• - الموافق2025/03/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بنو إسرائيل  في القرآن الكريم

سجَّل القرآن على بني إسرائيل أخزى سيئاتهم، وأنكى مُنكراتهم، وأفظع جرائرهم يندى لها الجبين حسرةً، وتنكّس من أجلها الرأس أسفًا، ويذوب أمامها ضمير الإنسانية، يقرؤها المسلمون وأبناء المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها،


ما علمت فيما علمت فجورًا أشد، وفسوقًا أوسع مدى، من فجور «بني إسرائيل»، وفسوق «صهيون». وما رأيت في نظري قلوبًا أقسى من الحجارة، ونفوسًا أظلم من الليل الحالك، من قلوب ذرية اليهود الظالمة ومن نفوس أبناء «صهيون» الطاغية. وما وقع تحت حسّي وفي محيط معرفتي إجرامًا كبيرًا، وإثمًا عظيمًا، وفحشاء منكرة، ووحشية متهورة، كوحشية بني إسرائيل، وآثام الصهاينة التي يرتكبونها بلا حساب وبدون إحساس؛ ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ [مريم: ٩٠].

وقلوب البشر تنزف دمًا من إجرامهم وفُحْش اعتداءاتهم، وكبير سيئاتهم التي يرتكبونها من غير رحمة، ويقترفونها بلا رأفة، وتلك طبيعتهم التي طُبِعُوا عليها وسجيّتهم التي نشأوا فيها، يقول الله -تعالى- مخاطبًا بني إسرائيل بعد أن قصَّ جملةً من منكراتهم، وعظيم آثامهم وفُحْش مُخالفتهم لتعاليم الله، وبعد أن رأوا الآيات، وفتحوا عيونهم على المعجزات: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٧٤].

وقد سجَّل القرآن على بني إسرائيل أخزى سيئاتهم، وأنكى مُنكراتهم، وأفظع جرائرهم يندى لها الجبين حسرةً، وتنكّس من أجلها الرأس أسفًا، ويذوب أمامها ضمير الإنسانية، يقرؤها المسلمون وأبناء المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، بل ومن الدليل على صدق القرآن، وأنه -حقًّا- من عند الله؛ أن الواقع بيننا الآن، والأحداث الجارية على سطح الأرض تشهد بصحة ما ذكر القرآن عنهم: من سيئات واعتداءات ومنكرات وجرائم، ويكفي ما ذكرته الصحف وما صوَّرته المجلات من إلقاء قنابل «النابلم» الحارقة للأجساد، والتي تنزع الجلود البشرية، وتُشوِّه وجه الإنسان وجسمه، وتجعله عبارة عن قطعة لحم مشوّهة قد ضلت فيها معالم البشرية؛ حيث تطمس العين ويضيع الأنف، وتذهب الأذن، ويزول الشعر، وتُبتَر الأعضاء، ويصبح جسم الإنسان كجزع شجرة مشوّه؛ ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: ٤٢].

وحسبي الآن أن أُبيِّن للقراء الكرام ثلاث سيئات فقط من سيئات بني إسرائيل، التي ذكرها القرآن الكريم عنهم، وهي في الواقع كبرى السيئات وفوق المنكرات، وكل واحدة منها كافية في إثبات البغي والعدوان اللَّذَيْن انطبع فيهم، بل كل واحدة منها هي أكبر من أختها وأعظم جرمًا من سالفتها.

وتلك المنكرات هي: طلبهم من نبيهم موسى أن يعبدوا الأصنام كما عبَدها غيرهم، ثم تصويرهم للعجل والعكوف على عبادته، ثم قولهم لنبي الله موسى -عليه السلام-: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾؛ أليس ذلك يدل على انحطاط عقليتهم وسوء مسلكهم، وغباء نفوسهم؟ وأنهم حيوانات في تفكيرهم، بل أضل سبيلًا، وأنهم جُرِّدوا من كل إنسانية وتنزلوا بها إلى درك الحيوانية، نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.

