إذا عرف المسلم الأجر سهل عليه العمل، وهان عليه ما يبذله في سبيل ذلك من وقت وجهد ومال.
ولصلة الرحم فضائل عظيمة، ومن ذلك: أن المسلم يتقرّب بها لربه، ويؤدي فرض ربه؛ فهي من الفرائض التي افترضها على عباده
صلة الرحم من أجلّ الطاعات، ومن أعظم القُربات، أثنى الله على أهلها في كتابه، وحثّ
عليها النبي صلى الله عليه وسلم في سُنّته، وأمر بها، وحذَّر مِن قَطْعها، وحظيت
بفضائل عديدة، وإذا كانت الصلة طاعة بهذه المكانة فلن تكون سهلة على النفس، فستحتاج
لمجاهدة للنفس وصبر على الأذى من أجل تحقيقها.
وصلة الرحم: هي الإحسان لذوي القربى بالمال والقول والفعل، ونحو ذلك من أنواع
الإحسان، فصلة الرحم ليس لها حدّ معين حدَّده الشرع الحكيم، فهي من الأمور التي
يُرجَع فيها للعُرْف الصحيح، فكل ما عدَّه العرف صلةً؛ فهو صلة، حتى ولو كان مكالمة
هاتفية؛ لأن كل ما لم يَرِد تحديده في الشرع يُرجَع في تحديده للعُرْف الصحيح الذي
لا يخالف الشرع، ولذا من القواعد المقرَّرة لدى الأصوليين والفقهاء أن
«العادة
محكمة»،
ويقولون أيضًا:
«المعروف
عرفًا كالمشروط شرطًا».
فيبدأ المسلم بصلة أقاربه الأقرب فالأقرب، فيقدم صلة الوالدين على سائر الأصول،
ويقدم بقية الأصول على سائر الفروع، وهكذا يُقدّم الأقرب فالأقرب، فيراعي الأولويات
في صلته.
ومن هدي الإسلام: الأخذ بالأسباب المعينة على الطاعات وسائر وجوه البر والقربات،
فقد قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبِرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: ٤٥]،
وأمر سائر المسلمين بإعانة بعضهم بعضًا على البر والتقوى؛ فقال تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«والله
في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[1].
ولا شك أن الأخذ بالأسباب يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«احرص
على ما ينفعك»[2]،
ومن أجل تحقيق هذا المنهج الرباني نذكر في هذا المقال عددًا من الوسائل المعينة على
صلة الرحم، وهي كالتالي:
أولاً: معرفة فضائل صلة الرحم:
إذا عرف المسلم الأجر سهل عليه العمل، وهان عليه ما يبذله في سبيل ذلك من وقت وجهد
ومال.
ولصلة الرحم فضائل عظيمة، ومن ذلك: أن المسلم يتقرّب بها لربه، ويؤدي فرض ربه؛ فهي
من الفرائض التي افترضها على عباده، ففي حديث هرقل المشهور، أن هرقل سأل أبا سفيان
بن حرب -رضي الله عنه- عما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال أبو سفيان:
يَقُول:
«اعْبُدُوا
اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ
آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ
وَالصِّلَةِ»[3].
وصلة الرحم سببٌ لصلة الله لعبده؛ ففي الحديث القدسي أن الله -عز وجل- قال للرحم:
«أما
ترضين أن أصل مَن وصلك، وأقطع مَن قطعك؟»[4].
وصلة الرحم سببٌ للبركة في الرزق والعمر وعِمارة الديار، ففي الحديث:
«مَنْ
سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛
فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[5]،
وفي الحديث أيضًا:
«وَصِلَةُ
الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَان الدِّيَار،
وَيَزِيدَان فِي الْأَعْمَار».[6]
ثانيًا: معرفة مخاطر قطيعة الرحم:
ومعرفة تلك المخاطر تجعل المرء يحذر من القطيعة، ويحرص على الصلة؛ فمن تلك المخاطر:
التعرُّض للعنة الله وغضبه، يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﮈ أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22- ٢٣]،
وقاطع الرحم مقطوع من الله كما في الحديث السابق، فهو ليس مقطوعًا من مَلِك من ملوك
الأرض ولا من مسؤول من كبار المسؤولين، بل مقطوع من مَلِك السماوات والأرض؛ إنها
مصيبة كبيرة، وفاجعة عظيمة على العبد في دينه ودنياه.
