• - الموافق2025/03/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
طَائر أَخْضَر

15


فَرَكَ عَيْنَيْنِ بِكَفِّهِ الَّتي أَخْرَجَها مِنْ وَسْطِ رُكامٍ تَهاوى كُلُّهُ، إلا زاوِيَة كانَ يَقْبَعُ فيها لَحْظَةَ تَفَجُّرِ الْمَكانِ نَجَتْ مِنَ الْقَصْفِ، نَظَرَ حَوْلَهُ فَلَمْ يَرَ غَيْرَ الْإِسْمَنْتِ وَقِطَعِ الْحَديدِ، جُدْرَانٌ سَقَطَتْ عَنْ آخِرِها، بَقايا نَوافِذ، أَشْياءُ مِمّا كانَ يَصْلحُ لِأَثاثِ الدُّورِ، شَيْءٌ مِنْ هذا وذاكَ، نَظَرَ بِعَيْنَيْنِ فاتِرَتَيْنِ إلى جَسَدِهِ النَّاجِي، تَحَسَّسَ أَطْرافَهُ، إِنَّها لا تَزالُ سَليمَةً، بِضْعَة خُدُوش صَغيرَة مُتَفَرِّقَة لَيْسَتْ شَيْئًا أَمامَ هذا الهَوْلِ الْعَظيمِ، أَدْرَكَ أنَّ الْمَوْتَ بَسَطَ سُلْطانَهُ في الْمَكانِ، جَثَمَ عَلى رُكْبَتَيْهِ، وَأَخَذَ يَنْظُرُ إلَى أَبْعَدِ نُقْطَةٍ مُرْهِفًا سمْعَهُ؛ عَلَّهُ يَلتَقِطُ إِشارَةً منْ أحَدِ النّاجينَ أَوْ يَسْمَعَ أَزيزَ دَبّابَةٍ أَوْ ناقِلَةِ جُنْدِ الْعَدُوِّ تَقْتَرِبُ مِنَ الْمَكانِ لِتَقْتُلَ أَيَّ واحِدٍ لا يزال صَدْرُهُ يَعْلُو وَيَهْبِطُ.

الْمَكانُ خالٍ مِنَ الْبَشَرِ، لا بُدَّ أنَّ رائِحَةَ الْمَوْتِ سَتَكُونُ مُنْتَشِرَةً في الْأَرْجاءِ، سارَ على مَهَلٍ يَرْقُبُ خُطُواتِهِ فوْقَ الرُّكامِ، يَبْحَثُ عَنْ أَثَرٍ لِحَياةٍ، عَنْ مَعْلَمٍ كانَ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ، عن الطّريقِ التي كانَ يسْلُكُها نحْو المَدْرَسَة، إِلى السُّوق؛ حَيْثُ كانَ يَشْتَغِلُ في أَوْقاتِ فَراغِهِ مُساعِدًا لِأَحَدِ الْباعَةِ؛ كَي يُنْفِقَ عَلى أُمِّهِ وأَخيه الصَّغيرِ.

لا شيء ثَمَّةَ في المَكان، فقَدْ ضاعَتْ كُلُّ الْخَرائِطِ، بَحَثَ في الْأرْجاءِ عَلَّهُ يَجِدُ أَثَرًا لِأُمِّهِ أوْ أَخيهِ، كُلّما سارَ بِضْعَ خُطواتٍ أَرْهَفَ السَّمْعَ أكْثَرَ فَأَكْثَرَ؛ عَلَّهُ يَسْمَعُ نَبْضَةَ حَياةٍ، أو عَلَّهُ يَشْتَمُّ عَبَقَ أُمِّهِ مُخْتَلِطًا بِعَبَقِ الْقُرُنْفُلِ والْوَرْدِ، أوْ يَجِدُ قِطَعَ الْحَلْوى الَّتي خَبَّأَها لِأَخيهِ الصَّغيرِ بَعْدَ عَوْدتِهِ مِنَ السُّوق، لا ألْوانَ في المَكانِ غَيْر الرَّمادِ، فَقَدْ ضاعَتِ الحَبّاتُ وَاحْتَرَقَتْ وَسْطَ الرُّكام، كَما احْتَرَقَ أخُوهُ، واحْتَرَقَ الْقُرُنْفُلُ والوَرْدُ في الْجَسَدِ الْمُتَيَبِّسِ الْهَزيلِ.

