من هم السُّمنية؟

من هم السُّمنية؟

 

إذا لم تكن من المهتمين بدراسة العقائد، فإن اسم «السُّمَنِية» قد لا يستدعي إلى ذهنك صورة معينة؛ لكنه يرتبط في أذهان دارسي العقيدة الإسلامية بمقالة الجهم بن صفوان، رأس الجهمية المعطلة، الذي نَجَمت بدعته في نهاية القرن الأول الهجري.

ذكر الإمام أحمد - رحمه الله - في كتابه «الرد على الزنادقة والجهمية»، أن الجهم لقي أناساً من المشركين يقال لهم «السمنية»، فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك. فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلهاً؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجساً؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يوماً، ثم انتهى إلى أن الله لا يُرى له وجه، ولا يُسمع له صوت، ولا تُشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان[1].

هذه الفرقة التي ناظرت الجهم وكان لها أثر في قيام بدعته أسماها أبو الريحان البيروني (الشُّمَنية) – مُعجمةً – في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة»، وذكر أن خراسان وفارس والعراق والموصل إلى حدود الشام كانت قديماً على دين هؤلاء حتى ظهور «زرادشت» الذي دعا إلى المجوسية، فلما انتشرت المجوسية على أيدي الملوك بعده في فارس والعراق انجلت السمنية إلى مشارق بلخ وبقي المجوس بأرض الهند[2] إلى أن فتح المسلمون آسيا الوسطى في القرن الأول الهجري/ الثامن الميلادي على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، وهي الحقبة التي عاش فيها الجهم بن صفوان ولقي فيها السمنية وناظرهم.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إن كانت السمنية من ديانات المشرق الشهيرة كما ذكر البيروني وغيره، فلِمَ لَم يشر إليها المؤرخون إلا لِماماً؟ والجواب عن هذا نجده عند ابن النديم، إذ يقول في «الفهرست»: «قرأت بخط رجل من أهل خراسان قد ألف أخبار خراسان في القديم وما آلت إليه في الحديث، وكان هذا الجزء يشبه الدستور، قال: نبي السمنية «بوداسف». وعلى هذا المذهب كان أكثر أهل ما وراء النهر قبل الإسلام وفي القديم»[3].

فهذا الذي ذكره ابن النديم يدل على ارتباط السمنية بالبوذية؛ فإن «بوداسف» ليس عَلَماً على رجل بعينه، وإنما هو تعريب لـ «بوديساتڤا» (Bodhisattva)، أي «الكائن المستنير» عند البوذيين، ويلقبون به من حصَّل درجة عليا من الرقي الروحي لكنه آثر ألا يبلغ منزلة «النيرفانا» أو الفناء ليظل ملازماً للفقراء[4]. وعليه؛ فإن اعتبار «بوداسف» نبياً هو إشارة صريحة إلى أن السمنية مرتبطة بالبوذية أو أنها هي. يؤكد هذا البيروني – وهو الخبير بهم –، إذ يصفهم في كتابه «الهند» بـ «أصحاب البُدّ». وكذا صاحب «البدء والتاريخ» حيث يقول: «وقرأت في كتاب المسالك أن السمنية فرقتان: فرقة تزعم أن البُدَّ كان نبياً مرسلاً، وفرقة تزعم أن البُدّ هو البارئ»[5]. وكلمة الـ (بُدّ) إنما هي تعريب لاسم «بوذا» الذي تنسب إليه البوذية.

وبناء على ما ذُكر يمكن القول بأن من صنف في هذا الباب من علماء المسلمين اعتبروا السمنية مرادفةً للبوذية، إلا أنهم ذكروها باسمها أحياناً، وباسم «أصحاب البد» أو «سَدَنة البد» أو «عباد البد» ونحوها أحياناً أخرى، وهذا الأخير كثير في كتب التراث الإسلامي، من ذلك ما ذكره ابن الأثير في «الكامل» من أن محمد بن القاسم لما غزا بلاد السند ودخل «مُلتان» نزل أهلها على حكمه «فقتل المقاتلة وسبى الذرية وسدنة البد، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهباً كثيراً... وكان بُدُّ الملتان تهدى إليه الأموال ويُحَج من البلاد ويَحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده...»[6].

والتحقيق أن «السمنية» أو «الشمنية» ليست هي البوذية بعينها، وإنما هي الرهبنة الأولى التي قامت على مبادئها البوذية، وقد ظهرت في الألفية الأولى قبل الميلاد[7]، وقد كان لها أثر على بعض عقائد الهندوسية والجينية، لا سيما عقيدتي التناسخ والكارما. وتعرف هذه الرهبنة في اللغة الباليَّة[8] بـ (سامانا)، وفي السنسكريتية بـ (شرامانا)؛ ولذا انتقلت إلى العربية باسم السُّمَنية أو الشُّمَنية مهملةً ومعجمة.

