الغلو في التكفير واستباحة الدماء

الغلو في التكفير واستباحة الدماء

 في موقع «تويتر» كتب «شخصٌ ما» في صفحته مشيداً بخبر اقتحام سيارة مفخخة صفوف كتائب من المجاهدين بعملية انتحارية أودت بالعشرات بين قتيل وجريح.

وكتب أحدهم مستنكراً: اتقِ الله، كيف تجيز له قتل نفسه ثم يضحي بعد هذا بإخوانه؟ {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: ٩٣].

وكتب آخر: أين حرمة دم المسلم؟ كيف تكفّر إخوانك المسلمين وتستبيح دماءهم؟ وأين حرمة قتل النفس؟ {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا 29 وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: ٢٩، ٣٠].

لم أكمل النقاش الذي جرى بينهم، فلم أقرأ جوابه عن هذا التذكير والنصح.

إلا أنني موقن أن الجواب سيكون على النحو التالي:

لا شك في حرمة التكفير بلا حق، وحرمة الدماء المعصومة، غير أن من وقع في كفر فهو مستحق للتكفير بعد اجتماع الشروط وانتقاء الموانع، وحين يقتل فإنه يقتل لسبب شرعي، فأنا معظّم للدماء ومتقٍ لله في كل هذا، ولولا تقوى الله لما أيدت مثل هذا.

نحن إذن أمام حالة نفوسٍ لن تجد في وعظها بالتقوى والدماء وخطورة التكفير أي فائدة؛ لأنك تخوّفها بشيء في وقتٍ لا ترى هي فيه أنها فعلت ما يستحق التخويف؛ لأنها ترى أنها ممتثلة لتقوى الله في فعلها المنكر هذا، فالاستمرار بهذه الطريقة فائدته شبه معدومة، والحديث مع هذا الشخص عن أصول «الدماء» وخطورة التكفير، لا يفيد شيئاً؛ لأنه مسلّم تماماً لك بالأصل، بل ربما يقرر لك ذات ما تقرره من عصمة الدماء وضرورة الاحتياط فيها، ويعيد لك نفس كلامك عن خطورة منهج الخوارج!

إلا أنه في نفس الوقت يدافع عن ظواهر وأفعالٍ من مخالفة هذه الأصول يشيب لهولها الرأس، فلا إشكال لديه في أن يقتل مسلمين بل مجاهدين في سبيل الله، وهو مستعد لقتل نفسه في سبيل قتل مثل هؤلاء المجاهدين!

فنحن أمام ظاهرة مثيرة للدهشة: لا يختلف معك في تعظيم الأصول الشرعية من عصمة دم المسلم، وضرورة الاحتياط فيها، والحذر من تكفير المسلم، وخطورة قتل النفس، وعدم التكفير بالكبائر والذنوب... إلخ؛ في مقابل جزئيات تهدم هذه الأصول بالكلية فلا يكون لوجودها معنى، فأي قيمة لاحترامك دم المسلم وأي معنى لتعظيمك عدم تكفير المسلم بلا حق، إن كنت ترى أن إقدام شخص على قتل نفسه في سبيل أن يقتل إخوانه المجاهدين أمر مشروع!

فما تفسير هذه الازدواجية العجيبة بين تقريرٍ للأصول الشرعية وتسليم لها وإيمانٍ بها، مع التسليم والإيمان في نفس الوقت بجزئيات وتطبيقات تمزق هذه الأصول وتبالغ في انتهاكها؟

من الممكن أن نضع عدة أسباب تسهم في فهم هذا التنافر الملفت في هذه الظاهرة:

الأول: المعرفة الإجمالية بأبواب التكفير، وغياب الإدراك التفصيلي والبحث الفقهي المعمّق لدقائق التكفير، فتلاحظ بجلاء في مسائل التكفير أن ثم فئة شبابية تتورع عن الفتيا في دقائق العبادات أو المعاملات أو غيرها من الأبواب الفقهية؛ لأنها تعرف أن ثم خلافاً يتطلب نظراً طويلاً في الأقوال والأدلة وما يقتضي ذلك من ضرورة امتلاك أدوات أصولية وفقهية ولغوية مسبقة، فتحيل الأمر لأهله، وتعتاد أن تقول فيها لا أدري، أو تحيل السائل إلى من تثق به من أهل العلم، أو تنقل له فتوى من يقلد من أهل العلم، فتجد في الجملة أن ثم تحفّظاً وتحوّطاً في التعامل معها، وتكثر من الاستدلال بمثل قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُـولًا} [الإسراء: ٣٦]. أما حين يأتي الحديث عن تكفير جماعات معينة، أو استباحة دمائها وأموالها، أو تنفيذ عمليات قتل للنفس فيها؛ فإن من السهولة بمكان أن تجد هذا المتورع عن الفتيا في مسائل العبادات المعروفة، قد أصبح مفتياً شهيراً ومنظّراً كبيراً يقول بكل يسرٍ وسهولة عن آلاف المسلمين: يباح قتلهم وقتالهم لأنهم كفار مرتدون!

فعجباً من هذه الجرأة هنا مع الورع هناك؟

مع أن مسائل الدماء والقتال والتكفير على المستوى النظري، هي أعقد بكثير من مسائل العبادات.

وعلى المستوى العملي فالأثر المترتب عليها أشد خطراً بكثير، إذ يترتب عليها هلاك نفوس وأموال، فمن الطبيعي أن يزداد التورع والاحتياط والتحفظ في هذه الأبواب.

غير أن ما جعل هذه الأبواب وكأنها أبواب سهلة ميسورة، هو أن البعض يحفظ قواعد كلية عامة فيرى أن المسألة واضحة جداً لا تحتاج لأي بحث أو نظر، بل يطبقها مباشرة، وحين يأتي من يعارضها لا يرى أن الموضوع يستحق المعارضة، وإنما يفتش عن الخلل في دين المعارض أو نيته، بل حتى من يتحفظ أو يحتاط في الفتيا في قضايا الدماء والتكفير فمن السهولة بمكان أن يرمى بالإرجاء والجهل والخيانة!

فهو يحفظ مثلاً أن (مظاهرة الكفار على المسلمين من نواقض الإسلام)، أو أن (التشريع المخالف لما أنزل الله كفر)، ثم يبني على معرفته «الإجمالية» اليسيرة لهذه النواقض كافة منظومته القضائية والفقهية، مع أن كل «طالب علم» يدرك أن في هذه النواقض من التفصيلات والدقائق ما يتطلب بحثاً ونظراً وتوقفاً، وحين ينتقل إلى مرحلة تنزيلها على الوقائع والأعيان فهذا يتطلب تحفّظاً أكثر، كما أن ما تقتضيه من أحكام فقهية يتطلب علماً أوسع؛ إلا أن صاحب «المعرفة الإجمالية» لا يدري عنها فيجعل جهله حجة له على جرأته، ولهذا قيل «أجرأ الناس على التكفير أقلهم علماً به»؛ لأنه أصبح يتعامل مع التكفير كمثل مسائل الرياضيات، فهي حسابات واضحة ما عليه سوى أن يجمع فيها ويطرح!

لهذا وجدنا ممن يطبق بناءً على معرفته الإجمالية بحكم «التكفير بمظاهرة الكفار على المسلمين»، تكفير من يجلس مع الكفار، أو من يصالحهم، أو من يثني عليه الكفار، أو من يثني هو عليهم، أو يبحث عن أي مساعدة أو تعاون حصل بينه وبين من يحكم بكفره ليلحقه بهم!

ووجدنا ممن عرف بشكل مجمل قاعدة «من لم يكفر المشركين فهو كافر»، تكفير من رأى التفريق بين كفر النوع والوصف في مسائل التوحيد فعذر بعض من وقع في الشرك لجهل أو شبهة، فرأى أنهم – وهم أعلام كبار كثير - كفار لأنهم لم يكفروا المشركين!

