• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الضعف والتراجع...  وراء تشكيل «حميدتي» لحكومته

المقال يوضح أن إعلان «حميدتي» حكومة موازية جاء نتيجة تراجع ميليشياته عسكريًا، كمحاولة سياسية لتعويض خسائره، لكن الخطوة وُوجهت برفض داخلي ودولي واسع، بينما يواصل الجيش السوداني التقدم نحو حسم المعارك واستعادة السيطرة الكاملة على البلاد.


هل تُفلح التحركات السياسية في تعديل موازين القوى العسكرية التي تميل لصالح الطرف الآخر على الأرض؟ وهل من جدوى لتحرُّك قام على استبعاد بعض القوى التي كانت إلى جوار الدعم السريع من قبل؟ وكيف يتصوَّر «حميدتي» أن تحالُفه مع عبد العزيز الحلو طوق نجاة، فيما قوات مجموعات الحلو تتراجع في مناطق انتشارها وسيطرتها التي كانت منحتها مقعدًا في مفاوضات التسوية التي كانت مقررة قبل انقلاب الدعم السريع؟

ومن قبل ومن بعد، جرت تساؤلات عن علاقة هذه الخطوة بما يجري في الميدان حول دارفور وكردفان، وبسبب تحوُّل ميليشيا «حميدتي» إلى أعمال قصف تخريبية للبنى المدنية وأعمال قتل وترويع للمدنيين على أوسع نطاق، فيما هي تطلب الحكم؟

كل تلك الأسئلة كانت تتردد بعد إعلان «حميدتي» نيّته تشكيل ما وُصِفَ بالحكومة الموازية، وزاد تواترها بعد أن نصَّب نفسه رئيسًا لهذا التشكيل الذي جرى الإعلان عنه في نيروبي بكينيا.

وقد اختار «حميدتي» بُعْدًا ميدانيًّا عسكريًّا في التحالف الذي شكَّله لإعلان تلك الحكومة، فجاء رئيس ميليشيا الحركة الشعبية -فرع الشمال- نائبًا له، ولم يَحْظَ المُكوِّن السياسي في الخرطوم -ويمكن وصفه بالمُكوِّن السياسي ذي الطبيعة الوطنية العامة-، إلا بمقعدين؛ مقعد الناطق الرسمي، ومقعد المُقرِّر لتحالف «التأسيس» الذي شكَّله «حميدتي»!

وقد كان لافتًا أن استبق «حميدتي» خطوة تأسيس هذا الهيكل التنظيمي -على أُسس ميليشياوية-، بالإعلان مع بعض المجموعات المرتبطة بحركته عن إقرار دستور جديد للسودان، تمحور حول العلمانية والحكم اللامركزي! وهو ما دفَع المتابعين للتشديد مجددًا على أن «حميدتي» ما يزال كما هو -قَبَليًّا وجهويًّا-، يبحث عن الوصول للسلطة فقط لا غير. يطرح العلمانية إرضاءً لرُعَاته الدوليين، فيما يُشكِّل تحالفًا ميليشياويًّا وقَبَليًّا على أرض الواقع!

وفور أن أعلن «حميدتي» دستوره، ثم هيكله الرئاسي، تتابعت المواقف الكاشفة والرافضة لما قام به. وهو ما جعل تحرُّكه مجرد قفزة في الهواء من جهة، وخطوة استفاد منها الحكم الوطني القائم الآن؛ إذ استثمر تلك الخطوة للتأكيد والتشديد أمام العالم على ميليشياوية «حميدتي»، وأن موقف الحكم الرافض للتفاوض معه كان وما يزال موقفًا صحيحًا.

وقد ندَّد المتحدّث الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية نبيل عبدالله، بإعلان تشكيل مجلس رئاسي لحكومة انتقالية برئاسة «حميدتي»، فيما وصفت الخارجية السودانية الخطوة بأنها «تَعَدّ على حكومة السودان وسيادتها على كافة أراضيها». كما أدانت الجامعة العربية ما وصفتها بـ«محاولة فرض حكومة غير شرعية في السودان»، ودعت لاحترام وحدة وسيادة البلاد.

وكان مجلس السلم والأمن، التابع للاتحاد الإفريقي، قد أعلن فور ظهور نوايا «حميدتي»، رَفْضه تشكيل حكومة موازية في السودان، مُوجِّهًا دعوة لدول القارة بعدم التعامل معها ومقاطعتها. ورفض مجلس الأمن الدولي إعلان إنشاء «سلطة حاكمة موازية» في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، مُحذِّرًا من أن هذه الإجراءات تُمثِّل تهديدًا مباشرًا لوحدة السودان، وتُنذر بتفاقم الصراع وتفتيت البلاد.