ثالثًا: الإخلاص لله في الصلة:
وهذا من أعظم الأمور المعينة على صلة الرحم، والمداومة عليها وعدم انتظار مقابلة
مكافأة على صلته، وقد أشار الله لأهمية هذا الإخلاص؛ فقال تعالى: ﴿فَآتِ ذَا
الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الروم:٣٨]؛
فالإخلاص يجعل للعبد قوة في قلبه، وعزمًا في عمله، فيُقدم على العمل الصالح لا
ينتظر جزاءه في الدنيا، فلا يريد من البشر جزاءً ولا شكورًا، وإنما يريد الجزاء من
رب العالمين، فلا يتأثر بإعراض أقاربه، ولا صدّهم ولا إساءتهم، وجهلهم، وإنما
يَصِلهم لوجه الله تعالى.
رابعًا: مُخالفة الهوى:
وهذا من أعظم مقاصد الدين؛ أن يُخالف المرء هواه، ويتَّبع شرع الله، وأساس الفساد
في اتباع الهوى ومخالفة الوحي، وإذا خالف المسلم هواه سَهُل عليه صلة الرحم،
ومقابلة القطيعة بالصلة والإساءة بالإحسان، وإذا خالف المسلم هواه، وعلم أن مصلحة
الصلة تعود عليه قبل أن تعود على مَن يصله؛ لأن مَن جاهَد فإنما يجاهد لنفسه،
فالصلة تعود أولًا على الواصل في الدنيا والآخرة، سواء لاقاه أرحامه بالسوء أو
بالإحسان، فإذا اتبع الواصل الوحي الذي يأمر بصلة مَن قطع، وخالف هواه؛ واظب على
صلة الرحم ولم ينتظر مكافأة من أحد.
خامسًا: التخلصث من الأسباب التي تؤدي للقطيعة:
هناك عدة أسباب تؤدي لقطيعة الرحم، ومن تلك الأسباب: أكل الميراث، وهذا يُولِّد
الأحقاد، ثم يؤدي للقطيعة بين الأقارب.
ومن تلك الأسباب:
قلة التزاور بين الأقارب، فتثقل الصلة، ثم يصبح الخيار المتاح الذي يُزيّنه الشيطان
للمرء هو قطيعة الرحم.
ومن تلك الأسباب:
التكلُّف في واجب الضيافة في مقابلة الزائر، وكذلك التكلُّف المالي الزائد من
الواصل في المناسبات الاجتماعية كالأفراح ونحوها، فينبغي ألا يتكلف المسلم ما لا
يُطيق حتى لا تثقل عليه صلة الرحم، وبالجملة فالتخلُّص من الأسباب التي تؤدي
للقطيعة يعين على صلة الرحم.
سادسًا: تأمل عواقب الأمور التي قد تؤدي لقطيعة الرحم:
إن صلة الرحم من أعظم الأعمال الصالحة التي ينبغي لمن يريد القيام بها ترقُّب
الأعمال التي تمنع من تحقيقها، ومن أعظم الأمور التي تدعو للتقاطع: علاقة المصاهرة
في الكثير من الأحيان بين الأقارب، لذلك استحب الحنابلة أن ينكح الرجل امرأةً من
غير أقاربه، وبيَّن البهوتي في الروض المربع السبب فقال:
«لأن
ولدها يكون أنجب، ولأنه لا يأمن الطلاق فيُفْضِي مع القرابة إلى قطيعة»[7]؛
فالتزوج من الأقارب قد يكون عاقبته قطيعة الرحم؛ إذا حدث الطلاق -لا قدر الله-.
وكذلك قد يحدث تقاطع بسبب بعض الخلافات الزوجية، فينبغي للمسلم التأمل هل زواجه من
أقاربه سيكون عونًا للصلة أم للقطيعة؛ فيتدبر أمره قبل القدوم على تلك الخطوة، ومَن
ينظر لأحكام الشرع الإسلامي يجد أنه راعَى ذلك الأمر في تشريعاته؛ فحرَّم على الرجل
الجمع بين امرأة وأختها أو عمتها أو خالتها؛ حتى لا تحدث قطيعة للرحم بين الزوجتين.
