• - الموافق2025/10/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}

محاولة تليين الإسلام لإرضاء الآخرين عبر تأويل النصوص أو التنازل عن الأحكام تمثّل انحرافًا خطيرًا يُفرغ الشريعة من مضمونها. الطريق الصحيح يكون بالتمسك بالوحي وفهم السلف، ورد الشبهات بالعلم والعدل دون مداهنة أو تمييع.


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

بيَّنت هذه الآية أن المشركين يتمنون أن يَلين الرسول صلى الله عليه وسلم  في دينه، فيَلينُون معه في الباطل؛ أي: أنهم يرغبون في أن يترك الرسول بعض الحق لكي يتركوا هم شيئًا مما يخالف الحق. وهذه الأُمنية سمة ثابتة لا تتغير عند المخالفين للحق؛ سواء كانوا كفارًا أو منافقين، أو غيرهم من أهل الضلال.

وبعض أهل العلم والدعوة والفكر قد يُحقِّق لأهل الباطل شيئًا مما يتمنونه؛ بتقرير ما ليس من الشريعة؛ ظنًّا منهم أنهم بذلك يدافعون عن الإسلام، أو يقدّمونه بصورة مقبولة عند المخالفين لأحكامه، وهذا مِصْداق لتفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- للآية بقوله: «ودُّوا لو ترخّص لهم فيرخصون لك». وعن الحسن: «ودوا لو تُصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم». وعنه أيضًا: «ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم».

وهذه النزعة الدفاعية المُفْرِطَة وغير المنضبطة بحدود الشرع أدَّت إلى تقديم تنازلات أو عرض صور مُخفّفة من تشريعات الإسلام، وهذا يظهر في عدة جوانب:

1- ردّ النصوص الشرعية أو التكلُّف في تأويلها:

بعضهم يستشكل نصوصًا شرعية فيردّها؛ لأنها في ظنّه تؤدي إلى تقديم صورة مشوّهة عن تشريعات الإسلام، وهذا يكون بالطعن في ثبوتها إن كانت من السُّنة، ولو كانت في أعلى درجات الصحة كما لو رواها البخاري في صحيحه، أو ردّ دلالتها الظاهرة إن كانت قرآنًا أو سُنَّة، ثم يسلك بعد ذلك مسالك بعيدة وظاهرة التكلُّف في تأويل هذه النصوص.

ومن ذلك مَن يزعم أن رد ظاهر بعض الأحاديث الصحيحة «هو الذي لا يليق بزماننا غيره.. ونحن بترجيح هذا الرأي نُبطل الأعذار ونُعْلِي راية الشريعة الغراء».

ومن ذلك قول بعضهم: «وقد نقدتُ مرويات جاءت في الصحاح رأيتها تمسّ الصميم من ديننا، وتفتح ثغرات مخوفة ينفذ منها عدوّنا، ما قصدتُ بذلك أن ألمز كبيرًا أو أضع من قَدْره، ولا قصدت بذلك أن أرفع خسيستي ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:88-89]، وإنما كان نُصحي لله ورسوله ومصلحة الدين الذي شرفت بالانتماء إليه والدفاع عنه».

2- المداهنة في التشريع والأحكام

بعضهم قد يُخفِّفون من حدة الأحكام الشرعية -كما يظهر لهم-، أو يقدمون تفسيرات مرنة جدًّا -وَفْق فهمهم-؛ لتتناسب مع الأهواء أو الضغوط الاجتماعية أو السياسية. هذا يشبه «الدهن» الذي ذمَّته الآية؛ حيث يتم التغاضي عن الحق أو تخفيفه لإرضاء الآخرين.

ومن ذلك التبرير المبالغ فيه للتخفيف والتهوين من بعض المحرمات (كالربا أو الاختلاط غير الشرعي) تحت ذرائع مثل «الضرورة» أو «التيسير على الناس»، دون ضوابط شرعية واضحة.

3- التنازل عن الثوابت

بعضهم قد يتنازلون عن ثوابت العقيدة أو الشريعة تحت ضغوط خارجية أو رغبة في القبول الاجتماعي.

ومنه الترويج لفكرة أنّ الإسلام «يُواكِب العصر»؛ سعيًا لتغيير بعض أحكامه وقواعده، كما في بعض المسائل المتعلقة بالمرأة -كالقوامة-؛ لتتناسب مع مفاهيم عصرية في حقيقتها مخالفة للإٍسلام.

4- التلفيق بين الإسلام وغيره

وذلك يظهر في محاولة التوفيق بين الإسلام وأيديولوجيات أو قِيَم مُخالِفة له، مثل العلمانية أو الليبرالية أو الديمقراطية، مما يؤدي إلى تشويه صورة الإسلام الحقيقية.

ومنه القول بأن الإسلام «يدعم الحرية المطلقة» دون قيود شرعية، أو الزعم بأن الشورى والديمقراطية وجهان لعُمْلة واحدة، أو التهوين من جَلْب نُظُم ودساتير وَضْعية بحُجّة أن الشريعة لم تُبيِّن طبيعة نظام الحكم ولا يوجد نظام سياسي في الإسلام.