وأصدر المجلس بيانًا أكَّد فيه على التزام راسخ بدعم سيادة السودان واستقلاله ووحدته وسلامة أراضيه، وشدَّد على أن أيّ خطوات أُحادية تُقوِّض هذه المبادئ «لا تُهدِّد مستقبل السودان فحسب، بل تُهدِّد السلام والاستقرار في المنطقة ككل». ولذا، طرح التساؤل حول ما الذي دفَع «حميدتي» لاتخاذ هذه الخطوة وفي هذا التوقيت تحديدًا؟ وهو الذي لم يتخذ تلك الخطوة سابقًا حين كانت قواته مسيطرة على معظم أنحاء عاصمة السودان والولايات المحيطة بها؟

لماذا تحرَّك «حميدتي» الآن؟

لم يتحرَّك «حميدتي» من موقع قوة؛ إذ المعتاد أن يجري الإعلان عن مثل تلك التشكيلات الحكومية بهدف تطوير العمل الميداني، وخدمة السكان في المناطق التي تتحقق السيطرة العسكرية عليها. بل جاء التحرُّك كمحاولة لتعويض حالة التراجع التي أصابت ميليشياته؛ فهو بعدما فشل وتراجَع عسكريًّا، يحاول تعويم نفسه سياسيًّا وإعلاميًّا عبر تلك الخطوة، التي لا تعني شيئًا على صعيد الممارسة الفعلية للسلطة على الأرض.

لقد صار حُلم السيطرة وإعلان قيام الحكومة من الخرطوم بعيد المنال؛ إذ تثبت وجود الحكم والدولة بسيطرة الجيش السوداني عليها. كانت المعركة في العاصمة شديدة القسوة، وجرت وقائعها، فيما كان وضع الجيش السوداني ضعيفًا؛ بسبب محاصرة قوات الدعم السريع للمقار السيادية ولقواعد وثكنات الجيش. وكان الأشد فظاعةً هو ما تعرَّض له سكان الخرطوم من أعمال سَطْو ونَهْب واغتصاب. لكنّ الأمر انتهى إلى نصر الجيش وتثبيت أجهزة الدولة وعودة الحكومة إلى الخرطوم.

وما جعل الخسارة إستراتيجية؛ أن الجيش حرَّر وسيطر على كل المحاور الإستراتيجية التي يمكن لقوات الدعم استخدامها لمعاودة الهجوم على العاصمة. وكانت الهزيمة التي مُنِيَت بها ميليشيات الدعم شديدة؛ إذ فقدت الميليشيا أعدادًا كبيرة من قواتها. كما كان للأمر تأثير كبير على صعيد الروح المعنوية لأفراد الميليشيا، وهو ما تفاقم إلى حد حدوث انشقاقات مؤثرة في صفوف قيادات وازنة وإعلان الانضمام للجيش الوطني، كما هو حال القائد أبو عاقلة كيكل وقواته.

وكان، أن واصلت قوات الجيش السوداني تطوير هجومها، ليس فقط في الولايات المؤدية والمحيطة بالعاصمة، بل أيضًا في المعاقل الإستراتيجية للميليشيات، خاصةً في كردفان بولاياتها المتعددة. وهناك باتت قوات الجيش تتقدم بخطوات إستراتيجية لإنهاء معالم أهم قوة عسكرية متحالفة مع «حميدتي»، وهي ميليشيات الحركة الشعبية لتحرير السودان فرع الشمال، بقيادة عبد العزيز الحلو.

وجاء تحرك «حميدتي» ردًّا على تشكيل حكومة ميثاقية في الخرطوم، وكمحاولة يائسة لإضعاف الزخم العربي والدولي الذي تحقَّق للحكم الوطني في السودان بعد الانتصارات العسكرية. وقد وصف الكثير من الكُتّاب والمُحلّلين خطوة «حميدتي» بأنها مسرحية فاشلة، وقفزة في الهواء، ومحاولة متأخرة. لكنّ أغلب التعليقات باتت مُنصبَّة على أن «حميدتي» بعد تبخُّر حُلمه في حكم السودان اختار الذهاب نحو تقسيم السودان. وأن السيناريو الليبي بات الأقرب للتحقق في السودان. فهل هذا التصوُّر صحيح؟ وهل هو قابل للتطبيق؟

لماذا يُستبعَد السيناريو الليبي؟

منذ بداية المظاهرات والاضطرابات، وبشكل خاص فور الإطاحة بنظام حكم البشير، طرحت فكرة تقسيم البلاد وأصبحت محلًّا للنقاش العلني. طرحت الفكرة مِن قِبَل مجموعات ترى في الانفصال وسيلة لتحقيق مصالح سياسية لا يمكن تحقيقها عبر بقاء السودان مُوحَّدًا. وكان هناك مَن يدفع الأحداث إلى التفاقم ويعوق الوصول إلى حلول سياسية، بما يوصل مختلف الأطراف -من أراد ومن يرفض- إلى تلك النتيجة. وكان المثال الذي يجري الترويج إليه لحل أزمات السودان هو مثال جنوب السودان.