ورأينا من سمع بشكل عام القول «بكفر من يشرع من دون الله»، فانطلق يكفّر بناءً عليه كل شخص يثني على نظام الديمقراطية، ولو كان يحلف بأغلظ الأيمان أنه يريد حكماً شورياً لا يتجاوز أحكام الشريعة.

وخذ من الأمثلة التي لا تحصر، ناتجة عن جرأة على هذه الأبواب مع ضعفٍ بيّن في التأهيل الشرعي ممن يكتفي بالمعلومات الكلية الإجمالية التي يمكن أن يتعلمها في غضون ساعات، ثم يخرج على الناس بعدها ليهاجم كبار أعلام الأمة لأنهم لم يفهموا التوحيد بعد، ويشعر بعد هذا العلم الإجمالي بأنه لا حاجة له لأن يسأل أهل العلم؛ لأن السؤال يكون لمن لا يعلم!

ولأنه يحفظ القواعد الكلية، فهو يعرف أن منهج الخوارج هو التكفير بالكبيرة، وهو يقول أنا مخالف لهم تماماً لأنني لا أكفر بالزنى والخمر والقتل ولا أقول إن الأصل في الناس الكفر، فأصولي مختلفة تماماً عن أصول الخوارج، فيشعر بارتياح لأنه بعيد عن اتهامات الآخرين له بالغلو المشابه للخوارج، ولم يفقه أن الخوارج حين كفّروا علياً رضي الله عنه ومن معه من الصحابة كفروهم بأمور ليست من قبيل الكبائر؛ كتحكيم الرجال في دين الله، بل من قبيل التكفير بلا مكفر، فهم يخرجون الناس من دين الله من دون بيّنة شرعية، ولهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (يقتلون أهل الإسلام)[1]، ولم يقتلوهم إلا بعد أن حكموا بكفرهم بما ليس بمكفر، وهو تماماً ما يقع فيه من يكفر المسلمين ويستبيح دماءهم بناءً على جهل بقواعد الشريعة؛ فيكفر الشخص لأنه جالَس كافراً مشهوراً بما يعني رضاه وموالاته، أو كانت بينهما مفاوضات أو شك في وجود ارتباط يجمعه مع دولةٍ ما والتي تدل على مظاهرته للكفار على المسلمين، أو حكم بأنه ضد المشروع الإسلامي لأنه وقف ضد مشروعٍ معين، أو رآه يثني على الديمقراطية، أو جلس مع من يطعن في الدين... ونحو هذه المكفرات الشائعة التي هي من جنس الغلو الذي وقع فيه الخوارج، فيخرجون الناس من دين الله جهلاً وعدواناً بناءً على قواعد وأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، ولأنه يكتفي بمعرفة القواعد الكلية العامة فإن من البداهة أن يقع في مهاوٍ من حيث لا يشعر ثم يتعجب بعدها ممن يصفه بأنه على مسلك الخوارج! وحُق له أن يتعجب، لأنه لا يدري عن هذه التفصيلات التي تخبره بمكامن الخلل في كلامه.

ولهذا؛ تشيع عند من لا يعرف إلا القواعد الكلية العامة حالة التكفير بالأوصاف السائبة العائمة، فتسمع من يرمي المسلمين بالردة والكفر بأفعال من قبيل الوقوف في وجه المشروع الإسلامي، وحجر عثرة في طريق الخلافة الإسلامية، والعداء للدولة الإسلامية، والتعامل مع الكفار بما يدل على رضاهم عنه... ونحو هذه الإطلاقات التي يعرف كل طالب علم أنها ليست من قبيل المناطات التي يعلق بها حكم شرعي فضلاً عن تكفير واستباحة دماء، وهي إطلاقات سائبة مرسلة يصح فيها القول بأنه لو اجتمع عشرة رجال ليضعوا تفسيراً لها لاختلفوا فيها على أحد عشر قولاً!

