قد تكون القراءة الصهيونية بشأن إحباط لبنة مهمة من لبنات المشروع الإيراني في المنطقة صحيحة، وهو النظام السوري الذي كان يُوفِّر للحرس الثوري الإيراني مسارًا بريًّا حيويًّا يربط الحدود العراقية باللبنانية، ويُجسِّد هذا الأمر خطوة مهمة في استكمال مشروع الهلال
تنظر الدولة العِبْرية إلى التطورات في سوريا على أنها إعادة رسم لخريطة الأمن القومي في الشرق الأوسط، وبناء معادلة جديدة.
لكن بقَدْر ما حاول رئيس الوزراء الصهيوني تصوير ما جرى على أنه انتصار صهيوني حصلت عليه الدولة العبرية بعد 14 شهرًا متواصلًا من القتال مع حزب الله في لبنان؛ من خلال التقاط صُوَر على قمة جبل الشيخ، أو جبل «حرمون»؛ وفقًا لمسميات مشروع الاستيطان اليهودي في المنطقة؛ إلا أن الملف السوري يبقى جزءًا لا يتجزأ من تراكمات إقليمية ودولية، مفاتيح الحل فيها لا تتعلق فقط بإسقاط نظام بشار الأسد، بل بدخول المنطقة في أزمة أكثر حدة من مراحل الصراع، وهي الصدام بين مشروع سُنّي بدأت نواته تتشكل في سوريا الجديدة، وبين مشروع تطبيع تطمح الدولة العبرية إلى تمريره في المنطقة في عهد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب؛ استكمالًا لمسار «اتفاقية أبراهام».
تُركّز الصحافة العبرية وصُنّاع القرار في الدولة العبرية على أنّ طوفان الأقصى في قطاع غزة قاد إلى استنزاف قدرات إيران، ما سمح بتشكُّل بيئة أمنية مناسبة لاستثمارها، وإسقاط نظام بشار الأسد أحد الحلفاء الرئيسيين لإيران في المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن قوته لم تكن نابعة من دوره في دعم المشروع الإيراني بقدر ما كان يُوفّر مساحة عمل للمليشيات الإيرانية على الأراضي السورية؛ للربط بين حزب الله والأراضي العراقية مقابل الحفاظ على وجوده، بالإضافة إلى استضافة القواعد الروسية التي أسهمت كثيرًا في توفير غطاء جويّ لتحرُّك المليشيات الشيعية في قمع الشعب السوري.
وبقَدْر ما تُروِّج الدعاية الصهيونية لنصرٍ محتوم في المنطقة لصالح المشروع الصهيوني، واستثمار بنيامين نتنياهو للحدث لتحسين شعبيته الداخلية؛ بسبب أزماته المختلفة، ومحاولة تصوير ما يحدث في قطاع غزة بأنه نصر حاسم على المقاومة، والترويج لنصر على حزب الله في لبنان، وآخر في سوريا؛ إلا أن القراءة الواقعية لخريطة المتغيرات تفيد بأن الدبلوماسية الصهيونية لا تزال تتكبَّد خسائر على طاولة المفاوضات في الدوحة، مثلما يتكبَّد جنود الجيش الصهيوني خسائر في «بيت لاهيا»؛ تلك القرية الصغيرة التي تُقاتل وحيدةً -منذ 14 شهرًا- أشرس آلة حرب غربية، فصحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية علَّقت على آخر كمائن المقاومة الذي قُتِلَ فيه 3 جنود صهاينة في القرية الواقعة شمال القطاع بالقول: «لقد دمَّر الجيش كل حجر في بيت لاهيا... كيف نخسر جنودنا فيها؟!».
وكذلك الأمر في سوريا؛ فالدولة العبرية التي ربما ساعدتها المتغيرات الإقليمية في التخلُّص من نظام بشار الأسد الذي كان يحفظ أمنها منذ توقيع اتفاق الهدنة منذ عام 1974م؛ ستُواجه اليوم ولأول مرة على حدودها نظامًا ثوريًّا سُنيًّا تقوده وتُشكِّله مجموعة من الفصائل الإسلامية التي تؤمن إيمانًا مطلقًا بتحرير الجولان السوري، وطرد المحتل الصهيوني من كافة الأراضي العربية.
لذلك منذ بدأت تحرُّكات عملية «ردع العدوان»؛ بدأ الجيش الصهيوني بالتوغل داخل الأرضي السورية، واستغل الوضع القائم لاستكمال احتلال الجولان وجبل الشيخ ومنطقة حوض اليرموك، ليس فقط لنقل المعركة إلى أرض العدو، وتوفير منطقة أمنية عازلة، بل أيضًا للسيطرة على مصادر وفيرة للمياه العذبة في المنطقة.