وكان للمبعوثين الخارجيين الدور الأبرز في طرح الفكرة، وفي منع الأطراف المختلفة من الوصول إلى توافقات وحلول. وعقب محاولة انقلاب ميليشيات الدعم السريع بقيادة «حميدتي»؛ بات الحديث يجري تحديدًا عن تكرار السيناريو الليبي في السودان. وقد أصبح الحديث عن اعتماد هذا السيناريو حديثًا جديًّا، عقب تحرير العاصمة واستمرار سيطرة الميليشيات على دارفور ومناطق في كردفان.

غير أن السودان بعيد عن هذا السيناريو على نحو كبير. لقد طرحت فكرة السيناريو الليبي نتيجة لقراءة تتعلق بتشدُّد أطراف الصراع في علاقاتها مع بعضها البعض، وبحكم سيطرة الحكم على الخرطوم وسيطرة الميليشيات على كل ولايات دارفور ما عدا الفاشر. ويأتي الحديث عن السيناريو الليبي عند البعض من خلال قراءة سلوك مَن يقف خلف صناعة أحداث تفجير الدول، والتي ظهر مؤكدًا سَعْيها لإنفاذ مشروعات التقسيم والتفتيت.

وهناك مَن يحاول صياغة معادلة متكررة من أحداث انفصال جنوب السودان، بحكم التحليل السطحي. وربما يطرح هذا السيناريو مِن قِبَل أطراف تسعى لإعداد الرأي العام السوداني للقبول بالتقسيم.

لكن، الحالة السودانية مختلفة كليًّا عن الحالة الليبية، ويُستبعَد أن يصل السودان إلى السيناريو الليبي للعديد من الأسباب:

أولها: إن الجيش السوداني لم يتبخَّر مثل الجيش الليبي. لقد كان العامل الأهم في حدوث التفكك في ليبيا أن الجيش الليبي قد تفكَّك كليًّا، ولم يعد له وجود ودور، وهو لم يكن جيشًا نظاميًّا بالمعنى المتعارَف عليه. لكنّ الذي حدث في السودان كان العكس؛ إذ ظل الجيش السوداني صامدًا طوال الفترة الماضية، بل ظل وفيًّا للدستور ومتمسكًا بملامح الفكر الوطني السوداني، ولم يشهد لا انفراط عقده ولا حتى انقسامات في داخله؛ رغم قسوة الوضع العسكري الذي كان فيه فور انقلاب موقف الدعم السريع.

والجيش السوداني بطبيعة تكوينه مختلف عن الجيش الليبي خلال حكم القذافي. فهو بطبيعة الحال أقدم وأشد مؤسسية، والأهم أنه لعب دورًا قويًّا وحاسمًا في إدارة الدولة السودانية، وخرج من بين صفوفه من حكموا السودان؛ مثل: الفريق إبراهيم عبود، والفريق جعفر النميري، والفريق عمر البشير، والآن يحكم الفريق البرهان استنادًا إلى الجيش. ولقد كان الجيش السوداني دومًا صاحب دور كبير في منع تأثير الخلافات والصراعات بين السياسيين على وحدة البلاد.

لقد جرى كل ما جرى دون أن تتأثر وحدة أو قوة وتماسك الجيش السوداني. وربما كان القرار الأهم للجيش خلال حكم البشير هو عدم دمج قوات الدعم السريع في داخل مؤسساته، واستمرار وضعها القانوني عند حدود القوة المساندة لقوة الجيش. كانت هناك مراهنة على إضعاف الجيش السوداني، وعلى أن استمرار الحرب سيُحوِّل السودان إلى دولة فاشلة، تتعدَّد فيها مراكز القوى بظهور كيانات قَبَلية أو جهوية تتحكم في أجزاء متفرقة من البلاد، وتتعامل مع دول الجوار بشكل منفرد، بوصفها أقاليم منفصلة.

وكان التركيز على اختراق الدعم السريع وإعادة توجيهه ووضعه في مواجهة الجيش، هو أحد الأساليب التي تحوَّل إليها مَن أرادوا تفكيك السودان ووجدوا الجيش هو ما يمنع تنفيذ خططهم. لم يتحقَّق الشرط الأساس، وهو ضعف الجيش وتفككه.