بل زاد سيلان هذه الأوصاف السائبة حتى رأينا من يحكم على الشخص بالكفر لأنه حضر مجلساً كان فيه قول فعلي ظاهر ولم يتكلم، فالساكت مثل المتكلم، فأصبح التكفير يحصل بالقول والفعل والسكوت! بل تفاقم الأمر أكثر فرأينا من يحكم بكفر أناس لأن الكفار الحربيين قد رضوا عنهم أو أثنوا عليهم، فأصبح التكفير ليس بما يصدر من الشخص من قول أو فعل أو اعتقاد، بل بما يصدر من الآخرين نحوه من قول أو فعل أو اعتقاد!

وهذا كله راجع إلى تقحم باب التكفير واستباحة دماء المسلمين لغير المؤهلين، وتصدّر الجهال الذين عرفوا بعض القواعد الكلية فأخذوا يعيثون في أحكام الشريعة فساداً وهم لا يفقهون في تفصيلاتها شيئاً، ويظن أحدهم أنه ملتزم بأصول السنة وجار على قواعد أهل العلم بمجرد أنه ينطلق من أصل شرعي صحيح ثم يموج بعدها في التفصيلات والفروع بلا علم ولا بيّنة.

السبب الثاني: أن الشخص يجزم أن مقصوده ليس إراقة الدماء ولا تكفير المسلمين، وإنما نصرة دين الله ومقاتلة المرتدين ومنع قيام العملاء الذين يحققون أهداف الأعداء، وحينئذٍ فهو يشعر أن من الظلم والبغي أن يتهم بأنه والغ في الدماء متهاون في التكفير وهو إنما جاء للجهاد في سبيل الله ولدفع العدوان عن دماء المسلمين وأموالهم.

ملاحظة: هذه النية لا تحرك في القلب داعياً لاستحضار ما يفعله من مناقضة الأصل، فيبقى الأصل متعطلاً؛ لأن النية صالحة، وهي في الحقيقة غفلة عن أصل شرعي محكم، وهو أن النية الحسنة لا تقلب العمل صالحاً، فكم من مريد للخير لم يصبه، بل حتى الخوارج الذين جاءت الشريعة بذمهم وقاتلهم الصحابة كانوا أهل عبادة وجهاد واجتهاد في الطاعة ولم يكن هذا مانعاً من استحقاقهم الذم النبوي (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)[2]، فالعبرة بموافقة العمل للشريعة، فإن كان مخالفاً لها فلا أثر لنيته في الحكم على الفعل، بل إن الاعتماد على النية الصالحة في مثل هذا المقام يخشى أن يكون من قبيل الإعجاب بالنفس الذي يظن الشخص معه أن مثله لا يقال له أنت مخالف لقطعيات الشريعة، فيكون من جنس الهوى الذي يضل الإنسان عن الهدى من حيث لا يشعر {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: ٢٦].

وباب «الهوى» يستبعد عادة عند الحديث في مشهد الغلو، على اعتبار أن الغلو راجع لزيادة في التدين والتعبد وتعظيم الشرع، فلا يتوهم الشخص حضور الهوى فيهم كما هو لدى التيارات المتهاونة، والحقيقة أن الهوى حاضر في الطرفين جميعاً، فالهوى يكون بالتساهل ويكون بالتشدد، ولهذا كان العلماء يسمون الخوارج أهل الأهواء، فالهوى لا يعني فقط أن يترك الشخص الواجب الشرعي لأنه لا يهواه، بل للهوى صور كثيرة وقد تخفى على كثير من الناس، وأي هوى أظهر من حالة ذلك الشخص الذي يصر على بغيه وظلمه فلا يرتدع بنصحٍ ولا تذكير بالله، ويركب رأسه فلا يبالي في مسائل الشريعة بأهل العلم ولا يرفع بهم رأساً، ثم يخوض في أعراض أفاضل أهل الإسلام من علماء الأمة والمرابطين في سبيل الله ويرميهم بالكفر والخيانة والفساد، في حين يرى أنه ومن على حزبه هم الجديرون بالحق، ثم يقتحم الأمور العظام ولا يجد في نفسه داعياً حتى لإمكانية التريث والاستماع للناصحين لعل في موقفه ما يستدعي التوقف أو التحوط، فهذه أمواج هوى تعبث بصاحبها من حيث لا يشعر.

