• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
البابا بيوس العاشر.. مِسعَر الحرب العالمية

البابا بيوس العاشر.. مِسعَر الحرب العالمية

 

في مستهل القرن العشرين، كانت الكنيسة الأرثوذكسية قد ضربت أطنابها في منطقة البلقان، لا سيما صربيا. وبعد معاهدة بوخارست التي وُقّعت عام 1913م وانتهت بها حقبة من الصراع في دول البلقان، اتسعت رقعة صربيا وأصبحت عمقاً مهماً لأولئك الأرثوذكس، الذين كانوا خاضعين للنمسا الكاثوليكية. هنا اتفقت الفاتيكان وآل هابسبورغ في النمسا على أن صربيا هي العدو الذي ينبغي إسقاطه.

يقول جان برُوات: «كانت النمسا/ المجر القوة الكاثوليكية العظمى بلا منازع.. لقد وجد فرنسيس جوزيف، الذي اعتلى السلطة في أثناء ثورة 1848م، في الفاتيكان صديقاً متفهماً وحليفاً فاعلاً. لقد كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومية مصدراً جلياً للنظام والسياسة والحكومة في ملكية هابسبورغ. وكما يجزم موريس بيرنو (كان ثمة توافق مدهش بين سياسة فيينا وسياسة روما)»[1].

ليس هذا التعليل لاستهداف صربيا الأرثوذكسية مبالغة في التحليل العقدي لأحداث الحرب العالمية الأولى، فهو موثق في الأرشيف النمساوي. فقد جاء في تقرير حول خطابات الأمير شونبيرغ التي ألقاها في الفاتيكان بين أكتوبر ونوفمبر 1913م ما نصه:

«من بين المواضيع التي نوقشت أولاً مع الكاردينال وزير الخارجية (ميري دل ڤال) في الأسبوع الماضي، برزت مسألة صربيا كما كان متوقعاً. في البدء عبَّر الكاردينال عن سعادته الغامرة تجاه موقفنا الحازم والمواتي الذي اتخذناه في الأشهر الأخيرة. في أثناء لقائي ذلك اليوم بقداسته.. أبدى ملاحظات نوعية قائلاً: كان من الأفضل لو أن النمسا - المجر عاقبت الصرب على كل ما ارتكبوا من أخطاء»[2].

يعلق «بيير دومينيك» على الوضع قائلاً: «ماذا كان على آل هابسبورغ أن يصنعوا؟ كان عليهم أن يعاقبوا صربيا، الدولة الأرثوذكسية. لقد كان هذا سيزيد من هيبة النمسا - المجر، وهيبة آل هابسبورغ الذين كانوا – إلى جانب آل بوربون في إسبانيا – آخر أنصارٍ لليسوعيين، كما كان سيزيد على وجه الخصوص هيبة وريثهم وبطلهم «فرنسوا فرديناند». أما بالنسبة لروما، فقد أصبحت القضية ذات أهمية دينية؛ فانتصار الملكية الرسولية على القيصرية يمكن أن يعد انتصاراً لروما على الكنيسة الشرقية المنشقة»[3].

في الثامن والعشرين من يونيو عام 1914م، قُتل الأرشدوق النمساوي فرنسوا فرديناند في سراييفو. لم يكن القاتل «جاڤريلو برنسيب» ذا علاقة بالحكومة الصربية[4]، لكن مقتل الأرشدوق على الأراضي الصربية كان الذريعة المناسبة لأخذ موقف عدائي من صربيا الأرثوذكسية.

وبينما كانت دولة الصرب تتنازل للجانب النمساوي محاوِلة الحفاظ على السلام، أرسلت الحكومة النمساوية تهديداً إلى بلغراد. علق ممثل النمسا لدى الفاتيكان بقوله: «من المستحيل أن يأنس المرء روح المجاملة والمصالحة في كلمات قداسته [البابا]. صحيح أنه وَصف تهديد [النمسا] لصربيا بالعنيف، لكنه مع ذلك استحسنه تماماً، وفي الوقت ذاته وبشكل غير مباشر أعرب عن رغبته في أن تنجز الملكية [النمساوية] المهمة. وأضاف الكاردينال: من المؤسف حقاً أنه لم يتم إذلال صربيا من قبل، فقد كان بالإمكان صنع ذلك دون المخاطر العظيمة المترتبة. هذا الإعلان كان صدىً لرغبات البابا الذي طالما عبَّر على مدى الأعوام السابقة عن حسرته على إهمال النمسا - المجر «معاقبة» جارتها الخطرة الواقعة على نهر الدانوب»[5].