يَسيرُ والدَّمْعُ يَشُقُّ وَجْهًا رَسَمَ عَلَيْهِ الدَّهْرُ أَماراتِ الصَّرامَةِ والْحَزْمِ، اتَّخَذَ لَهُ مَوْضِعًا على مَقْرُبَةٍ منْ نِصْفِ جِدارٍ أَسْنَدَ إلَيْهِ ظهْرَهُ، رَفَعَ بصَرَه نحْو سماءٍ زَرْقاءَ، بضْعَة طُيُور تَسْبَحُ في زُرْقَتِها، اسْتَشْعَرَتِ الأَمْنَ لِلَحَظاتٍ، أَطْلَقَ العنانَ لخَيالِهِ بَعيدًا مُغْمِضًا عَيْنَيْهِ؛ مَدينَةٌ عامِرَةٌ زاهِرَةٌ، يَسيرُ الناسُ فيها بِسَلامٍ، يُحَيِّي بعْضُهُمْ بعْضًا، مِنْهُمْ أُناسٌ ينامونَ في حَديقَةٍ، يَتْرُكونَ حَقائِبَهُمْ إلَى جِوارِهِمْ، طُيُورٌ خَضْراءُ تَحُطُّ فَوْقَ الأَكْتافِ، تُغَنِّي ثمَّ تَطيرُ بَعيدًا وَراءَ السَّحابِ،... يَدٌ تُرَبِّتُ على كَتِفِهِ، يفْتَحُ عَيْنَيْهِ مَذْعُورًا، شابٌّ قَوِيٌّ يَحْمِلُ سِلاحًا يُهَدِّئُ رَوْعَهُ بعْدَ أنْ رَآهُ يَتَكَوَّمُ على نفْسه؛ فقال: لا تَخَفْ يا أخِي، أنْتَ بِأَمانٍ، أنا فَرْدٌ مِنْ أَفْرادِ الِمُقاوَمَةِ، هَلْ أَنْتَ بِخَيْرٍ؟

رَدَّ «باسِلٌ» وهُوَ لا يُصَدِّقُ أنَّهُ يُشاهِدُ مُقاوِمًا شُجاعًا أمامَ عيْنَيْهِ، فَطِنَ الشَّابُّ إلى دَهْشَةِ باسِل فَمَدَّ يَدَهُ مُلْتَمِسًا مِنْهُ مُغادَرَةَ المَكانِ إلى حَيْثُ شَيْءٌ منَ الأمانِ يَلُوحُ؛ فَقالَ: ما اسْمُكَ يا فَتى؟ فردَّ بِاطْمِئْنانٍ: باسِل.

قال المُقاوِمُ: أنا عبْدُ الله، فَرْدٌ مِنْ أفْرادِ المُقاوَمَةِ، تَعالَ مَعِي، وسَتَكُونُ بِأمانٍ مَعَنا، فالمكانُ هُنا خَطِرٌ، وسيَعودُ العَدُوُّ للْقِيَامِ بعَمَلِيَّاتِ التَّمْشيطِ، لقَدْ وَضَعْنا لهُ كَمينًا عَلى مَقْرُبَةٍ من ذلك الْبِناءِ المُتَهاوي.

وأَشارَ بِسَبَّابَتِهِ إلى بِناءٍ في الرُّكْنِ الْأَيْسَر من المكانِ، وقال: نُريدُه مَعْبَرًا لآلِياتِ الْعَدُوِّ...

