فرادى وجماعات، يمكن أن نخرج بالتالي:

- أن النظام السياسي في العراق بعد الاحتلال هيمنت عليه سياسة الهوية العرقية والطائفية، وتجذرت فيه القوميات والانقياد للسلطة الدينية والتمسك بالأصول العرقية، في ظل غياب الهوية العراقية حقيقة أو حكماً، وهذا ألقى بظلاله على الفتاوى السياسية التي صدرت عن علماء السنة، إذ كان بعضهم أسيراً للحفاظ والعودة إلى الهوية العراقية وإن تعرضت طائفته لكل أنواع التهميش والإقصاء والتصفية، وبعضهم ارتبط بالانتماء الطائفي وحرص على الدفاع عن هويته ووجود أبناء طائفته، فتأثرت فتاواه بذلك في تأييد المشاريع السياسية التي يرى فيها نجاة أو دفع الضر عن أهل السنة؛ ولذا نجد العلماء، وقد سبقهم السياسيون، من أهل السنة؛ قد انقسموا إزاء المشاركة في العملية السياسية التي أقامتها قوات الاحتلال ورعتها، ولا يزال هذا الانقسام يلقي بظلاله ويتجذر مع كل محطة من محطات العملية السياسية في العراق حتى بعد الانسحاب العسكري لقوات الاحتلال منه، يقول الدكتور محمد عياش: إن مما يؤثر على الفتوى السياسية لدى علماء السنة، هو موقف العرب السنة من العملية السياسية. لقد كان رفض العملية السياسية لدى جمهور السنّة العرب نوعاً من الاحتجاج على جريمة الغزو الأجنبي واحتلال العراق، وكان في الوقت ذاته دافعاً لحمل السلاح وإعلان المقاومة. بيد أن الذي فات السنّة العرب أن هذا الموقف المبدئي من الممكن أن يؤتي ثماره في بلد متجانس ومتفق من حيث المبدأ على التوجهات العامة، أما في الحالة العراقية فالأمر مختلف تماماً، فالمكونات الأخرى كانت ترى في الاحتلال فرجاً وتحريراً، وهذا الخلاف أنذر منذ البداية بانقسام حاد لا يمكن تداركه فيما بعد.

- أن التطور السياسي الذي شهده العراق ألقى بظلاله على العلماء؛ فمنهم من انتظم في مؤسسة دينية كهيئة علماء المسلمين والأمانة العامة للإفتاء والهيئة العليا للإفتاء ومجلس علماء العراق ومؤخراً المجمع الفقهي العراقي ورابطة أهل السنة والجماعة في العراق، ومنهم من بقي مستقلاً لا ينتظم في أي مؤسسة دينية أو هجرها بعد أن انتمى إليها. وقد تأثر هؤلاء العلماء فرادى وجماعات بالانقسام الذي اعترى أهل السنة فجعل أكثر الفتاوى التي تصدر عنهم تنحى منحى الاصطفاف مع القوى السياسية التي تراها أقرب إلى تصورها للحل السياسي وما يحققه من مصالح لأهل السنة، أو أبعد عمن تراه تنكّر لمشروع الإنقاذ الذي تراه وتؤصل له، وهذا أثر سلباً في الفتاوى السياسية، إذ أخذت منحى التسقيط والتشهير والرد القاسي من قبل هؤلاء العلماء بعضهم من بعض، مع إعجاب كل ذي رأي برأيه.

- شهدت الانتخابات البرلمانية في العراق في نيسان 2014، تصادماً في الفتاوى السياسية لأهل السنة بين الوجوب العيني والحرمة المؤبدة، ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن أغلبها افتقر إلى التأصيل السياسي، فلم تقدم حلاً لأهل السنة، وإنما أصبحت جزءاً من المشكلة وعززت الانقسام؛ فقد دعا كبير أعضاء المجمع الفقهي العراقي الدكتور أحمد حسن الطه في رسالته، إلى المشاركة في الانتخابات، معتبراً أنها من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع اعترافه ضمنياً بأن هذه العملية السياسية يشوبها كثير من الخلل والمفاسد وعليها كثير من الملاحظات، إلا أنه لا ينبغي تركها لمن لا خلاق له ولا أمانة، وعدّها وسيلة متاحة للتغيير ولا تتعارض مع وسائل أخرى للحفاظ على الوجود، مؤكداً ضرورة اختيار الأمين والمخلص.

