فارس الأحلام
وقفت تلك الفتاة بملامحها
الآسيوية الواضحة، أمام بوابة أحد الأندية العربية الشهيرة، وظلت تطالع بابتسامة
عريضة تلك الصورة التي أمسكتها بأناملها، وكأنما انبعث في قلبها أمل ضائع ضلت
طريقها إليه زمناً.
لم تكن تلك البداية، فعقلها
يقنص ذكريات تتجلى في مخيلتها صورةً بعد صورة، لم تلتفت إلى الناس وهم يرمقونها
بسخرية أو دهشة وهي تترك وجهها يعبّر عن ذكرياتها؛ فتارة تضحك كالطفل الصغير،
وتارة أخرى تتسع حدقاتها في رعب وكأنما تنظر إلى الموت. من يراها حينذاك وهي ترتجف
ثم تبتسم، لأيقن أن ثمة علة بعقلها.
لطالما ناداها الجميع بـ
«أونغ لوين»، لكنها كانت تستقبل ذلك الاسم وكأنه وصمة عار، أو شعرت أحياناً بأنها
تلبس جلداً غير جلدها، وما أروع تلك الساعة التي يؤويها بيتها الصغير وترتمي بين
أحضان والديها وتشعر بدفء الأسرة الآمن، فتستمع منهما إلى النداء المحبب لها
«فاطمة».
نعم، هي فاطمة، لكن ماذا
عساها أن تفعل في ظل قوانين بورما الجائرة، التي تمنع أن يتسمّى مسلمو الروهنجيا
بأسماء المسلمين العرب.
هي تلك الفتاة التي تناجي
فرسها الأبيض، لتأتيها ابنة عمها في صحن الدار تشاركها اللعب والأسرار أيضاً، نعم،
فهي تعلم أن لولع فاطمة بالفرس الأبيض سراً.
فعندما تنظر إليه يحنو عليها
خيالها بصورة الفارس العربي وهو يمتطي ظهر الفرس الأبيض، ويصارع الصناديد بسيفه
البراق وهو يزلزل القلوب بصوت التكبير، تماماً كما حدّثها والدها الشغوف بالعرب،
أحفاد صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كَبُرت فاطمة ونما معها
حلمها البريء، تطالع من فوق منزلها مشارف القرية ساعة غروب الشمس، وكأنها تأمل أن
تعتاض عنها بإشراقة فارس الأحلام.
تلذعها
صديقاتها بالسخرية: تُمَنّين نفسك بسراب. فتجيبهن: لقد جعلوا واقعنا كابوساً
مزعجاً، فلماذا لا أحلم؟ لن يقمعوا أحلامي، هي قصر لم أزل أميرته، وأنتظر فارسي
العربي، ومن يدري؟
رغم تسعة عشر عاماً مضت هي
عُمْر فاطمة، إلا أنها لم تنفك عن عادتها البريئة بين أحضان المنزل الدافئ، حيث
تضع رأسها على حجر أمها الحنون، التي تعبث أناملها بشعر ابنتها الوحيدة، بينما
تنبعث تراتيل القرآن من والدها الذي تقاطعه كريمته من حين لآخر فيبتسم لها قبل أن
يستأنف تلاوته.
ها هو النوم يداعب أجفان
الفتاة، ويهم بالسطو على يقظتها بهدوء كاللص، لكنه قد فر على صوت طرقات عنيفة
زلزلت باب المنزل القديم، بل تحولت الطرقات في طرفة عين إلى محاولة اقتحام.
الفتاة انزوت إلى أحضان أمها
في هلع، والوالد يقترب من الباب في وجل ينقل بصره برعب بين أسرته وبين ذلك الباب
الذي أوشك على التخلي عن مهمة الستر والأمان.
لم يمهله زوار الظلام، فقد
اندفعوا بهمجية إلى صحن الدار بعد تحطيم الباب، ليمرر أحدهم سكينه الحاقد على رقبة
الرجل المسالم.
لم تصرخ فاطمة كأمها لمرأى
والدها مدرّجاً بالدماء، لكنها نظرت إليه بصمت ينبئ عن هول الصدمة التي جعلتها تظن
برهة أن ما تراه مجرد كابوس ستفيق منه وهي تلهث بأنفاس متسارعة.
