الاحتساب الفكري، بنشر العلم وبثّ الوعي، وردّ الشبهات ومناقشتها، وتوضيح أخطائها، وتتبُّع النوازل الفكرية والعلمية والقيام بالواجب تجاهها؛ تأسيسًا ومعالجة، وهذا من أجلّ الأعمال
يُستفاد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «بادروا بالأعمال فتنًا كقِطَع الليل المظلم؛ يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دِينَه بعَرَضٍ من الدنيا»[1].
كثرة ما يحدث للعقول من تضليل وتعمية وتزييف، وقد يكون ذلك -كما هو الحاصل اليوم- عن طريق التضليل الإعلامي الذي يُمثِّل أداةً ووسيلةً لفتنة الناس عن دينهم، وتعميتهم عن حقائق الأمور؛ حيث يكثر توظيف واستخدام تقنيات التأثير والإقناع، وتكثيفها إلى حدٍّ يُسْلِم الناسُ فيه عقولَهم لمن يتلاعب بها من دهاقنة الإعلام وصُنّاع الرأي، فتتشكّل عقول الناس، ويتحوَّل بعضهم من الإيمان إلى الكفر في يومٍ واحدٍ؛ مِن شدَّة ما يُمارَس عليه من التأثير والتضليل.
قال ابن هبيرة: «ومن الفِتَنِ: الكلمةُ الخبيثة؛ التي يَقذفها الشيطان على لسان وليّ من أولياء الشيطان ليقولها، إما جادًّا أو هازلاً، ليسمعها الضعيف القلب فيُفتَتن بها الفتنة التي لا يخلص منها إلى يوم القيامة؛ لأن القلوب كثيرة التقلُّب من ربقة الحق، شديدة التطلع إلى منافذ الضلال؛ فإذا قُذِفَ في روعها شيء من المُضلّلات وجد عندها داءً قاتلاً وشرًّا مستعرًا، كالنار التي تقع في الخِرَق»[2].
وكم من كلمة خبيثة قُذف بها من خلال بثٍّ أو حوارٍ أو يومياتٍ أو تحليلٍ إخباريّ أو تقرير أو توثيق؛ فانتشرت في الآفاق، وأضلت مِن أُناس خفيفي الأحلام!
وربما جاءت هذه الكلمة الخبيثة على قلبٍ تراكمتْ فيه الشبهات والأفكار المضللة؛ فسارعت في إخراج الإيمان منه، وقد أخبر بهذا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأيّ قلب أَنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًا كالكوز مُجخِّيًا، لا يَعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا؛ إلا ما أُشْرِب من هواه»[3].
وكم سُمِعَ في مجالس الناس مَن يتحدَّث عن الإمام البخاري ناقدًا، وليس في بيته كتاب واحد! أو يتحدَّث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مُشكِّكًا ولم يحضر حلقة عِلْم! وكم سُئِل الدعاة وطلبة العلم في الزمن المتأخر عن مسائل القدَر لِمَا علق في أذهان السائلين من الشكوك الخطيرة جرَّاء متابعتهم للأطروحات المضللة هنا وهناك! وكم شُوِّه مَعْلم من معالم الحق، وأُعْلِي مَعْلم من معالم الانحراف! وهكذا الكثير من المظاهر الناتجة عن التضليل الإعلامي وتقنياته الشريرة.
وبعض البرامج التي تدَّعي العِلْم والتحقيق يشاهدها مئات الآلاف من الناس، وأحيانًا يشاهدها الملايين، هي في حقيقتها تزييفٌ للحقائق وتضليلٌ للناس ودعوةٌ إلى الخروج من الدِّين.
ولطالما صرَخ العارفون بالتحذير من خطورة هذا الأمر، ليس على مستوى أهل الإسلام فحسب، ففي خطابه خلال حفل تخرُّج الطلاب عام 1950م؛ قال رئيس جامعة بوسطن الأمريكية دانيال إل مارش Daniel L Marsh: «في حال استمر جنون التلفاز في تقديم برامج منخفضة المستوى -كالتي يَعْرضها-؛ فإننا سنُصبح أُمَّة من الحمقى في المستقبل»[4]. هذا ما استشرَفه رجل السياسة والتعليم في بلده قبل عقود من الزمان، وقد صدَق حَدْسه وصحَّ استشرافه.
ومن صور التضليل الإعلامي: تشتيت عقول الناس، والتلاعب بالمفاهيم، وتوجيه المصطلحات، واستخدام تقنيات التصوير للمراوَغة والكذب بغزارة، وأُصيب كثيرون بحالة إدمان؛ يلهثون فيها خلف الإعلام ليتعلموا أمور دينهم ودنياهم.
وأطمُّ من ذلك: التلاعب بأحكام الدِّين، وتحريف الكَلِم عن مواضعه وتبديل بعض أحكام الشريعة، وإبطال بعضٍ آخر منها، والكذب على الله -تعالى-، وتحليل ما حرَّم الله، وتحريم ما أحلَّ -سبحانه-، والدعوة إلى الشرك بالله -تعالى-؛ كلّ ذلك يتم بطريقة ممنهجة وبتأثير الصورة والصوت.
لا شك أنها فتنة كبيرة يصنعها الإعلام -مرئيًا أو مسموعًا أو مقروءًا-، ثم يدفع بالناس إلى هذه الفتنة؛ فيسارعون إليها -إلا مَن رحم ربك-، كما يسارع الفراش إلى النار فيحترق بها، ويُخْدَعون بها كما خُدِعَ الناس بسحرة فرعون حين ألقوا حبالهم وعصيّهم فسحروا أعين الناس، فكانت رؤية الناس بأعينهم لهذا الخدعة سببًا في تغيير مشاعرهم وأفكارهم، وكما خُدِعُوا حين ذُكِرَ لهم بعض الشُّبَه والكلمات المضلّلة، قال تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِين﴾[الزُّخرف: 54].
