• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أولى القبلتين من أولى قضايانا

أولى القبلتين من أولى قضايانا

 

إن قضية الأرض المباركة والمسجد الأقصى قضية إسلامية تعني كل مسلم ومسلمة، فجراحات المسلمين واحدة، وجماعتهم مثل الجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[1]، وفي الحديث الآخر: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم»[2]. والنصوص التي أوجبت نصرة المستضعفين، وإعانة الإخوان المسلمين، كثيرة، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِـمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: ٧٥]، وقال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك»[3]. بل لو لم تكن أرض فلسطين يوماً أرضاً إسلامية، فإن واجب الجهاد باقٍ، وأولى الأماكن به التخوم القريبة، ومع ذلك فقد اجتمعت في أرض المقدس أسباب جعلتها الأولى بنصرة المجاهدين فيها، وأحق من غيرها بالعناية والتقديم، ومن ذلك:

أنها أرض إسلامية، افتتحها المسلمون في زمن الفاروق، وأسلم جمهور أهلها، ثم احتلها كافر أصلي لا يمتري في كفره إلّا كافر، ثم هو مع كفره لا عهد له ولا ذمة، فلا يشتبه قتاله.

أن فيها المسجد الأقصى، وله عند أهل الإسلام مكانة خاصة، فهو أولى القبلتين، وثالث المسجدين، شرع الله تعالى شدَّ الرحل إليه بنص نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»[4].

أنها أرض مباركة بنص قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ إلَى الْـمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: ١]. وفي بركة بيت المقدس وفضل الشام وتخومها آثار وأخبار معروفة، صنف فيها شيخ الإسلام وابن عبد الهادي وابن رجب والربعي وغيرهم من علماء الإسلام سابقهم ولاحقهم.

أنها بلادٌ مطالِبُ أهلها عادلة، فقد أُخرجوا من ديارهم وأموالهم من قبل محتل مفسد غاشم، فلو ما كانوا مسلمين لكان قتالهم عدواً اعتدى على ديارهم، وأخرجهم من أرضهم، معنى معقولاً غير منكر.

وأخيراً، كل ما احتج به منتسبو الأديان في تسويغ احتلال اليهود لفلسطين أو بعضها، هو عند أهل الإسلام حجة لهم في دفع المحتل عنها؛ فإن قالوا أرض ميعاد موسى وهؤلاء أهل دينه، فنحن المسلمون أولى بموسى وبإبراهيم - ومَن بينهما من الأنبياء عليهم السلام - مِن سائر أهل الأديان الذين حرَّفوا وبدلوا، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «نحن أولى بموسى منهم»[5]، وفي التنزيل: {مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ 67 إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْـمُؤْمِنِينَ 68} [آل عمران: ٦٧، ٦٨]، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْـمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [البقرة: ٢٨٥].. فمن حيث الدين: المسلمون أولى ببيت لحم والمسيح من سائر النصارى اليوم، والمسلمون أولى بموسى وداود وسليمان وبيت المقدس من سائر أهل الكتاب اليوم.

وأما إذا نظرنا إلى الحق التاريخي، فيعقوب - عليه السلام - وفد إلى الأرض المقدسة وقد كان فيها أهلها، وغادرها مع بنيه إلى مصر وبقي فيها أهلها، ولما عاد اليهود بعد التيه إلى الأرض المقدسة كانت مأهولة بشعبها، وذلك بشهادة كتب اليهود والنصارى أنفسهم، ثم لما جاء نصر الله وفتح الإسلام، دخل في الدين أهل فلسطين، من أحفاد العماليق وغيرهم، ومن بقايا اليهود وأمم النصارى التي تمكّنت أيضاً، فغدا الشعب المسلم أجناساً من أحفاد السكان الأصليين، وأهل الكتاب المتحوّلين إلى الدين الحنيف، ومن استقر عندهم من عرب الجزيرة بعد الفتح؛ فبأي حجة يدَّعي اليهود (إن فُرض جدلاً أنهم من نسل إسرائيل)، أحقيَّتهم ببلاد فيها مثلهم قد أسلموا، ومثلهم قد وفدوا واستقروا، ومثلهم من أحفاد شعب الأرض المقدسة الأُوَل قَبْلَ نبي الله يعقوب! فكيف إذا علمنا أن اليهود الذين ترجع أصولهم إلى بني إسرائيل أقلية في فلسطين! مع أن نسبة أكثرهم إلى بني إسرائيل تحتاج إلى إثبات.