وقبل أن أسوق تلك السيئات الثلاث، والتي حدثت على أيدي بني إسرائيل متتالية متعاقبة، عقب خروجهم من البحر الأحمر ونزوحهم إلى سيناء والوادي المقدس، أريد أن أذكر كلمةً مختصرةً عن حالة بني إسرائيل في مصر بقيادة سيدنا موسى -عليه السلام-؛ فقد أرسل الله سيدنا موسى إلى فرعون مصر أولًا قبل أن يُرسله إلى بني إسرائيل؛ لأنه تعبَّد شعبه، واحتقر شأنهم، وجعلهم يتخذونه إلهًا، ويقصدونه من دون الله؛ فأخذ سيدنا موسى يَنهى عن عبادة فرعون، ويدعو إلى عبادة الله وحده، وصار يَجْهر بتوحيد الله والإخلاص له في العبادة. ثم توجَّه إلى بلاط فرعون وخاطبه جهارًا، وقال: ﴿يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٤]، فقال له فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟ قال موسى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾؛ فقال فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ: ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾؛ فقال موسى: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ فقال فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ فقال موسى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾؛ فقال فرعون: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: 24- 29].

ثم قال فرعون للشعب ولكبار القوم: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [القصص: ٣٨].

وثبت موسى واشتد على فرعون، وصمد أمامه، وجاء له بالبراهين، وأظهر له الآيات، ولكنّ فرعون كذَّب وبغى، واعتدى وعلا، فقال لبني إسرائيل: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، وزاد في عُتوّه ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤].

وأخذ فرعون يكافح ويعاند موسى وبني إسرائيل، واشتعلت حرب بينه وبين موسى وبني إسرائيل في مصر طالت مدتها، واستمر فرعون في كفاحه ضدهم، وأخذ يقود الجيش بنفسه، حتى طارد موسى ومعه بنو إسرائيل من مصر، واضطرهم إلى الخروج من مصر، وألجأهم إلى البحر الأحمر «القلزم»؛ فكان البحر أمامهم وجيش فرعون وراءهم، وكُرِبَ موسى وجنده كربًا شديدًا، واستولى عليهم الفزع والهلع، وقال أصحاب موسى: إن جيش فرعون قد قارب أن يلتحم بنا، وكاد يدركنا! فقال موسى: سيجعل الله لنا من أمرنا يسرًا، ومن ضائقتنا مخرجًا، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ  * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 61-62].

وهنا يأتي دور السيئات الثلاث الكبرى التي اقترفها بنو إسرائيل في حياة سيدنا موسى رسولهم، وفي باكورة الدعوة الموسوية، وفي إبَّان نزول التوراة:

السيئة الأولى: أنهم رفضوا التوحيد، ونسوا الله تعالى، وطلبوا عبادة الأصنام؛ ﴿قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨]، وذلك أن بني إسرائيل حين نزحوا إلى بلاد العرب، اختلطوا بالكنعانيين وغيرهم من سكان الجزيرة العربية، وتعاملوا معهم، ووقعت أعينهم على الأصنام، ورأوا العرب يعبدونها من دون الله، فنالت تلك العبادة في نفوس الإسرائيليين، واستقرت في قلوبهم، حتى حملهم ذلك على زيارة معابدهم، واعتنقوا عبادة الأصنام، وطلبوا من موسى أن يأذن لهم بعبادة الأوثان، وقالوا: يا موسى دعنا نعبد هذه الآلهة؛ فإنها أقرب إلى قلوبنا وأعلق بأبصارنا، فأخذ موسى -عليه السلام- يُذكِّرهم بأيام الله، ونِعَمه عليهم، ونجاتهم من فرعون وملئه، وينصح لهم ألا يفتتنوا أو يستهويهم الشيطان فيضلوا ضلالًا بعيدًا، ودعاهم إلى طاعة الله الذي بيده كل شيء، وله الأمر والنهي، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٨- 139].

وأخيرًا تمكنت تلك السيئة منهم، وطُبِعُوا عليها، وتفنَّنوا في صُوَر الأصنام، وتطوروا في عبادة الأوثان حتى اتخذوا بعد ذلك صورًا تمثل الحيوانات المختلفة، وعكفوا على عبادتها، ولم يلتفتوا إلى قول موسى -عليه السلام-، واستمروا على غوايتهم، وصدق الله إذ يقول عن بني إسرائيل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: 86].

السيئة الثانية: وهي أدهى وأمرّ؛ لأنها امتداد للسيئة الأولى، وتطوير كبير في محيط عبادة الأوثان فاتخذوا بعدها عبادة العجل، وذلك أن موسى -عليه السلام- لما وجد قومه من بني إسرائيل قد مالوا لعبادة الأصنام توجَّه إلى الله بطلب هدايتهم، وألحَّ عليه أن يناجيه في شأنهم، فاستجاب الله -جل وعلا- وواعده على اللقاء، على جبل الطور، وأخذ موسى يستعدّ فتطهَّر وصام ثلاثين يومًا، ثم أتمّها بعشر، وتم الميقاتُ أربعين يومًا.

