ويُعدّ الإسلام دعوةً اجتماعيةً إنسانيةً عالميةً وتحوُّلًا حضاريًّا شاملًا، وذلك بما قدَّم من عقيدة شاملة مفصَّلة وواضحة، وبما قدم من نظام اجتماعي متكامل يهدف إلى سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة
الإدارة -كعِلْم وتطبيق- لا يمكن أن تنفصل عن المجتمع البشري، فأينما وُجِدَ هذا المجتمع فلا بد من نشوء وتطبيق الأفكار الإدارية فيما بين أفراده من ناحية، وفيما بين المجتمع ككل وما حوله من مجتمعات إنسانية من ناحية أخرى، ولذلك منذ أن وُجِدَ المجتمع البشري وُجِدَت الإدارة.
وفي الحقيقة، لم يكن عِلْم الإدارة قد تحدَّد وتخطَّط ووضحت معالمه بالصورة التي عليها اليوم، وذلك إبَّان القرون الماضية، ولكن ذلك لا يمنع من القول بأنه: ما من شعب من الشعوب مهما أغرق في القدم إلا كان لدى علمائه وفلاسفته -إذ إن الفلسفة والعِلْم لم يكونا منفصلين في العصور القديمة-، ولدى حكامه أيضًا مبادئ وتطبيقات إدارية نادوا بها أو قاموا بها.
إن المشكلات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية يُوجدها مجرد وجود مجتمع بشري، ولا بد لهذه المشكلات من أن تُحَلّ، ولذلك لا بد من وجود الأفكار والتطبيقات الإدارية تباعًا.
ويُعدّ الإسلام دعوةً اجتماعيةً إنسانيةً عالميةً وتحوُّلًا حضاريًّا شاملًا، وذلك بما قدَّم من عقيدة شاملة مفصَّلة وواضحة، وبما قدم من نظام اجتماعي متكامل يهدف إلى سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.
وفي المجتمع الإسلامي، ظهرت المشكلات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية، وكانت لها -ضمن أقوال وتطبيقات الصحابة والعلماء المسلمين المستمَدة من القرآن والسنة ومن اجتهاداتهم الخاصة- حلول واعية مستنيرة، وعلى الرغم من أن عناصر العملية الإدارية المتعارَف عليها في الإدارة الحديثة لم تكن معروفة في صدر الإسلام، وبالرغم من أن الإدارة لم تظهر كعِلْم مُحدَّد المعالم على يد المسلمين الأوائل؛ إلا أنه يمكننا القول بأنه من المستطاع أن يُستخلَص من أعمالهم وأقوالهم وكتاباتهم مبادئ ونظريات وأصول لعِلْم الإدارة.
ولئن كان لدراسة آراء علماء المسلمين الأوائل في المشكلات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية من أثر؛ فإن ذلك يُعدّ بمثابة فتح الباب أمام التعمق في تلك الأفكار التي يجب أن نسير على نهجها، وأن نرسي فوقها من هدي ديننا الحنيف ووحي مبادئه ما يكتمل به البناء راسخًا عاليًا متينًا.
ففي نطاق استشارة ذوي الخبرة فيما يُرَاد القيام به من الأعمال، ويظهر ذلك عادة في تخصيص فئات معينة من الرجال تضمّ كل منها مجموعة مختارة من الرجال الأكفاء الذين يتمتعون بخبرات عملية متميزة تؤهّلهم لهذا الاختبار، وذلك للأخذ بآرائهم نحو المشروعات التي يقترح تنفيذها والأعمال التي يُرَاد القيام بها؛ تُعدّ الشورى أساسًا من أسس الإدارة والحكم في الإسلام؛ إذ إنه لا يجوز لصاحب سلطة أن يستبدَّ برأيه، يقول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه فيما يَعِنّ له من الأمور التي لم ينزل فيها وحي، واقتدى به وسار على نهجه الخلفاء الراشدون، فكان عمر بن الخطاب يستشير أصحابه في جميع الشؤون السياسية والإدارية والمالية، حتى في اختيار ولاته على الأقاليم.
