فن الأسئلة عند الصحابة
هناك
قولان لصحابيَيْن جليلين يمثّلان منهجاً متكاملاً في فنِّ الأسئلة؛ ذلك أنَّهما
اشترطا «التّعقلَ» قبل السؤال وبعده!
فأوَّلُ هذين القولَيْنِ هو قول ابن عباسٍ – رضي الله
عنهما –: فعَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ أَصَبْتَ هَذَا
الْعِلْمَ؟ قَالَ: «بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ». أخرجه الإمام أحمد في
كتاب فضائل الصحابة 2/970.
إذن المدح في اجتماع هاتين الصفتين (لسانٍ سؤولٍ
وقلبٍ عقولٍ)، وبهما يُحَصِّل الإنسان علماً كثيراً، لكنْ إذا انفكَّ أحدهما عن
الآخر زالت صفةُ المدح، ونقص من علم الإنسان بقدر ما نقص منهما!
وفي قول ابن عباسٍ هذا ردٌّ على الفلاسفة والملحدين
الذين جعلوا إيراد الأسئلة في حدّ ذاته غايةً، فتراهم يحرصون على تكثير الأسئلة،
ولا يُجهدون أنفسهم بالبحث عن الجواب عنها!
فإذا وقع الجواب عن أسئلتهم، لم يتعقّلوا المعنى، بل
حاولوا أن يشتِّتوا الجواب، ويشاغبوا عليه، بأنْ يستنبتوا منه عشرات الأسئلة؛ حتى
تضيع قوّة الجواب وتماسكه!
والسببُ في ذلك: أنَّ قلوبَ هؤلاء الملحدين ليس فيها
أدنى مسكةٍ من عقلٍ حتى تستقرَّ فيه المعرفة، وليس فيها مثقالُ ذرَّةٍ من يقين حتى
تثبت عليه قدمُ العلم، فقلوبهم مليئةٌ بالشكِّ والحيرة والاضطراب والتناقض!
وأمَّا القول الآخر: فهو قولُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رضي الله عنه: (نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ # عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ
يُعْجِبُنَا أَنْ يَجيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ،
فَيَسْأَلَهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ...) أخرجه مسلم برقم (12) في كتاب الإيمان.
فتمنَّى أنسٌ رضي الله عنه أسئلةَ العقلاء؛ لأنَّهم
يسألون عمّا ينفعهم، وعمّا يحتاجون إليه، كما أنَّ العقلاء في العادة يسألون
عن الأشياء الدقيقة والعميقة، والتي هي فعلاً محلُّ استشكال!
وفي قول أنسٍ هذا ردٌّ على الملحدين والفلاسفة؛ لأنَّ
أسئلتهم لا يَسأل عنها العقلاء في العادة، فهي إمَّا أسئلةٌ بدهيَّة لا تحتاج إلى
إعمال العقل، أو أسئلةٌ عن كيفيَّة المُغيَّبات ممّا هو خارج عن طاقة العقل
البشري والواجب فيه الإيمان والتصديق!
فالبدهيةُ كأسئلتهم عن وجود الله ونحوه ممَّا هو
معلومٌ بالفطرة.. والأسئلة عن كيفيَّة المُغيَّبات، كسؤالهم عن كيفيَّات صفات
الله، وكيفيات اليوم الآخر، ونحوهما!
فأسئلتهم دون مستوى العقل أو فوق طاقته وقدرته!
::
مجلة البيان العدد 317 محرم 1435هـ،
نوفمبر 2013م.