5- الخوف من النقد أو العزلة

وبعضهم قد يُخفون أو يُخفّفون من بعض الحقوق التي جاءت بها الشريعة؛ خوفًا من النقد أو العزلة الاجتماعية أو السياسية، وهو ما يتناقض مع منهج الأنبياء والدعاة الذين كانوا يَصْدَعُون بالحق ولا يخشون لومة لائم.

الأسباب

ولو تأملنا في أسباب هذه المسالك سنجد الجهل بالعلم الشرعي هو السبب الأول؛ لأن مَن التمس العلم بمنهجيته الصحيحة ورسخت قدمه فيه لا تعتريه مثل هذه الشُّبَه.

ولكن كيف ذلك، وبعض مَن وقعوا في هذه المشكلة من المنتسبين للعلم؟

والجواب أن العبرة في العلم بتحقيق أصوله أولًا قبل حفظ مسائله الفرعية، ومن كان كذلك فإنه سينظر لنصوص الشريعة وقواعدها من خلال هذا المنظار:

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]؛ «أعدل وأعلى، من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن؛ كان أكمل الناس وأقومهم، وأهداهم في جميع أموره»[1].

﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 51]؛ «وهذا كلام مختصر جامع، فيه من الآيات البينات، والدلالات الباهرات، شيء كثير، ... فهل أحد يقدر على معارضته، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته؟ ثم إخباره عن قصص الأولين، وأنباء السابقين والغيوب المتقدّمة والمتأخرة، مع مطابقته للواقع.

ثم هيمنته على الكتب المتقدّمة، وتصحيحه للصحيح، ونَفْي ما أُدْخِل فيها من التحريف والتبديل، ثم هدايته لسواء السبيل، في أمره ونهيه، فما أمَر بشيء فقال العقل: «ليته لم يأمر به»، ولا نهى عن شيء فقال العقل: «ليته لم يَنْه عنه»؛ بل هو مطابق للعدل والميزان، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول.

ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان؛ بحيث لا تصلح الأمور إلا به؛ فجميع ذلك يكفي مَن أراد تصديق الحق، وعمل على طلب الحق، فلا كفى اللّه مَن لم يَكْفِه القرآن، ولا شفى اللّه مَن لم يَشْفه الفرقان، ومن اهتدى به واكتفى، فإنه خير له؛ فلذلك قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير، والخير الغزير، وتزكية القلوب والأرواح، وتطهير العقائد، وتكميل الأخلاق، والفتوحات الإلهية، والأسرار الربانية».

﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ [النمل: 79]؛ «اعتمِد على ربّك في جلب المصالح ودفع المضارّ، وفي تبليغ الرسالة وإقامة الدين وجهاد الأعداء؛ {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}؛ الواضح، والذي على الحق يدعو إليه، ويقوم بنُصْرته أحق من غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صِدْقه لا شك فيه ولا مرية. وأيضًا فهو حقّ في غاية البيان لا خفاء به ولا اشتباه، وإذا قمتَ بما حُمِّلَت، وتوكلت على الله في ذلك فلا يضرّك ضلال مَن ضل، وليس عليك هداهم»[2].

ومَن حقَّق هذه الأصول؛ فإنه لو عرضت له مسألة مشتبهة فسيحاكمها إلى محكمات الشريعة وأصولها، وإن لم يظهر له وجه الصواب فسيَتّهم نفسه بعدم الفهم، ويتوقف في المسألة بدلًا من أن يتجرَّأ على ردّ النصوص وتعطيل أحكام الشرع.

وهناك بُعْد آخر في هذه الظاهرة، وهو بُعْد نفسي -إن صح التعبير-؛ حيث يتجاذب الشخصَ جانبان؛ فهناك نظرة مُبالَغ فيها للآخر سواء من جهة البُعْد الحضاري للآخر -الغرب على وجه الخصوص-، في مقابل الشعور بالتأخر للمسلمين، أو من جهة الحرص على إقناع الناس في المجتمعات المسلمة بالمشروع الدعوي.

وفي الجانب الآخر تأتي نصوص أو قواعد شرعية يُنْظَر لها بهذا المنظار، فيُتَوَهّم أنها ستُسَبّب نفورًا من الإسلام، وتُصوِّره في صورة متخلفة أو همجية، ونحو ذلك، أو تُوهِم أن الإنسان المعاصر في المجتمع المسلم أو الغربي قد لا يتقبَّل هذه المفاهيم التي لا تتماشى مع روح هذا العصر.