فقد قال يومًا لأصحابه: «أشيروا عليَّ ودلّوني على رجل أستعمله في أمرٍ قد دهمني، فقولوا ما عندكم؛ فإني أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه واحد منهم. فقالوا: نرى لهذه الصفة (الربيع بن زياد الحارثي)؛ فنشير على أمير المؤمنين به. فأحضَره وولَّاه؛ فوُفِّق الربيع في عمله، وقام فيه بما أربى على رجاء عمر، وزاد في عمله وحقَّق ما كان يُرْجَى منه من الكفاية والصلاح. وكان عمر يقول: «لا خير في أمرٍ أُبْرِمَ من غير مشورة».
مرآة الأفكار الإسلامية
إن وجداننا يهتزّ حتى اليوم لأفكار سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، هذه الأفكار التي ليست سوى مرآة للأفكار الإسلامية؛ فعامة تلك الأفكار التي نزلت على رسول الله آمِرَة أُمَّة الإسلام باتباع نهجها.
إن سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو القائل مُحدِّدًا شروط أو صفات المدير الناجح: «لا ينبغي أن يكون على إمامة المسلمين البخيلُ؛ فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهلُ فيُضِلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الخائفُ فيتخذ قومًا دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق».
وكذلك يتعين على الحاكم أو المدير في رأي سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يأخذ بمبدأ الكفاية وليست الأثرة والمحاباة معيارًا لاختيار من يتولوا المناصب، أو من يترقوا إلى المناصب العليا، كما يجب على المدير أيضًا أن يُفضِّل أهل التجربة والحياء والذين يتمتعون بالخصال الحميدة مثل الحِلْم عند الغضب والرأفة بالضعفاء والشدة على الأقوياء.
ومما جاء في الكتاب الذي كتبه إلى الأشتر النخعي -وهو ممَّا لم يُنفَّذ وبقي في حيِّز الأقوال؛ بسبب مقتل الأشتر قبل أن يبلغ مصر- قوله: «ثم انظر في أمور عُمّالك فاستعملهم اختبارًا، ولا تُولّهم محاباةً وأثرةً؛ فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام؛ فإنهم أكثر أخلاقًا، وأصحّ أعراضًا، وأقلّ في المطامع إشرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا».
وقد أدَّى بُعْد نظر سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى أن يدعو إلى تقسيم الأعمال وتوزيعها؛ مُدركًا أن هذا التقسيم وهذا التوزيع يؤديان إلى سرعة إنجاز الأعمال، وهو المبدأ الذي لم تعرفه المدنية إلا حديثًا؛ حيث قال: «واجعل لكل إنسان من خدمك عملًا تأخذه به؛ فإنه أحرى ألا يتواكلوا في خدمتك».
وقال أيضًا: «واعلم أن الرعية طبقات؛ لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غِنَى ببعضها عن بعض؛ فمنها جنود الله، ومنها كُتّاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عُمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة».
ويتعيَّن على الحاكم أو المدير أن يلجأ إلى الشورى كلما ظهرت له مشكلة تمسّ مصلحة الجماعة؛ لأن المشورة تفتح عيونه على خبايا المشكلة وأبعادها بشكلٍ يساعده على التوصل إلى القرار الملائم لحلها؛ فيقول: «لا صواب مع ترك المشورة».
كما يجب عدم استشارة الجبناء والبخلاء؛ لأنه يجمعهم سوء الظن بالله -تعالى-؛ فالبخيل لا يرى إلا مصلحته الخاصة والجبان منطلقه الخوف، وكثيرًا ما ردَّد سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الفكرة القائلة بأن استقرار المجتمع وبقاءه إنما يتوقف على تأييد الشعب أو الرعية، وهذا التأييد ينبع من رضى العامة، وذلك حتى يفوز الحاكم برقابة حازمة على شؤون الدولة أو المجتمع؛ فلا بد له من أن يكسب رضى وتأييد الرعية؛ لأن السلطة في رأيه ليست ردعًا وإكراهًا، وإنما تُعبِّر عن حقيقة شرعية؛ أي تلك السلطة التي يمتثل لها الأفراد بإرادتهم دون إلزام؛ أي: هي المستندة إلى أساس عريض من رضى الرعية.