وَصَلَ عبْدُ الله وباسِلٌ إلى مقَرٍّ يجتَمِعُ فيه أفرادٌ آخرونَ كانوا سِتّةً يُهَيِّئُونَ لِكَمينهم، وقَدَّمَ لَهُمْ صديقًا جديدًا أَخْبَرَهُمْ بنَجاتِهِ مِنْ عَمَلِيَّةِ القَصْفِ بالْأَمْسِ، لكنَّه فقَدَ أُمَّه وأخاهُ، تعالَتْ دَعَوات المُقاومينَ بالتَّرَحُّمِ على الأُمِّ والْأَخِ وبَقِيَّة الشُّهَداء في جَوٍّ مَلائِكِيٍّ تَغْشاهُ الرَّحَماتُ.

قَدَّم له أحَدُ الأَفْراد طعامًا وماءً، أكلَ وشَرِبَ، وأثْنَى على الله تعالى.

تأمَّل باسل المَكانَ... قَذائِف وعُبْوات ناسِفَة وأحْزِمَة رصاصٍ، مَصاحِف، سَجّادات، إِنَّهُ مَكانٌ يَفُوحُ بِمِسْكِ الإيمانِ رغْمَ أنَّه وَسْطَ الدَّمار، إلا أَنَّ المَكانَ لمْ يَكُنْ يُوحي بِدَمارٍ غَيْر الّذي يُرَى لِلْعَيْنِ؛ لأنَّ القُلوبَ مُمْتَلِئَةٌ إيمانًا وعَزيمةً وحَزْمًا.

الْتَمَسَ باسلٌ مِنَ الْأَفْرادِ مكانًا يُصَلّي فيهِ رَكَعَاٍت لِلَّه، فَتَناهَى إلى سَمْعِهِ وَهُوَ يُسَلِّمُ قَوْلَ أحد المُقاومين -أَدْرَكَ منْ نَبْرَتهِ أنّه الزّعيمُ-: نَحْتاج لاكْتِمالِ الخُطّة فَرْدًا يَتَوَلَّى عَمَلِيَّةَ جَذْبِ الْعَدُوِّ إلى نُقْطَة الْهَدَف، لِنَتَمَكَّنَ منْ إصابَة كُلّ الآلياتِ التي ستَقْتَحِمُ المكانَ، وأرْدَفَ قائلاً: سِتَّةُ أَفْرادٍ يكفون للعملية غير أننا لن نتمكَّنَ منْ تدْميرِ كلِّ آلِيات العَدُوِّ وفْقَ الخُطَّةِ المُسْبَقَة، قَفَزَ باسِلٌ منْ مَكانه، وقال للقائد: دَعْ لي هَذهِ المَهَمَّة أيها القائد!

نظَر الأفرادُ بذهولٍ إلى وجْهِ شابٍّ حازِمٍ ينْطِقُ بالْإِصْرارِ، يَلُوحُ منْ عَيْنَيْه وميضٌ غريبٌ كذاكَ الَّذي يَسْنُو به وَمِيضُ لَيْثٍ جَريحٍ، فَرَدَّ القائِدُ: هِيَ لكَ يا باسِلُ، أنتَ لِهَذِه المَهَمَّة.

حاولَ أحدُ الأفرادِ أنْ يُثْنِي القائدَ عن تكْليف شابٍّ صغيرٍ بِمَهَمَّةٍ كَبيرة فيها خَطَرٌ على حياتِهِ، لكنَّ القائدَ أمَرَهُ بِالْتِزامِ الصَّمْت قائلاً: إنَّ مُقاوَمة العَدُوّ شَرَف، باسِلٌ سَيَكون واحدًا من الذينَ سيَمْحُون العارَ عن وجْه العُروبة المُتَخاذلَة، هذا الْفتى سيكُونُ واحدًا من أفْراد المُقاوَمَة.