السبب الثالث: الثقة المفرطة ببعض الأشخاص أو التيارات أو الجماعات التي يعتقد الشخص أنها على الحق، فيقبل كل ما عندها بلا تمييز لأنه يراها قد بلغت من الديانة والثقة مبلغاً لا يمكن أن تقع معه في بعض الأخطاء اليسيرة، فضلاً عن مثل هذه الجرائم المروعة، فالنقد الشديد الموجه لهذه الجزئيات يطالبه بضرورة العودة للأصول والكليات؛ لا يحرك فيه ساكناً؛ لأنه يرى أن الشخص الفلاني أو الجماعة الفلانية قد رأت هذا الموقف وهي أعلم وأتقى وأفضل فلا يمكن أن تكون أفعالها مخالفة لهذه الأصول، فيبقى هو مؤمناً بالأصل نظرياً، ومعطلاً له عملياً، لأنه مقلد لغيره، وهذا من التقليد المذموم الذي لا يعذر فيه الإنسان، فالواجب عليه أن يحاكم الجميع إلى الشرع، وحين يأتي المقتول بدمه يحاججك أمام الله فلن ينفعك أن تقول قال لي فلان إنه مباح الدم أو أمرني الأمير أن أقتله، فهذا التقليد الأعمى هو من جنس تقليد الكفار في رد ما جاءت به الرسل: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: ٢٣].

السبب الرابع: تأثير الخصومات والنزاعات التي تجري بين الأحزاب والجماعات على الأحكام والأوصاف الشرعية، فبدلاً من أن ترد الخلافات إلى كتاب الله، وأن تكون الشريعة هي الحكم بين المختلفين، حتى تكون الأصول ضابطة للتصرفات، وتحاكم التطبيقات للكليات؛ يتحول الموضوع عند بعض الناس إلى نزاع مع جماعات أو أحزاب أو أفكار، فيكون موقفه تابعاً للموقف الحزبي لجماعته ولمواقفها مع الجماعات الأخرى، حتى ما عاد يستحضر قيماً شرعية وأحكاماً تمس كل فرد بغض النظر عن جماعته، وإنما أصبح ينظر لأفرادهم بحسب الموقف الحزبي للجماعة، بما جعل الأصول الشرعية متعطلة غير نافذة مع غلبة المزاج الحزبي.

يتحدث بعضهم - بكل برود - مبرراً حادثة قتل: بأن هؤلاء مشروع صحوات مستقبلاً!

هب أنهم سيكونون كذلك، هل في الشريعة ما يجيز لك قتل من تظن أنه سيكفر لاحقاً؟

ويتحدث آخر عن أن جماعته تمتلك مشروعاً يحاربه الشرق والغرب، وأنه يدافع عن مشروع إسلامي ضد المعتدين، فهب أن هذا كان كذلك فهل هذا يعطيك صكاً شرعياً لتبيح دماء من شئت ممن تراهم خطراً عليك!

وهكذا يتحول الموضوع إلى صراع حزبي يكون فيه الحزب هو الإسلام، فمن حاربه فهو محارب للإسلام مباح الدم، ومن كان مع الحزب فهو المؤمن الموحد المجاهد، ومن كان خارجه فإن لم يكن كافراً مرتداً فلعله لا يكون بعيداً عن الردة، وإن كان بالضرورة لا يقول هذا نظرياً لكنه في الجانب العملي يسير على هذه الكيفية.