وهذا يُعبِّر بوضوح عن مفهوم سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لنظرية تقبُّل السلطة، وهو أن السلطة تطفو من القاعدة إلى القمة، لا من القمة إلى القاعدة، وهو مفهوم يَعتبره كثير من أساتذة الفكر الإداري نابعًا من الأصل.
حلول عملية
تلك كانت آراء وحلول عملية للمشكلات الإدارية التي واجهت المسلمين الأوائل، ولكنَّها جاءت متداخلة ومختلطة إلى حد كبير بمبادئ علوم الاجتماع، ولكن كل عِلْم حينما يبدأ في الاستقلال بذاته عن العلوم الأخرى يكون له روّاده الذين يُرْسُون له قواعد محددة، ويَضَعُون له نظرياته، ويرسمون خطوطه، ويبني مَن يأتي بعدهم لبنة فوق لبنة حتى يرتفع البناء.
وعِلْم الإدارة كذلك كأيّ علم آخر له رُوّاده الأوائل الذين لهم هذا الفضل؛ فضل الريادة ووضع الأسس الأولى على الأرض المجهولة، وإذا كان يحلو للغربيين دائمًا أن يُحيطوا رُوّادهم بهالات برَّاقة من التمجيد والثناء والإطراء، ويعرضوا أفكارهم ويُشيدوا بنبوغهم على أساس أنهم المبتكرون وغيرهم المُقلّدون بهدف إخفاء فضل الغير من علماء الأمم الأخرى، هؤلاء الغربيون يرفعون دائمًا أسماء (توماس مور - وميكافيلي - وآدم سميث- وجون ستيوارت - وفرديك تايلور - وهنري فايول)؛ ليضعوها في المصافّ الأولى دون غيرهم باسم مَن بنوا عِلْم الإدارة وأقاموا صرحه، وإذا كنا لا ننكر على هؤلاء العلماء جهودهم؛ لأن العِلْم مِلْك للإنسانية جمعاء، بل هو قبل كل شيء لا يعرف الطائفية ولا التمييز، نحن نؤمن بكل ذلك، ولكنه لا يصح لنا أن نغفل ما قام به علماء المسلمين في هذا المجال.
أما بالنسبة لرواد عِلْم الإدارة المسلمين الذين كتبوا عن الإدارة واحتوت كتاباتهم على أفكار إدارية، والذين يصح أن تُؤخَذ أفكارهم واضحة كلبنة أولى وُضعت في هذا الصرح العظيم؛ صرح علم الإدارة؛ فهم كثيرون منهم (الفارابي- والماوردي).
إدارة الدولة (الفارابي 296-339هـ)
كتب الفارابي كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة: إدارة المملكة أو الدولة)، واضعًا أمام حاكم الدولة أو المدير توصيفًا للوظيفة فقال: «في الدولة المثالية يجب أن يتدرّج الحكام بحيث يأتمرون جميعًا بأمر الوالي أو الأمير في قمة التدرج، وينبغي أن يتحلى هذا الأمير رئيس الدولة المثالية أو صاحب الأرض كلها بخصال معينة؛ هي: الذكاء العظيم، والذاكرة الواعية، واللباقة، والحزم دون ضعف، وصدق العزم على إتيان الخير، وحُبّ العدل، والإقبال على العلم، وحب الصدق واجتناب الرذيلة، والاعتدال في الطعام والشراب والملذات وبغض الثراء».