 وانتدب موسى -عليه السلام- أخاه هارون نائبًا عنه في مراقبة بني إسرائيل، وزوَّده بجملة من النصائح والإرشادات، وأمره بالإصلاح بين بني إسرائيل ودوام الوقوف على أخبارهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٢].

ولما جاء الميقات صعد موسى جبل الطور، وتجلَّى الله عليه وناجاه، وقال له: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144]، وأوحى إليه التوراة، وكتب له الألواح فيها هدى ونور، وفيها من كل شيء موعظة ونصائح تُرشد إلى صلاح الدنيا والدين، وبعد أن كملت آيات التوراة ونسخها موسى في الألواح، أخبره الله بأن قومه قد فُتِنُوا وعبدوا العجل، وقال له من فوق جبل الطور: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ [طه: 85]، وعندئذ عاد موسى إلى قومه سريعًا مغضبًا شديد الأسف، وقابل أخاه، وأخذ يعاتبه ويلوم عليه، ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ [الأعراف: 150]، واشتد عليه، وأخذ برأس أخيه وجعل يجرّه إليه؛ فقال له هارون: ﴿ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: ٩٤]. وقال له هارون: ﴿ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 150].

وذلك أن السامري من بني إسرائيل، كان رجل فتنة وصاحب مكر ودهاء، وعنده دراية بصنع التماثيل وفن النحت، وكان صاحب حِيَل، فجمع الذهب من بني إسرائيل على سبيل الاستعارة، وأذاب الذهب في النار وشكَّل منه تمثالَ عِجْلٍ له خوار؛ إذ جعل دُبُره مفتوحًا مِن قِبَل ذَيْله، وفم العجل قد ظهرت منه أسنانه، وشفتاه غير منطبقة، وبطنه كبير «كلها فراغ»، ونصبه في موضع يصلح له مرور الهواء، فكان الهواء يمر من دُبره إلى بطنه، ثم رقبته وفمه، وصفائح الذهب لها رنين طبيعي فيحدث من ذلك خوار كخوار البقر؛ ففُتِنَ الناس به، واجتمع بنو إسرائيل على عبادته، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٨].

 وزيَّن السامري عبادة العجل، وقال لبني إسرائيل: هذا إلهكم وإله موسى، ولكنّ موسى نسي ربه، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ [طه: 88-89].

وكان سيدنا هارون -شقيق موسى في الرسالة- دائب النهي والزجر لهم، ولكنهم لسوء عقيدتهم لم يلتفتوا إليه، وقالوا: سنظل حول العجل عاكفين حتى يأتي إلينا موسى من جبل المناجاة، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي *  قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه: 90-91].

وعمد موسى -عليه السلام- إلى صورة العجل فهشَّمها، وحرّقها وذرّاها في الهواء تحت سمع بني إسرائيل وبصرهم، والتفت إلى السامري، وقال: ما حملك على هذا يا سامري؟! وأخذ يُوبِّخه على كفره، فقال له السامري: لقد أعجبني ذلك، وراق لي، وكذلك سوَّلت لي نفسي، فقال له موسى: سيعاقبك الله في الدنيا بداءٍ يلصق بجسدك، ويتحكم في بدنك، ولن يتركك حتى تموت مُعذَّبًا؛ ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ *  قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي   قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ﴾ [طه: 95- 97].

أما السيئة الثالثة: فهي ثالثة الأثافي، وكبرى السيئات وأعظم الأمور؛ إذ طلبوا من موسى أن يروا ربهم، ويُبصرونه بأعينهم، وأن يقع تحت أنظارهم، قال تعالى: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣]؛ وذلك يدلّ على جهلهم بحقيقة الألوهية، وعدم معرفتهم بذات الربوبية، فإن الذات الأقدس لا تُرَى ولا تُحسّ، قال تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٠٣].

 قال علماء التوحيد: الله مُخالف للحوادث وسائر الموجودات، وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك. ولا يعرف الله إلا الله. وقرَّر أيضًا علماء التوحيد: أن رؤية الله جائزة في الدنيا، واقعة يوم القيامة، أما في الدنيا -مع كونها جائزة- فإنها ممتنعة ومستحيلة وجودًا؛ لأن سيدنا موسى تشوَّق لرؤية الله، ولكنه مُنِعَ حسًّا وواقعًا؛ لأن الله باقٍ وموسى كأيّ بشرٍ، والفاني لا يرى الباقي، ولأن الله قال لموسى حينما طمع في النظر إليه بعد نعمة الكلام: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143].

 

أعلى