وقد سأل الصحابة الكرام نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة تحديدًا، عند ورود الفتن العِظام في آخر الزمان -أعني تضليل العقل-؛ فقالوا: يا رسول الله! ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا، ُتُنْزَع عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم»[5].
وهنا ينبغي أن نبادر بعددٍ من الأعمال حتى نَمْنَع وصول شر هذه الفتن إلى الناس، أو نُخفِّف من غلوائها، ونسعى في رَفْعها، وهذا من باب دَفْع القدَر بالقدَر، ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن تلك الأعمال:
1- غرس تعظيم النصوص الشرعية -بفهم سلف الأمة لها- في نفوس الناس، وأنها تعلو ولا يُعلَى عليها، وأنها المرجع لكل القضايا الفكرية والسلوكية تأسيسًا وعند النزاع، وأنها الحاكم المعصوم من الخطأ والزلل والالتباس؛ فعن جابر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله»[6]؛ فالتربية على تعظيم نصوص الوحي عاصمةٌ -بإذن الله- من الفتن.
2- دوام دعوة الناس إلى تقوى الله وخشيته ومراقبته والاستقامة على أمره، والتزود بالطاعات والمبادرة بها؛ كما في الحديث، ولقول الله -تعالى-: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم﴾ [الأنفال: 29]؛ فالتقوى تصنع عقلاً يُفرِّق بين الحق والباطل، والحسَن والقبيح، والخير والشر، والصواب والخطأ، والفاضل والمفضول، والراجح والمرجوح.
قال ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: «قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان: «فرقانًا» مخرجًا. زاد مجاهد: في الدنيا والآخرة. وفي رواية عن ابن عباس: نجاةً. وفي رواية عنه: نصرًا. وقال محمد بن إسحاق: فصلاً بين الحق والباطل. وهذا التفسير من ابن إسحاق أعمّ مما تقدَّم، وقد يستلزم ذلك كله؛ فإنه مَن اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وُفِّق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه، وهو محوها وغفرها وسترها عن الناس، وسببًا لنيل ثواب الله الجزيل»[7]. وبهذا تُدْرك معنى حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل هجوم الفتن.
3- التربية النقدية التي تصنع عقلاً تحليليًّا فاحصًا، قادرًا على التقييم والفرز والانتقاء والحجب والإتلاف، وقد جاء في المأثور مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم : «واعلم أن الله -عز وجل- يحبّ البصر النافذ عند مجيء الشبهات، والعقل الكامل عند نزول الشهوات»[8].
لقد كانت التربية النقدية حاضرةً في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتأمل مثالاً على ذلك ما جاء في حديث عليٍّ -رضي الله عنه- قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلاً من الأنصار، وأمرَهم أن يُطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تُطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: فاجمعوا لي حطبًا. فجمعوا، فقال: أوْقِدُوا نارًا. فأوقدوها، فقال: ادخلوها. فهمُّوا وجعل بعضهم يمسك بعضًا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه؛ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة؛ الطاعة في المعروف»[9].
إن ظواهر من مثل اصطفاف عشرات الرجال والنساء البالغين العاقلين في طابور لشراء «كوب»، ثم يُباع هذا الكوب بمئات الريالات! أو ازدحام الآلاف لرؤية شخصٍ تافهٍ عن قرب، ونحو ذلك من المظاهر المخجلة؛ إن ذلك لمن السخف العقلي الذي بلغ منتهاه، وإن قُدرة القوم على التحكُّم بعقول مستخفَّة قد أصبحت جلية! وإذا بلغت الفتن من قوتها أنها تجعل الحليم حيران، فكيف تفعل بسفهاء الأحلام أتباع كل ناعق! إن التربية على اليقظة العقلية واجب.
4- العمل على كشف تقنيات التضليل الإعلامي الذي تمارسه صروح الإعلام، وتحذير الناس من الوقوع في فِخاخها المتعددة والمتنوعة؛ فإن للإعلام سطوة، وإن في عقول البعض اعتقاد عصمة الإعلام وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر في مسائل الدين والصحة والتجارة والنفس والاجتماع، وغيرها، وتوجد دراسات وأبحاث ومؤلفات تعتني بدراسة الإعلام وتأثيره؛ يُفضَّل أن تكون جزءًا من المكتبة التربوية والقيمية الموصَى بها.
5- الاحتساب الفكري، بنشر العلم وبثّ الوعي، وردّ الشبهات ومناقشتها، وتوضيح أخطائها، وتتبُّع النوازل الفكرية والعلمية والقيام بالواجب تجاهها؛ تأسيسًا ومعالجة، وهذا من أجلّ الأعمال؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد سُئل الإمام أحمد عن الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحبّ إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: «إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين؛ هذا أفضل».
فبيَّن أن نَفْع هذا عامّ للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودَفْع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجبٌ على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا مَن يُقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يُفسدون القلوب ابتداءً»[10].
ولا شك أن هذه الأعمال تندرج في المبادرة الصحيحة الواردة في الحديث، وإن العمل بها استعدادٌ صحيحٌ لأزمنة الفتنة المتأخرة.
[1] صحيح مسلم ح118.
[2] الإفصاح 8/164.
[3] صحيح مسلم ح144.
[4] تاريخ مختصر لوسائل الإعلام الحديثة ص195.
[5] سنن ابن ماجه ح3959، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1682.
[6] صحيح مسلم ح1218.
[7] تفسير القرآن العظيم 4/186.
[8] الزهد الكبير للبيهقي ح954.
[9] صحيح البخاري ح4322، وصحيح مسلم ح1840.
[10] مجموع الفتاوى: 28/231.