ثم قال: «ولا بد أن تجتمع هذه الخصال في رجل واحد يُكلّف بتولي ما تعقَّد من أجهزة الدولة، أما إذا تعذَّر اجتماع هذه الخصال جميعًا في رجل واحد؛ فلا بد من التحقُّق مما إذا كان هناك رجلان أو ثلاثة رجال تتوافر لديهم مجتمعين الخصال المطلوبة، فإذا كانوا اثنين فلا بد أن يحكم كلاهما الدولة النموذجية، وإذا كانوا وجب عليهم أن يتولوا الحكم فإذا احتاج الأمر إلى أكبر وجب أن يُقلَّد هذ العدد الأكبر مقاليد الحكم».
صلاحية الإداري (الماوردي أبو الحسن البصري البغدادي)
اتصل بالأمراء والسلاطين، فكان هذا الاتصال مرشدًا له ومُوجِّهًا للدراسة الإسلامية التي تتعلق بنُظُم الحكم والإدارة والاقتصاد الإسلامي، وقارن بين نظام الحكم في عصره وبين ما يدعو إليه الإسلام؛ فكان كتابه (الأحكام السلطانية)، وكتاب (أدب الوزير وسياسة الملك)، ثمرةً لهذا الاتصال وهذه الدراسة.
ويرى الماوردي في كتابه «أدب الوزير» أن نجاح أيّ عمل إداريّ لا يتوقف على كثرة مَن يُعهَد إليهم بأدائه، بل يتوقف على الصلاحية لهذا الأداء؛ فيقول: «إن رجاء -أي: نجاح- الأعمال ليس بكثرة الأعوان، ولكن بصالحي الإخوان»، ويقول: «الوجه الذي يستقيم به تدبير الوزير في أمرهم -يقصد تدبير العمال والولاة على الأقاليم والأمصار- من قد عرف أن له من الرأي والقوة ما يحتاج إليه».
ويضع الماوردي أيدينا على مبدأ من أهم المبادئ في الإدارة الحديثة؛ هذا المبدأ هو تقدير احتياجات الأجهزة الإدارية من العاملين على اختلاف تخصصاتهم ومستوياتهم الوظيفية في ضوء التقدير العملي لحجم العمل في الجهاز الإداري ومعدلات الأداء؛ فيقول: «اقتصِرْ من الأعوان بحسب حاجتك إليهم، ولا تستكثر منهم لتستكثر بهم؛ فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو ارتفاق يتشاكل به العمل، ولْيكن أعوانك وفق عملك؛ فإنه أنظم للشمل، وأجمع للعمل، وأبعث على النصح».
ويؤكد الماوردي في كتابه «أدب الوزير» أيضًا على أهمية الشورى، ويحدّد الصفات أو الخصال التي يتعين توافرها فيمن يُستعان بخبرته ويُستضاء برأيه؛ فيقول: «شاوِرْ بأمورك مَن تثق منه بثلاث خصال: صواب الرأي، وخلوص النية، وكتمان السر. واحذر مِن استشارة المنافقين والمغرضين، واعدل عن إشارة مَن يقصد موافقتك متابعةً لهواك، أو اعتمد في لفتك انحرافًا عنك، وعَوِّل على مَن توخَّى الحق لك وعليك».
هكذا كان العلماء المسلمون في أقوالهم وكتاباتهم، وهكذا كان الحُكّام المسلمون أيضًا في تطبيقاتهم، فهذه هي بعض أفكارهم الإدارية، وإن كانت مختلطة إلى حد كبير بغيرها من الأفكار الاجتماعية؛ إلا أنها واضحة جلية، ليست هذه الأفكار هي كل ما قدَّمه هؤلاء العلماء المسلمون للفكر الإداري بقَدْر ما هي لمحة خاطفة وإشارة واجبة إلى علمهم وتنبيه إلى ما قدَّموا واعتراف بفضل ما فعَله الأولون.
فالفضل لا يُنْسَى، والفضل لا يُنْكَر، ووسيلة الاعتراف به ليس الحديث عنهم فحسب، ولكن إحياء تراثهم الفكري ومتابعة السير في طريقهم في ظل تعاليم الله، وتحت لواء الدين الإسلامي الحنيف.