وقد يستند بعضهم إلى حديث: «دَعْهُ؛ لا يَتَحَدَّثُ النّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصْحابَهُ»[3]، ولو نظرنا إلى السياق الصحيح للحديث لتبيَّن لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال ذلك عندما أراد بعض الصحابة قتل رجل منافق، والنبي صلى الله عليه وسلم  منَعهم؛ لأن القتل العلني لهذا الشخص دون بيّنة واضحة سيُشوِّه صورة الإسلام، ويُستخدَم ضد الدعوة.

وعليه، فالحديث يدلّ على الحكمة في الدعوة وعدم إعطاء الفرصة لأعداء الإسلام لتشويهه، ولكنه لا يعني التخلي عن الأحكام الشرعية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم  لم يقل: «دعوه يكفر»، بل منع القتل في هذه الحالة لحكمة وقتية ظاهرة.

نعم، من الحكمة أن لا تُثَار مسائل صعبة أو غير مشهورة عند عامة الناس؛ لئلا يكون في ذلك فتنة لهم، وهذا من الحكمة في الأسلوب، ولكنّه لا يُغيِّر أحكام الشرع ولا يُفرِّغه من مضمونه.

والتاريخ يُثبت أن الإسلام انتشر عندما كان واضحًا وصريحًا، لا عندما تم تعديله لإرضاء الآخرين، وهؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومن جاء بعدهم دخلوا الإسلام وهم يعلمون أنه يفرض الصلاة والزكاة والجهاد، ولم يدخلوا لأنه «سهل مُيسّر» بالمعنى المزيف.

وهذه الظاهرة قد وُجِدَتْ في عصور متقدمة، وبيَّن أهل العلم خطورتها وكشفوا الآثار السيئة التي نتجت عنها، ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن طوائف «ناظرتِ الفلاسفةَ الدهريةَ في خَلْقِ الرب وأفعالِه وأقوالِه وحدوثِ العالم مناظرةً فاسدةً، تنبني على مقدِّماتٍ مُخالفةٍ للشرع والعقل، وهم يَظُنّون أنهم يوافقون الشرعَ والعقلَ، فلا للإسلام نَصَرُوا ولا للأعداء كَسَرُوا، وصار ما ابتدعوه في أصول الدين سببًا لضلال طوائف ممّن وافقَهم وممّن خالفَهم؛ فإنّ المخالفَ لهم من الفلاسفةِ استطال بما ابتدعوه عليهم وعلى المسلمين، وظَنَّ أنّ ما قالوه هو الذي يقوله المسلمون، وصارت الكتبُ المصنَّفةُ في الكلام إنما يُذكَر فيها قولُهم وقول الفلاسفة، ويُجعَل قولُهم هو قول المسلمين، ولم يأتِ فيه كتاب ولا سُنّة، ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين»[4].

كيف نُواجِه هذه الظاهرة؟

التمسُّك بالتأصيل الشرعي: العودة إلى الكتاب والسُّنة بفهم السلف الصالح، وأن تكون النصوص الشرعية وقواعد وأصول الشريعة المعتبرة هي الحاكمة على غيرها.

العودة إلى أهل العلم المعتبرين: فإن العلماء قديمًا وحديثًا قاموا بكشف زَيْف المعارضات بأنواعها للنصوص الشرعية، وأجابوا عن كل ما استشكله الناس لقصور فهمهم لبعض النصوص، وهم بذلك ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

بيان خطورة التنازل؛ لأنه يفتح باب التغيير: فإذا تنازلنا عن حُكم شرعي اليوم، فسيأتي مَن يتنازل عن حكم آخر غدًا، حتى لا يبقى من الإسلام إلا الاسم، وبذلك تكون هذه الدعاوى ذريعة إلى الضلال المبين.

النقد البنّاء: لا بد من التعامل مع مَن صدرت عنه هذه المخالفات بعِلْم وعدل وإنصاف؛ وذلك بتبيان الأخطاء بالحكمة والموعظة الحسنة، والتفريق بين مَن يريد نصرة الشريعة ولو أخطأ وبين من يريد إضلال الناس والطعن في الشريعة.

التعليم والتربية: تعليم الناس الثوابت الشرعية، وترسيخها في نفوسهم؛ حتى لا ينخدعوا بالخطاب المُميَّع أو المُزيَّف.

ونختم بكلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فليس لأحد أن يتكلم بلا عِلْم، بل يُحذّر ممّن يتكلم في الشرعيات بلا عِلْم، وفي العقليات بلا عِلْم؛ فإن قومًا أرادوا بزعمهم نَصْر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة؛ فكان ما فعلوه مما جرَّأ الملحدين أعداء الدين عليه، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا»[5].


 


[1] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن، عبد الرحمن السعدي، ص454.

[2] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن، عبد الرحمن السعدي، ص٦٠٩.

[3]  أخرجه البخاري (٤٩٠٧)، ومسلم (٢٥٨٤).

[4] جامع المسائل لابن تيمية، ط عالم الفوائد - المجموعة الثانية - المجلد 1 - الصفحة 279.

[5] الرد على المنطقيين، ص٢٧٣.

أعلى