الخصومة الحزبية تعمي الشخص عن الواجب الشرعي قبل نسبة أحد إلى قول أو فعلٍ كفري، فقد يكون الفعل أو القول كفراً لا شك فيه، إنما قبل أن تنزله على أحد من الناس لا بد أن تكون لديك دلائل قطعية تثبت ذلك، غير أن الخصومة الحزبية تعمي فئة من الناس فتغيب كل المعايير البدهية للتثبت فيكون من السهل جداً أن يكفر شخصاً وربما جماعة بل تياراً واسعاً من الناس بناءً على خبر في صحيفة غربية قرأها على الشبكة الاجتماعية ومن ترجمة لا يدري حتى ما مصدرها! وحين يطالب بالإثبات العلمي الذي يتطلب دقة موضوعية ومنهجية فإنه يبدأ بسرد ما يفعله هذا التيار وما تقع فيه هذه الجماعة، بما يعني أن الإشكال الحزبي والصراع مع الجماعات كان هو الدافع الأكبر للتكفير بما خفف من وسائل الإثبات فأصبح يبحث بعدها عن أي شيء ليستند إليه.

السبب الخامس: التمسك ببعض حالات الاستثناء التي جاءت بها الشريعة على خلاف الأصل، غير أنه يتضخم في وعيه وتفكيره حتى يكون ملغياً للأصل وراجعاً عليه بالإبطال، فمثلاً هو مؤمن بحرمة الإقدام على قتل المسلم، لكنه يرى أن ثم حالات شرعية جاءت الشريعة بالعفو عن القتل فيها لاعتبار الخطأ والتأويل فيها، كما جاء في قصة أسامة رضي الله عنه حين قتل في غزوة كافراً قال لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم[3]، ولم يقتص منه الرسول ولم يطلب منه دية ولا كفارة، وما جاء عن خالد بن الوليد رضي الله عنه في قصة بني جذيمة حين قتلهم خطأ بعد الإسلام، فما زاد النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد[4].

تزيد هذه الوقائع في وعيه حتى يكون من الميسور جداً عنده أن يحكم مباشرة على أي حادثة قتل بأنها خطأ وأنها من قبيل فعل خالد وأنها لا تحتاج لدية ولا كفارة ويكفيه أن يتبرأ بشكل عام من قتل أي مسلم، حتى بلغ الحال أن يحكم بعضهم على قضية قتل بأنها لا تتطلب دية ولا كفارة ولا ضمان ومن دون حتى أي حاجة لحكم قضائي!

وحين يسمع بأي حادثة قتل أو تعدٍّ فإنه مباشرة يجيب أن هذا شيء معتاد في أي ساحة قتال وأنه وقع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يصح أن نهول الأمور.

نحن إذن أمام حالة تضخم فيها الاستثناء فبدأ يزاحم الأصل، بل كاد أن يصبح الأصل في الدماء هو عدم تجريم القتل وإلغاء أي أثر للقتل من قصاص أو دية أو كفارة؛ لأنها قتل خطأ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى ما جاءت به الشريعة من تعظيمٍ للدماء وحقوق ملزمة فيها بالإبطال، ولم يكن هذا منهج النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الرسول هو القاضي الذي نظر في قضايا جزئية معينة فحكم عليها بالخطأ، وشدد على أصحابها بعد أن تحقق أن القتل كان خطأ، إلا أن هذا استثناء، ويبقى أن الأصل هو استحقاق القاتل للقصاص ولزوم كافة الأحكام عليه، وأن عليه أن يثبت الخطأ أو التأويل، وهذا يتطلب قضاء ينظر في الواقعة ليعرف هل ثبت فيها خطأ أو تأويل، ثم ينظر هل هذا التأويل مما تعذر به الشريعة أم لا، مع ضرورة صيانة الدماء بمعاقبة من وقع منه أي تهاون فيها، حتى تبقى هذه الجزئية في حيز الاستثناء كما جاءت بها الشريعة، لا أن تتضخم فيكون من السهل أن يراق دم المسلم ويقال بعدها بلحظات بكل سهولة: لا دية ولا كفارة ولا قصاص، فهو وإن تحدث عن تعظيمه للدماء فهو أصل متعطل؛ لأن الاستثناء قد غلب عليه.