يعلق «الكونت سفورزا» على هذا التوجه العدائي من قبل الكنيسة بقوله:

«لأحد أن يسأل نفسه: لِمَ تتبنّى الكنيسة الكاثوليكية مثل هذا الموقف المولع بالحرب؟ والإجابة يسيرة جداً: إن البابا ورجاله يرون في صربيا داءً فتاكاً استطاع شيئاً فشيئاً أن يخترق إلى نخاع المَلكية، وسينتهي بدوره إلى تفكيكها.. إن النمسا/ المجر ستبقى الدولة الكاثوليكية بلا منازع، وسند الدين الأقوى الذي تبَقَّى للكنيسة. وبالنسبة للكنيسة، فإن سقوط هذا السند سيعني خسارةَ أقوى دعائمِها.. في ظل هذه الحقيقة، ليس من الصعب إيجاد علاقة بين المشاعر الرسولية وروح الحرب»[6].

وكتب «البارون ريتر»، الممثل البافاري للكرسي الرسولي، إلى حكومته قائلاً: «إن البابا يقر معاملة النمسا القاسية للصرب. إنه لا يأبه كثيراً لجيوش روسيا وفرنسا إذا ما قامت حرب ضد ألمانيا. الكاردينال وزير الخارجية لا يرى متى سيكون الوقت مناسباً للنمسا لتشن حرباً إذا لم تقرر شنها الآن»[7].

لقد كانت الفاتيكان تدرك تماماً حجم المغامرة التي تخوضها وما قد يترتب عليها من «مخاطر عظيمة»، لكنها مع ذلك بذلت كل ما في وسعها لإضرام نارها. إنها فرصة لاستعمال الذراع الألمانية ضد روسيا الأرثوذكسية، وفرنسا التي كانت بحاجة إلى «استنزاف تام»، ولا مانع من تأديب إنجلترا «المهرطقة». كل شيء كان يتجه لصالح الكنيسة الكاثوليكية[8].

ومع كل هذه الأدلة على أن الكنيسة الكاثوليكية هي من حرَّض على قيام الحرب العالمية الأولى، إلا أن البعض ينكر على الأقل سعيها لتوسيع دائرة الصراع، ويزعم أنها لم تكن تريد أن يتجاوز هذا الصراع حدود النمسا وصربيا. لكن «رينيه بازان»، الأديب الفرنسي الشهير، يخبرنا بحقيقة الأمر فيقول:

«لقد حكم بيوس العاشر الكنيسة من 4 أغسطس 1903م إلى 20 أغسطس 1914م. في الثاني من يونيو في ذلك العام بلغ الثمانين من عمره. كانت الحرب قد أزفت. لقد استشرف هذا الاضطراب في العالم، لقد قال أكثر من مرة للكاردينال «ميري دِل ڤال» – الذي كان يأتيه بالرسائل الدبلوماسية وغيرها من أوراق اليوم السابق – بينما كان يوضح خطورة قضية ما: وما عساها أن تكون مقارنة بما سيأتي؟ إن الحرب العظيمة قادمة، ولن ينقضي عام 1914م قبل أن تندلع. أما للوزير البرازيلي الذي كان يغادر مجلسه فقال بيوس العاشر: «أنت محظوظ! لن ترى الحرب العظيمة عن كثب». صدم الدبلوماسي من هذه العبارة، وكتب عنها إلى العديد من أصدقائه. وبعد أقل من ثلاثة أشهر، كانت خمس دول قد عبأت جيوشها، وألمانيا تغزو بلجيكا»[9].

لكن البابا بيوس العاشر لم يعش ليرى ثمرة ما سعى له. لقد هلك في بداية الصراع في العشرين من أغسطس عام 1914م. وقد طوَّبه فيما بعد البابا بيوس الثاني، وأبَّنه «تاريخ الكنيسة الوجيز» بقوله: «صنع بيوس العاشر كل ما في وسعه ليمنع اندلاع حرب 1914م، ومات كمداً لما استشرف المعاناة التي ستُطلقها»[10].. فانظر كيف يكتب المنتصر تاريخه!

 

:: مجلة البيان العدد  318 صفر 1435هـ، ديسمبر  2013م.


* من دراسة للكاتب بعنوان «الصراع الطائفي النصراني وأثره على الصراع الدولي».

  [1] Edmond Paris. The Vatican against Europe (London: The Wickliffe Press, 1961), p. 33.

[2]  Edmond Paris. The Secret History of the Jesuits, p. 165.

 [3] Pierre Dominique. La Politique des Jesuites (Paris: Grasset, 1955), pp. 245-250.

[4] كان «برنسيب» عضواً في جمعية سرية معارضة تدعى «الوحدة أو الموت» أو «اليد السوداء».

 [5] The Secret History of the Jesuits, p. 166.

 [6] Pierre Dominique. La Politique des Jesuites, p. 247.

 [7] The Vatican against Europe, p. 14.

[8] مرجع سابق.

 [9]  The Vatican against Europe, p. 46.

[10] مرجع سابق.

أعلى