ثورة النفس
الأجواء متلبّدة، والنفوس متأجّجة قد
استشاطت غضباً، وحالة من السخط العارم تسود الحي! فهذه أول حادثة قتل تحدث في
القرية! ففي إحدى المشاجرات بين (حميد) وبعض جيرانه ثارت نفسه فأشهر سلاحه وأطلق
النار دونما وعي منه، فاستقرت الرصاصة الطائشة في صدر جاره (محمد البكور) فأردته
مضرّجاً بدمائه جثةً هامدةً لا حراك فيها.. ومنذ تلك اللحظة وحميد يضيق صدره كأنما
يصَّعَّد في السماء، ومما زاد ألمه وشعوره بالذنب، أن (محمداً) لم يكن ذا شأن
بالشجار، وإنما كان مارّاً في الطريق.
ومرت أيام والأمر لا يزداد إلا سوءاً
وتعقيداً، و(حميد) لا يدري كيف ستنتهي المشكلة؛ فهو متورط في قتل نفس بريئة بغير
حق، وهذا لم يكن في حسابه ألبتة؛ فقد أشهر سلاحه ليرهب جيرانه فإذا به يردي بريئاً
صريعاً.
لقد حار حميد في أمره، وأتعبته نظرات
الناس التي لا ترحم، وتطارده أنَّات الأيتام ولوعة الزوجة الثكلى حتى في نومه؛ فكم
من مرة استيقظ فزعاً في هزيع الليل وهو يصرخ: سامحوني أرجوكم.. أرجوكم سامحوني..
واستمر به الحال هكذا أياماً وتأنيب الضمير لا يرحمه لحظة واحدة.. (الناس يخرجون
إلى ساحات الجهاد والشرف مدافعين عن دينهم وأعراضهم ضد (الباطنيين) وأنت تشهر سلاحك
في وجه جيرانك! أين أنت من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار؟ أين أنت من
تعظيم الشرع حرمةَ الدم المسلم؟ ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يزال
المؤمن فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لم يصب دمًا حرامًا"...؟).
لم يعد بوسع (حميد) احتمال المزيد، وضاقت
عليه الأرض بما رحبت؛ لذا قرر أن ينهي كل ذلك العناء حتى لو كان ثمن ذلك القصاص،
فعذاب الدنيا مهما عَظُمَ لا يساوي لحظة من عذاب الآخرة.
كانت ليلة الخميس تلك التي عزم فيها
(حميدٌ) أمرَه وبيَّت في نفسه شيئاً لم يبح به لأحد. وفي اليوم التالي مضى مع
الساعين إلى صلاة الجمعة، وجلس يستمع إلى الخطيب وهو يعظ الناس ويذكرهم بالجنة
والنار، ويحثهم على التوبة والإنابة إلى الله.. وما إن انقضت الصلاة حتى وقف
(حميد) أمام الصفوف خطيباً:
(أيها الناس! إما أن نكون أحفاداً
لأبي بكر وعمر أو أن نكون أحفاداً للطاغية الهالك (حافظ الأسد)، وإننا لن نرى
النصر طالما نفوسنا مليئة بالضغائن والأحقاد. وإن هذا السلاح لا ينبغي أن يشهر إلا
في وجوه أعدائنا، ومن له حق عليّ فليأخذه مني الآن في بيت الله). ثم أخرج سلاحه
وتقدم نحو أحمد (ابن المقتول وولي دمه) وقال له: خذ سلاحي واقتص مني لدم أبيك. وساد
جو من الصمت الرهيب في انتظار رد فعل ولي الدم الذي لم يتمهّل كثيراً حتى فاجَأ
جميع الحاضرين بقوله وهو يعيد السلاح للرجل: نحن بحاجة لك ولسلاحك، وليشهد الجميع
أني سامحتك وجميع أهلي.
فرد حميد: عهداً أقطعه على نفسي ألا
أرفع سلاحاً في وجه مسلم في القرية أبداً، ولن أسكت على نشر فتنة فيها ما حييت.
ثم تقدم نحو أحمد وتعانقا في مشهد
أثار شجون الحاضرين وفاضت مآقيهم بدمعات الفرح وحمدوا الله - تعالى - أنْ وَأَدَ
نارَ فتنةٍ كادت أن تأتي على أَمْنِ قرية (المغارة) الوادعة.
:: مجلة البيان العدد 324 شعبان 1435هـ، يونيو 2014م.