لذلك لا يمكن التركيز على المساحة السياسية والعسكرية للصراع الموجود بين الدولة العبرية، ومحيطها دون إرجاعه لهُويّته الحقيقية، ففي عام 2012م طرح أحد الصحفيين الصهاينة سؤالًا على وزير الدفاع السابق «موشيه يعلون» حول موقف الدولة العبرية من الثورة السورية؟ فأجاب قائلًا: «شيطان نعرفه خيرٌ من مَلاك لا نعرفه!».
وهذه الإجابة تقودنا -بصورة لا لبس فيها- إلى سرّ تقبُّل النظام السوري للضربات الصهيونية التي كانت تَستهدف المليشيات الإيرانية وحزب الله في سوريا، دون أيّ رد فعل، بل وحينما سيطرت فصائل المعارضة على دمشق وحلب وكافة المدن السورية، تلا ذلك مباشرة قيام الطيران الصهيوني بشنّ أكثر من 500 غارة، استهدفت أكثر من 130 هدفًا شملت مواقع عسكرية ومستودعات أسلحة ومطارات وموانئ تابعة للجيش السوري؛ كان الهدف من هذه الغارات تدمير مُقدَّرات عسكرية حيوية كانت ستكون إرثًا مهمًّا للدولة الجديدة التي اعتبرتها الدولة العبرية أكثر خطورة من سابقتها.
قد تكون القراءة الصهيونية بشأن إحباط لبنة مهمة من لبنات المشروع الإيراني في المنطقة صحيحة، وهو النظام السوري الذي كان يُوفِّر للحرس الثوري الإيراني مسارًا بريًّا حيويًّا يربط الحدود العراقية باللبنانية، ويُجسِّد هذا الأمر خطوة مهمة في استكمال مشروع الهلال الشيعي، لكن ما جرى في سوريا فاجَأ وهزَّ الواقع السياسي والأمني في العالم الغربي والإسلامي برُمّته، لذلك صرح الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» بأن «تركيا قامت بحركة غير وُدية، ونجحت في امتلاك مفاتيح سوريا»، وهي إشارة مباشرة لتأثير تركيا في نجاح هذه العملية، وتوفير الدعم الدبلوماسي والعسكري لهذه العملية.
وهذا الأمر اعتبرته الولايات المتحدة والدولة العبرية تهديدًا خطيرًا للمشروع الكردي الذي يتم تمويله منذ سبعينيات القرن الماضي؛ لاستنزاف الدولة التركية، وقطع تواصُلها مع محيطها العربي والإسلامي، لذلك في آخر تصريح للرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» قال: «إن الميلشيات الكردية إمَّا أن تخرج من سوريا، أو سيتم دفنها هناك»، أما الأمر الأكثر خطورة بالنسبة للدولة العبرية والولايات المتحدة الأمريكية فهو أن المعادلة الأمنية الجديدة تَفرض تأثيرًا تركيًّا أفضل في المنطقة يصعب التنبؤ بحدود قوته.
وإذا رجعنا إلى الوراء قليلًا، ففي عام 1992م نشر «فرانسيس فوكوياما» كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وقال في أحد المواضع المهمة في كتابه: «لقد فُزْنا نحن في الديمقراطيات الرأسمالية الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة، وهزمنا أعداءنا المتعصبين الدينيين والفاشيين والنازيين، والآن الشيوعيين، وأصبح العالم يَعرف أن الطريق الوحيد للثروة والسعادة هو الديمقراطية الرأسمالية». فرَدَّ عليه صامويل هنتنجتون، قائلًا: «نحن الآن ندخل أخطر مرحلة في صراع الحضارات، وهو الصراع الأيديولوجي».
إن ما سبق يشير إلى أن ما جرى في غزة، وما تبعه في سوريا، جاء من نسيج واحد وهوية واحدة وميراث واحد تترسخ جذوره في هذه المنطقة؛ فوفقًا لـ«كارميت فالينسي» -الذي ينقل قراءات من مراكز الفكر الصهيونية-؛ فإن ما جرى هو فرصة لاستثمار التطورات الجيوسياسية لاتخاذ قرارات تخدم المشروع الصهيوني؛ إلا أنها تقرّ بأنه امتداد لما يدور في الأراضي الفلسطينية؛ فالفصائل المسلحة التي تشكَّلت منها عملية «ردع العدوان» في سوريا، تضم أكثر من 20 فصيلًا مسلحًا، كلها لها امتدادات فكرية وسياسية على عداوة قومية ودينية مع المشروع الصهيوني؛ مثل: هيئة تحرير الشام، وجيش الإسلام، والجيش السوري الحر، وغرفة عمليات الفتح المبين، وفيلق الشام، وحركة وجيش الأحرار، وحركة تحرير الشام، وحركة نور الدين زنكي، والجبهة الشامية. ولذا فالدولة العبرية تؤمن بأن سوريا الجديدة بقدر ما تحاول تخطّي وتجنُّب عقوبات دولية من خلال التحايل على الواقع السياسي، واستدراك أخطاء تجربة حركة طالبان في حكم أفغانستان؛ إلا أنها لن تكون أبدًا وجهًا آخر للنظام السابق، لذلك تحاول الدولة العبرية بقوة كبيرة دعم المليشيات الكردية الحليف الوحيد المتبقي لها على الأراضي السورية وحائط الصد الوحيد المتبقي للنفوذ التركي.