فرِح باسل، وأشْرَقَ وجْهُه إشْراقَةَ الشّمس، وأخذَ يسْتَمِعُ إلى خُطَّةِ القائدِ، وَضَعَ كفَّه على كَتفِهِ، وقالَ: اسْمَعْ يا باسِل، أَعْرِفُ أنّك ستَنْجَحُ بإذن اللّه، على خُطُواتِكَ أنْ تَكون محْسوبَةً وغايةً في الدّقة، فأمَرهُ بمُرافَقَتِهِ إلى الخارجِ، وأخَذَ يَرْسُمُ له الطَّريقَ الَّتي يَنْبَغي أنْ يَعْبُرَها فَوْرَ تَلَقّيه الإشارَةَ، ثم أمَرهُ بالتَّنْفيذ الفَوْرِيِّ على سَبيل التَّجريب، فلا مجال للخَطَأ، انْتَعَل باسل حذاءً عَسْكَرِيًّا، وانطلق نحو الهدف بدِقَّةٍ عاليةٍ، كانتْ مَهَمَّتُهُ تقتضي توجيهَ أنْظارِ الجُنود «الإسْرائِيلِيِّين» إلى الْمَبْنى؛ لِيَتَوَهَّموا أنّ به أفرادًا منَ المقاومة، فتَتِمَّ مُباغَتَتُهُمْ بالقذائِفِ التي ستُصيب رمْيًا من الله دَبَّاباتِهِمْ وناقِلاتِهِمْ المارَّة عبْرَ طريقٍ مَكْشُوفٍ يُسَهِّلُ الرَّمْيَ وَقَتْلَ الْعَدَدِ الْأَكْبَرِ منْ جُنود العَدُوِّ.

اندهشَ القائدُ من براعة الشاب وإتقانه المَهَمّة منَ الوَهْلة الأولى، فباسل شابٌّ عَلّمه السوقُ والعملُ إلى جانب الدراسة تَحَمُّلَ المسؤوليّة وأداء المَهَمَّات التي تحتاج إلى تركيزٍ وتَعَقُّلٍ بإتقانٍ.

الوقتُ ظهيرةٌ، والشمسُ في كَبِد السّماء، أَزيزُ مُحَرِّكاتٍ يتناهى منْ بعيد، اتَّخَذَ أفْراد المُقاومة مَواقعَهُم المعْلُومَة وهَيَّأُوا أَسْلِحَتَهُمْ، باسلٌ يَتَلَقّى إشارةَ البدْء، يتوجَّهُ نحو الهدفِ، دبّابةٌ تلمَحُهُ، تُغَيِّرُ اتجاهَها نحو الهدف المرْسوم، إنّ الخُطّة تَنْجَح، الْقائدُ يُبَسْمِلُ والأفراد يُكَبِّرون، باسلٌ برشاقةِ شابٍّ يافعٍ يركُضُ مُسْرعًا إلى المكان الذي أعلمه القائد، يتخفَّى عنْ أنْظار الدبابة، القذائفُ تتوالى، تُفجِّرُ دبابة، ثلاثَ ناقلاتِ جنْدٍ، جرّافةٌ تشتَعِلُ بعْدما وضَعَ أحدُ الأفراد عُبوةً ناسفَةً فتَفَجَّرَتْ بعْدَ لحظات.

باسل يَتَعَثَّرُ فوق الركام، يراهُ أحد الجُنود، يَرْشُقُه رصاصًا، فَيَغْرَقُ داخلَ الرُّكام إلا سَبّابَة تُعْلِنُ الشهادةَ، وفم يبْتَسِم للْملائكة، وريح قُرُنْفُلٍ ووَرْدٍ يعْبَقُ في المكان، وحَبَّات حلْوى مُلَوَّنَة.

طائِرٌ أخضَرُ يقْتَرِبُ، ثُمَّ يَهْمَدُ الجَسَدُ الْغَضُّ، يسقُطُ الجُنْدِيُّ برصاصةِ أحد المقاومين.

يُحْمَل «باسل» على الْأكْتافِ، يُوارى جُثْمانُه في المَكان وسْط دهْشَة الأفراد الذين غبطوا باسل على الشهادة ورائِحَةُ القُرُنْفُلِ والورْد تَعْبَقُ في الجَسَدِ الْمُسَجَّى.

 

أعلى