بينما أكدت هيئة علماء المسلمين في بيانها أنه «لن يكون هناك تغيير حقيقي، خصوصاً أن العراقيين جربوها سابقاً ولم تعطِ حلاً»، مشيرة إلى أنه «ﻻ جدوى من هذه اﻻنتخابات التي جُربت بقوانين المحاصصة الطائفية، ولم يبقَ أمام الشعب سوى انتزاع حقوقه بالقوة وتغيير قوانينها».

في حين أصدر الشيخ عبد الملك السعدي فتوتين، الأولى: أباح المشاركة في الانتخابات وفق معايير معينة، ثم عاد فقال بحرمتها؛ لأنَّ المُشاركة لا تعدو أن تكون تأييداً للحالة السياسية التي ستقوم على الظلم والتزوير، لذا أصبحت المُشاركة في الانتخابات مُحَرَّمة على المُنتَخِب والمُنْتَخَب.

وقال الشيخ المفتي رافع الرفاعي في فتواه: ”بعد دراسة معمّقة للواقع الحالي الذي يعيشه وطننا الجريح.. رأينا أن ندفع الضرر الأشد المترتب على عدم المشاركة في الانتخابات بوضع ضوابطَ وشروطٍ لمن يرغب المشاركة في الانتخابات؛ تجنباً للوقوع في نفس الإشكال الذي أوصل العراق إلى ما وصل إليه”.

أما مجلس علماء العراق فقد دعا أهل السنة إلى اختيار المرشح الذي ينطبق برنامجه الانتخابي «مع مشروع الإقليم لخلاص أهل السنة في العراق من الظلم والتهميش والتمييز الطائفي»، وطالبهم بالنفير العام «لنصرة المظلومين وإحداث التغيير من خلال المشاركة الفعالة في الانتخابات لإثبات هويتهم ووجودهم وتحصيل حقوقهم».

كما قال بالوجوب كل من د. هاشم جميل ود. سامي الجنابي، وأن من مات دون الصندوق فهو شهيد، في حين ذهب الدكتور أحمد الكبيسي إلى أبعد من ذلك فقال بالوجوب العيني للمشاركة في الانتخابات؛ كالصلاة والصوم، ولا يخفى على أحد شدة التكلف فيها.

مقترحات لترشيد الفتاوى السياسية

إن موضوع الفتاوى السياسية عموماً وفي العراق على وجه خاص، يعيش حالة من الفوضى والارتباك، وهو بحاجة إلى خطوات ومعالجات جادة وشاملة لترشيده، منها:

- ضرورة تحرير محل النزاع في القضايا الكبرى التي تواجه البلدان الإسلامية، ومنها: تحرير قضية العراق برمتها قبل جزئياتها، ووضع مشروع سياسي منضبط بالسياسة الشرعية.

- جمع كبار العلماء ورؤساء الهيئات العلمية في معالجة القضايا الكبرى والمصيرية، ووضع أصول عامة في الإفتاء السياسي، ولدينا تجربتان وإن لم تكونا متكاملتين، هما: المؤتمر الذي عقده المجمع الفقهي العراقي لتحرير مسألة الإقليم السني، وتجمع كبار العلماء الذي دعا إليه الشيخ حارث الضاري وأصدر بياناً في رسم الأصول العامة لقضية العراق.

- ينبغي على المجامع الفقهية العالمية والمؤسسات الإسلامية؛ كمنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورابطة العلماء المسلمين؛ أن تقوم بواجبها في مساندة علماء كل بلد، كالعراق، يتعرض لنوازل تتعلق بالجانب السياسي؛ لأن تداعياتها تتعدى إلى غيره من البلاد العربية والإسلامية، وتؤثر سلباً أو إيجاباً على العالم الإسلامي.

- ضرورة عقد مؤتمر علمي عالمي بشأن الفتاوى السياسية ووضع الضوابط التي تنظم أصول الإفتاء السياسي، ومقومات المفتي في مثل هذه المسائل ليست من باب الفصل، وإنما من باب التخصص والإلمام بالواقع السياسي؛ لأن دقة الفتوى تبنى على عمق فهمه، ومن باب الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

:: مجلة البيان العدد  325 رمضان 1435هـ، يوليو  2014م.

أعلى