لهذا مثلاً فمن دافع عن نفسه أو ماله أو عرضه فقتل من صال عليه فلا حرج عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار[5]. إلا أن الأصل هو أنه قاتل لنفس بغير حق حتى يثبت عند القاضي أن القتل كان دفعاً للنفس.

فهذه إذن خمسة أسباب: (العلم الإجمالي بالقواعد الشرعية الكلية من دون علم بتفصيلاتها وحدودها، والإعراض عن محاكمة أفعاله بصرامة إلى قيود الشريعة ثقة بنيّته ونقاء مقصده، والتقليد الذي يعطل فيه الإنسان عقله وعلمه وديانته تبعاً لغيره، والخصومات الحزبية التي تتبخر فيها قيود الشريعة من جراء حرارة الخصومة، وتضخم الاستثناء عن موقعه الطبيعي)؛ وهي أسباب مركزية تجعل الأصول الشرعية أصولاً متعطلة لا تؤثر على صيانة مواقف الإنسان من الجزئيات المنحرفة، ولا تمنعه من الوقوع في الفروع والتطبيقات المشوهة.

إن كلمة «اتق الله» تهز وجدان أي مسلم، والتذكير بالدماء والحساب والحقوق يرعد فرائص العامي من المسلمين ولو كان فيه من التقصير ما فيه، وقد يدفعه هذا لأن يبالغ في الاحتياط والتورع والتحفظ حتى لا يلحقه شيء من التبعة يوم القيامة، وربما آثر ترك حقه ورضي أن يكون عبد الله المقتول خشية من أن يكون عبد الله القاتل. غير أن هذه المعاني العميقة في النفوس يتعامل معها الشخص الغالي بكل برود، فلا يرى فيها إلا مواقف تعود إلى جهل من قالها ونقص في إدراك حقيقة التوحيد، فلا يزيده الوعظ والنصح إلا ضلالاً، وهذا يؤكد معنى تحذير السلف - رحمهم الله - من خطورة الشبهات، وأنها تفوق خطر الشهوات؛ لأن صاحبها يرى أنه على الحق فلا يرتدع ولا يتراجع ولا يرى أن في فعله ما يستحق النظر، فيستمر على حالة الغلو هذه حتى يهلك نفسه ومن حوله.

ظاهرة «الأصول الشرعية المتعطلة» هي حالة ساطعة في مشهد الغلو المعاصر، يتحدث فيها الغالي عن الأصول والكليات الشرعية كأحسن ما يكون، ويتبرأ من القواعد الكلية النظرية للغلاة بأروع بيان، غير أن التطبيق العملي ينطلق منفكاً عن بوصلة هذه الأصول الشرعية المتقنة لتبدو صوراً مشوهة وانحرافات فاضحة تنكشف فيها حالة الانقطاع بين الأصل والفرع، وأن من تبرأ من أصول الغلاة قد وقع في ذات تطبيقاتهم، بل ربما زاد عليهم من حيث يشعر أو لا يشعر.

 

:: مجلة البيان العدد  321 جمادى الأولى 1435هـ، مارس  2014م.


[1] أخرجه البخاري برقم (7432) ومسلم برقم (1064).

[2] أخرجه البخاري برقم (4351) ومسلم برقم (1066).

[3] أخرجه البخاري برقم ( 6872) ومسلم برقم (96).

[4] أخرجه البخاري برقم (4339).

[5] أخرجه مسلم برقم (140).

أعلى