لكنها أدركت حقيقة ما يجري
عندما انتفضت أمها المكلومة تجاه بعلها الذبيح وهي تصرخ في وجوه تجرد أصحابها من
الرحمة.
دوت صرخة الفتاة وهي ترى
نفراً من عصابات «الماغ» البوذية يركلون أمها بقسوة في وجهها وسائر جسدها حتى كفت
عن الصراخ، بل كفت عنها الحياة.
صرخات تلو صرخات تنبعث من
أعماق فاطمة، سرعان ما تحولت الصرخات إلى أنين مكتوم وهي تتراجع إلى الخلف في بطء
ورعب معاً.
نظرت إلى عيونهم فعلمت
مآربهم، ضمت يديها إلى صدرها بعفوية، أوقفت المنضدة حركتها للخلف، يدها تتحسّس ما
عليها، لم تقع إلا على المصحف الذي ظل مفتوحاً على حالته منذ أن كان الوالد ينظر
فيه قبل لحظات، أمسكت به وهي ترتجف.
ازداد فزعها عندما اقتربوا
أكثر، ليأخذ أحدهم المصحف من يدها ويمزق صفحاته أمام عينيها.
إنها تنظر إلى حيث الباب
المهشّم، تنتظره، يئست أن تجد لصدى صوتها مجيباً، فتذكرته في تلك اللحظة.
تذكرت الفارس العربي، انتظرت
مقدمه كما وعدها في أحلامها.. الثياب تتمزق، والأنياب قد برزت، والشرف سيُذبح
بسكين الغدر، والفارس لم يأت بعد.
صرخت بأعلى صوتها وعيناها لا
تتحولان عن الباب: أيها الفارس، أيها الفارس. وأصداء الصرخات تقرع سمعها لتعلن
أحداث النهاية.
لم تدر ِفاطمة بعدها كيف فرت
من موطنها، ولم تعبأ بتلك الأيادي التي تصحبها إلى مشفى للأمراض العقلية والنفسية
في بلد عربي، فقط شيء واحد كانت متيقظة له، ذلك الفرس الأبيض الذي رافقها في الحل
والترحال.
الأمل ما زال يحدوها في أن
يقبل فارس الأحلام، ويظلها ويقلها، ويمسح دمع مآقيها، ويزمجر في وجه من استلبها
الشرف النفيس.
كانت وحدها وهي تهرول
بدميتها في الشوارع كطفلة ضلت طريق مأواها، تقودها قدماها إلى حيث تلك الصورة
الكبيرة التي زينت بوابة النادي.
نعم، إنه هو، فارس الأحلام،
على فرسه الأبيض، أنفاسها تتسارع، أحلامها تزغرد لأفراحها، تدلف من البوابة تسابق
الريح عدواً كالطفل اللاهي، تصل إلى ميدان سباق الخيل وتندس دون قصد منها بين
الجماهير فتختفي عن أعين الحراس.
تصرخ: ها هو الفارس، ها هو
الفارس. وهي تشير بيدها إلى ذلك الشاب الذي سابق أقرانه ممتطياً فرسه الأبيض،
تتبعه بعد انتهاء السباق، تنتظر خروجه مع الآخرين في صالة فارهة، فيخرج الشاب وقد
حلّ أزرار قميصه العليا لتكشف عن قلادة ذهبية لم ترها إلا على صدور نساء قريتها
المتنعمات، لتحيط به الفتيات بضحكات ماجنة وهو يمازحهن بميوعة.
الفرس الأبيض يسقط من يدها،
إنها تتراجع إلى الوراء، وتركض، ثم تركض، ثم تركض، تتعالى صرخاتها، بل ضحكاتها،
يتلاحق دمعها، يتسارع نبضها، وتقف على أحد الأرصفة لتجد طفلاً مشرداً ينام في
العراء، تمددت بجانبه وقد اكتنفها ظلام الليل، وأسبلت جفنيها، وارتسمت على وجهها
ابتسامة دامعة وهي تقول: سأنتظرك يا فارس الأحلام.
:: مجلة البيان
العدد 322 جمادى الآخرة 1435هـ،
إبريل 2014م.