من جهة أخرى، ففي قراءة نشرها مركز مدار لمتابعة الشأن الصهيوني؛ أكد أن الدولة العبرية غير قادرة على التأثير فيما يجري على الأراضي السورية، لا سيما وأن القائد الحالي في سوريا الجديدة أحمد الشرع أدلى بتصريحات بشأن علاقة سوريا الجديدة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي؛ باعتبارها علاقة متميزة تأسست منذ مشاركة الذراع العسكري التابع لحركة حماس بتأسيس كتائب أكناف بيت المقدس منذ بداية الثورة السورية، وساهمت بشكل فاعل في تدريب بعض الفصائل، وتسبب ذلك بأزمة عميقة للحركة مع النظام السوري وإيران.
بالإضافة إلى ذلك، يفقد حلفاء الدولة العبرية قدرتهم على التأثير في الحراك السياسي الحالي في سوريا؛ بسبب الغطاء الدبلوماسي الذي تُوفّره أطراف مثل تركيا وقطر للمعارضة السورية، بينما تحاول الدولة العبرية استخدام مصر والأردن في هذا الملف لتعزيز الوضع الإستراتيجي لديها، والانتقال من حالة الردع على طول الحدود إلى محاولة إيجاد حلفاء داخل التيارات السياسية في النظام الحاكم الجديد؛ لذلك فمنذ اليوم الأول لتحرير دمشق أجرى قادة الجيش والشاباك الصهيوني زيارات سرية عاجلة إلى القاهرة وعمان؛ لبحث هذا الملف، وانعكاساته على المنطقة باعتباره سقوطًا مدويًّا لأول جدران الطوق المحيطة بالدولة العبرية.
من منظور جيواستراتيجي، فإن سوريا منطقة جغرافية إستراتيجية تشهد تقاطع مصالح حيوية بين تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة، ولن يكون الحراك فيها مرنًا، لا سيما في ظل وجود عُمْق استخباري كبير لتركيا في المنطقة، بالإضافة إلى الدعم الدفاعي الذي استعدَّت تركيا لتقديمه للنظام السياسي الجديد، والذي سيُتَرْجَم لاحقًا باتفاقيات دفاع مشترك، قد يَفْرض على الدولة العبرية معادلة جديدة ستكون نتائجها قاسية، وهي أن الأمن القومي التركي سيقابله الأمن القومي الصهيوني، لذلك ستكون المعركة الصامتة القادمة بين الدولة العبرية وتركيا على الأراضي السورية، ليس فقط من خلال دعم المليشيات الكردية، بل أيضًا عبر محاولة اختراق الفصائل السياسية المتنوعة في سوريا، بالإضافة إلى الرهان على الأقليات مثل الدروز والمسيحيين، وإعادة تكرار مبادرة «الجيران الطيبين» التي نفَّذها الجيش الصهيوني ما بين عامي 2016 و2018م؛ من خلال التواصل مع جهات سورية، وتهريبها إلى دول غربية، بالإضافة إلى تقديم دعم مباشر لها. لذلك صرَّح وزير الجيش الصهيوني في «إسرائيل» كاتس في اجتماع الكنيست قائلًا: «نحن بحاجة إلى منع نظام قاتل يحمل أيديولوجية نازية من النموّ على عتبة دارنا، الأسد، والجولاني، وأردوغان، كلهم نفس الشيء».
بتفسير آخر يمكن القول: إن الدولة العبرية جُبِلَتْ على نَفْخ نيران الحروب في المنطقة، وسيبقى اليمين الصهيوني يؤكد للعالم دائمًا ما ذكَره القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 عام في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة: ٦٤].
وهنا نقول: إن ما يجري في سوريا يحمل في طياته الكثير من التفاصيل التي تضمنتها 14 عامًا من الثورة ضد نظام القمع، لم تكن لتقطف ثمارها لولا الدعم والإسناد الذي وفَّرته تركيا لهذا المشروع الذي من أهم انعكاساته القضاء على مشروعين من أخطر مشاريع التقسيم التي تواجهها المنطقة، وهما: المشروع الإيراني، والمشروع الكردي المدعوم صهيونيًّا.