سابعًا: الاستفادة من الوسائل الحديثة في صلة الرحم:
وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي تُعين على صلة الرحم؛ كالاتصال بالأقارب،
وإرسال رسائل الاطمئنان عليهم، ومتابعة أحوالهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم،
فوسائل التواصل الحديثة قرَّبت البعيد، وجعلت العالم كالقرية الصغيرة، فبدلاً من
أن تُهْدِر تلك الوسائل وقت المسلم وفِكْره وتُضيّع جُهْده؛ فلْيجعلها له غنيمة،
فيستفيد منها في طاعة الله، ومن ذلك: صلة أرحامه، ومتابعة أحوالهم وتفقُّد أخبارهم،
ونُصْحهم ودلالتهم على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وليُذَكِّر أولاده بذلك ليكون
على صلة بأقاربهم، فينشأ أولادهم على صلة أقاربهم بتلك الوسائل الحديثة بدلًا من أن
يكون جُلّ استخدامهم في اللهو واللعب.
ثامنًا: تعلُّم الأنساب التي تُعين على صلة الرحم:
بمعرفة الأنساب يُفرِّق المرء بين الأصول والفروع من أرحامه، ويَعرف درجات أقاربه،
فيُقدّم الأهم فالمهم، لأنه قد لا يتَّسع وقته للجميع، لأجل ذلك قال النبي صلى الله
عليه وسلم :
«تَعَلَّمُوا
مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ؛ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ
مَحَبَّةٌ فِي أهْلهِ، مَثْرَاةٌ فِي مَالِه، مَنْسَأَةٌ فِي أَثَرِهِ»[8]؛
فليتعلم المسلم أنساب أبيه وأنساب أُمّه، لا ليتفاخر بنَسَبه الرفيع، ولكن ليستعين
بذلك على صلة أرحامه؛ ليقدم الأهم فالأهم في الصلة.
وما أجمل أن يسعى المسلم لصلة رحمه بتذكُّر فضلها وخطر قطعها، واستحضار النية في
صلتها، ومخالفة هوى النفس الذي يصدّ عنها، والتخلُّص من الأمور التي تدفع للقطيعة،
وتفادي الأمور التي قد تؤدي للقطيعة، والاستفادة من الوسائل المعاصرة في الصلة
ومعرفة الأنساب التي تُعين على صلة الرحم.
وفّقنا الله وإياكم لما يُرضيه عنّا.
[1] صحيح مسلم، ج ٤، ص٢٠٧٤، ح ٢٦٩٩، كتاب الذكر والدعاء، بَابُ فَضْلِ
الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الذِّكْرِ.
[2] صحيح مسلم، ج4، ص2052، ح 2664، كتاب القدر، بَابٌ فِي الْأَمْرِ بِالْقُوَّةِ
وَتَرْكِ الْعَجْزِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ وَتَفْوِيضِ الْمَقَادِيرِ لِلَّهِ،
ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، نسخة برنامج المكتبة الشاملة.
[3] صحيح البخاري، ج1، ص8، ح 7، باب بدء الوحي، ط دار طوق النجاة عام 1422هـ.
[4] صحيح البخاري، ج ٦، ص ١٣٤، ح٤٨٣٠، كتاب تفسير القرآن، باب (وتقطعوا أرحامكم).
[5] صحيح البخاري ج3، ص 56، ح 2067، كتاب البيوع، بَابُ مَنْ أَحَبَّ البَسْطَ فِي
الرِّزْق.
[6] مسند الإمام أحمد، ج42، ص 153، ح ٢٥٢٥٩، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات
رجال الشيخين غير محمد بن مهزم، فمن رجال
«التعجيل»،
وثَّقه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في
«الثقات»،
مسند أحمد، ط ١، عام ١٤٢١هـ، طبعة دار الرسالة، بتحقيق شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد
وآخرين، بإشراف عبد الله بن عبد المحسن التركي.
[7] حاشية الروض المربع، لعبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي، ج٦، ص٢٣١،
ط١، لعام ١٣٩٧هـ، نسخة برنامج المكتبة الشاملة.
[8] مسند الإمام أحمد، ج ١٤، ص٤٥٧، ح ٨٨٦٨، وقال محققوه: إسناده حسن، مرجع سابق.