إن فلسطين أرض المسلمين، والمسجد الأقصى كذلك على مرّ التاريخ كان مسجدَ المسلمين من قبل أن يوجد اليهود، ومِن بعد ما وجدوا، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أيّ مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى». قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة»[6].. وهذا ولا شك قبل بعثة موسى - عليه السلام -؛ فإبراهيم - عليه السلام - الذي رفع مع إسماعيل القواعد من البيت، هو الذي عيَّن بأمر الله مكان المسجد الأقصى، وهو إمام الحنفاء المسلمين. قال السيوطي في شرح سنن النسائي عند تعليقه على هذا الحديث: «قال القرطبي: فيه إشكال، وذلك أن المسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام بنص القرآن، والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، كما أخرجه النسائي من حديث ابن عمر، وسنده صحيح، وبين إبراهيم وسليمان أيام طويلة، قال أهل التاريخ أكثر من ألف سنة. قال: ويرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على بناء إبراهيم وسليمان - لِما بينّا - ابتداء وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه، وقد روي: أول من بنى البيت آدم، وعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً. انتهى. قُلْت: بل آدم نفسه هو الذي وضعه أيضاً، قال الحافظ ابن حجر في كتاب التيجان لابن هشام: إن آدم لمّا بنى الكعبة أمره الله تعالى - بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه، فبناه وَنَسَكَ فيه»[7].

فبيت المقدس أرض إسلام قديمة، وسيبقى بيت المقدس وتخوم بيت المقدس كذلك أرضاً إسلامية، فقد ثبت في فضائل الشام وبيت المقدس ما لا يدع مجالاً للشك في كون احتلالها عارضاً، وأن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ستعود إليها، ففي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)[8]، وأهل الغرب هم أهل الشام، يطلق ذلك عليها باعتبار الحجاز لكونها أدنى اليابسة المتصلة بها غرباً، وقد نص أحمد بن حنبل وغيره على أنهم أهل الشام[9]، ولما كانت الحجاز قريبة من البحر في كثير من حدودها، شاع إطلاق الغرب على الأراضي اليابسة الواقعة غربيها، وهي أرض الشام وما تلاها غرباً، فلا غرو أن أطلقوا المشرق على ما كان بإزائها من أرض العراق وما تلاها شرقاً، لا سيما مع امتداد أرض الحجاز شمالاً.

وقد سمع هذا الحديث معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معاوية يحتج به على المنبر، وذلك ثابت في الصحيحين[10]، وذكر الحديث يوماً فقال مالك بنُ يُخَامِر: قال معاذ: وهم بالشام. فقال معاوية: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: «وهم بالشام»[11]. وفي حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك». قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»[12].

لما سبق وغيره تظل قضية المسجد الأقصى وفلسطين من أولى قضايا المسلمين التي يجب ألا نتوانى في دعم أهلها مهما طال الأمد، وأن نحافظ على صبغتها الإسلامية، فتلك الصبغة هي التي ميَّزتها، وزادتها شرفاً عن غيرها، ومتى صبغت بالصبغة القومية ضعفت، إذ يمكن التنازع فيها، وليس من يعمل ويجاهد ويبني عن عقيدة راسخة، ودين يدين الله به؛ كمن يعمل لقوم أو جماعة!

ولنعلم كما أن على الأمة واجب دعم المجاهدين وتثبيتهم، فإن عليها واجبات إزاء أسر الشهداء، من ثكالى ويتامى، لا سيما في ظل حصار غاشم يعوزهم إلى كثير من الضروريات، بله الحاجيات، فلنتواصى بمواساتهم، ولا ينسينا طول الأمد واجب نصرتهم.. نسأل الله أن يخفّف عنهم، وأن يكسر الحصار ويد الظلم والعدوان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

:: مجلة البيان العدد  319 ربيع الأول 1435هـ، يناير  2014م.

:: البيان تنشر ملف خاص بعنوان (( قضية فلسطين.. والصراع على القدس))


[1] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، انظر: صحيح البخاري (2586)، ومسلم (6011).

[2] انظر: مسند أحمد (960)، وأخرجه أبو داود (4530)، والبيهقي 7/133-134، وجمع.

[3] أخرجه البخاري (2443).

[4] متفق عليه من حديث أبي هريرة وغيره، انظر: صحيح البخاري (1189)، ومسلم (1397).

[5] متفق عليه، أخرجه البخاري (3397)، ومسلم (1130).

[6] أخرجه البخاري (3366).

[7] انظر: سنن النسائي بشرح السيوطي 2/362.

[8] انظر: صحيح مسلم (1925).

[9] انظر: منهاج السنة 7/58، وانظر: بحث ما قيل عند ابن حجر في الفتح 13/295.

[10] انظر: صحيح البخاري (7312) (3641)، ومسلم (1037).

[11] وهذا ثابت في البخاري (3641).

[12] أخرجه عبد الله في مسند الإمام أحمد وجادة (22320)، وأخرجه غيره، وفي الزيادة بآخره مقال.

 

 

أعلى