وثانيها: إن السودان عاش في ظل حياة سياسية حزبية. وبغضّ النظر عن تشكيل تلك الأحزاب وصراعاتها، إلا أن الأحزاب مثَّلت أداة ضبط للتوجهات، وكان لوجودها في حدّ ذاته دور في إضعاف احتمالات وقوع فوضى شاملة في البلاد على غرار ما حدث في ليبيا التي لم يكن فيها أيّ أحزاب، بما جعل العقد ينفرط من أول ضربة.

وثالثها: إن السودان شهد بناء مؤسسات دولة. وعلى الرغم من محدودية قدرات تلك المؤسسات أو محدودية تأثيرها على صعيد الإنجازات الخدمية، إلا أنها مؤسسات كانت فاعلة، إذا قارنّاها بما كان الحال عليه في ليبيا، التي لم تشهد بناء أيّ مؤسسات لا في الإدارات ولا الوزارات. والأهم أنه كان قد تشكَّل في السودان نمط من أنماط الدولة العميقة، فيما لم تشهد ليبيا أيّ نمط من أنماط مثل تلك الدولة.

ورابعها: إن محاولة تدمير بنية المجتمع السوداني لم تنجح إلى الدرجة التي نجحت في ليبيا، وإن دارفور تاريخيًّا هي محور بناء السودان وليس الخرطوم فقط.

وعلى صعيد الإيضاح -لا التبرير-، فإذا كانت ليبيا مقسمة من قبل الاستقلال إلى تكوينات منفصلة (برقة وطرابلس وفزان)؛ فالأمر لم يكن كذلك في السودان؛ إذ حتى جنوب السودان لم يُشكِّل إقليمًا منفصلًا عن جسد السودان ولم يتشكل في داخله مكوّن مجتمعي متجانس ومستقل، ولذا شاهدنا كل هذا الانقسام والعنف الجاري بعد انفصال الجنوب.

تطوُّر المعارك والخطوة القادمة

يبقى الأهم الآن أن الجيش السوداني قد وصل في زحفه إلى المرحلة الأخيرة من إستراتيجية فرض سيطرته على مختلف جغرافيا الأرض والمجتمع السوداني، وتلك المرحلة تتلخص تحديدًا في إنهاء سيطرة ميليشيات الدعم السريع والحركة الشعبية في كردفان وولايات في دارفور.

بعبارة أخرى، فقد سيطر الجيش على الخرطوم وعلى معظم المدن الواقعة في خط الحركة العسكرية الإستراتيجية، وبات يقاتل لتحرير كامل كردفان، والتوجُّه لتحرير ولايات دارفور الأربع، وفك حصار الولاية الخامسة.

وإذ احتاج أمر السيطرة على مناطق كردفان بعضًا من الوقت -وما يزال-؛ فالمتابع لحركة القوات السودانية يجدها باتت تقاتل بريًّا في مناطق كردفان، وتقاتل في ولايات دارفور -عبر القصف الجوي-، لمنع استقرار سيطرة الميليشيات. وهو ما قرأه رعاة ميليشيا «حميدتي»، فدفعوا به لهذا التحرك؛ لتعويض ما خسره على الأرض عبر إثبات الحضور سياسيًّا.

كما أن المتابع للنشاط العسكري لميليشيا «حميدتي»، يجد أن طرح الحكومة الموازية جاء متزامنًا مع القيام بأعمال تخريبية باتجاه المنشآت المدنية عبر الطيران المُسيَّر، بعد أن انحسر وجودها وسيطرتها على الأرض. وهو ما يُذكِّر السودانيين بأنماط أخرى من الجرائم والفظائع التي ارتكبتها تلك الميليشيات خلال سيطرتها على الخرطوم ومدني، وغيرها.

وفي ذلك يمكن القول: بأن تحوُّلًا جرى في السودان، وما يزال؛ إذ انتقل مشروع التفكيك من تحقيق انقسام داخل الجيش إلى محاولة هزيمة خطة الجيش الساعية للسيطرة على كامل جغرافيا السودان. وهو ما لن يتحقق مع مرور الوقت -كما خطَّط الساعون للتقسيم-؛ بناءً على ما أظهره الجيش السوداني من قدرة على الإدارة الإستراتيجية للحرب، وبحكم عشرات عوامل الضعف التي تعاني منها الميليشيات، وبسبب تصاعد الرفض الدولي والإقليمي لدور الميليشيات في تفكيك السودان، باعتباره خطرًا يُهدِّد العديد من دول الجوار.

 

 

أعلى