وقد نسبها البعض إلى بلدة «سومنات»[9]. والصواب أن (سامانا) أو (شرامانا) تعني الناسك أو الزاهد، مشتقة من (ش ر م) بمعنى «اجتهد في التنسك». ولعل هذا الارتباط الوثيق بين هذه الرهبنة وبين البوذية هو ما جعل البيروني يصف أتباعها بـ «أصحاب البُدّ».

ووفقاً لـ «الموسوعة الهندوسية المصورة»، فإن الرهبنة السُّمنية سلكت منهجاً حراً في التعبد والتنسك لا يلتزم بطقوس ولا نصوص، وهو ما أثار عليهم الكهنة البراهميين حتى أصبح الخلاف بينهم مضرباً للمثل في الأدب الهندي[10].

أما عقيدتهم فقد أوجزها البغدادي بقوله: «فأصحاب التناسخ من السُّمنية قالوا بقدم العالم، وقالوا أيضاً بإبطال النظر والاستدلال، وزعموا أنه لا معلوم إلا من جهة الحواس الخمس، وأنكر أكثرهم المعاد والبعث بعد الموت، وقال فريق منهم بتناسخ الأرواح في الصور المختلفة، وأجازوا أن تُنقل روح الإنسان إلى كلب وروح الكلب إلى إنسان... وزعموا أن من أذنب في قالب ناله العقاب على ذلك الذنب في قالب آخر، وكذلك القول في الثواب عندهم»[11].

فهم كمن خَلَفهم من البوذيين لا يؤمنون بإله خالقٍ، ولا يقبلون الكتب المقدسة كالـ «فيدا»، بل يعتقدون عقائد باطنية من أشهرها الكارما وتناسخ الأرواح.

والراجح عندي – والله أعلم – أنهم لم ينكروا وجود إلهٍ خالقٍ، بل أنكروا أن تكون له صفات، فجعلوه وجوداً مطلقاً في الأذهان لا حقيقة له في الخارج؛ ولأجل هذا امتَحنوا الجهمَ بقولهم: هل رأيت إلهك؟ هل سمعت كلامه؟ هل شممت له رائحة؟ هل وجدت له حساً أو مجساً؟ فما يدريك أنه إله؟ فصار الجهم إلى ما صاروا إليه من التعطيل، وضل بضلاله الكثير، والله المستعان.

خلاصة القول: إن السمنية رهبنة بوذية نجمت قبل ميلاد المسيح - عليه السلام -، أو أنها أصل البوذية، وبذا يكون الباحث في العقيدة الإسلامية قد وضع يديه على أصل التعطيل، وأن ثمة علاقة قديمة وثيقة بين أهل البدع ممن ينتسبون إلى الإسلام وبين البوذية. ولا تزال البوذية تصدِّر لأهل الإسلام عقائدها باسم الكارما وقانون الجذب واليوجا وغيرها. فحريّ بطلاب العلم أن يتجهوا لدراسة البوذية بأقسامها دراسة عميقة، ولو استدعى الأمر دراسة اللغات الأصلية (كالباليَّة) التي دونت بها عقائدها، فهي تغزو أهل الإسلام بفكرها، ويُقتِّل أتباعُها – بل كهنتُها – في بورما أهلَ الإسلام في مذابح بشعة سَخْطةً لدينهم، فبذْلُ الجهد في كشف حقيقة هؤلاء وصدِّ باطلهم أولى من صرفه إلى ما قد يكون من تحصيل الحاصل[12].


:: مجلة البيان العدد 315 ذو القعدة 1434هـ، سبتمبر – أكتوبر  2013م.


[1] أحمد بن حنبل، الرد على الزنادقة والجهمية، (القاهرة: المطبعة السلفية، 1393 هـ)، ص 19.

[2] أبو الريحان البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة، (بيروت: عالم الكتب، 2011م)، ص 19.

[3] ابن النديم، الفهرست، (بيروت: دار المعرفة، 1978م)، ص 484.

 [4] The Wordsworth Dictionary of Beliefs & Religions (Wordsworth Editions Ltd, 1995), p. 71.

[5] مطهر بن طاهر المقدسي، البدء والتاريخ، (المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني)، 1/193.

[6] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، (المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني)، 2/334.

 [7]  James G. Lochtefeld, The Illustrated Encyclopedia of Hinduism (The Rosen Publishing Group, 2002), vol. II, p. 639.

[8] اللغة البالية هي لغة قديمة كتب بها كثير من النصوص البوذية المقدسة.

[9] عضد الدين الإيجي، المواقف، (بيروت: دار الجيل، 1997م)، 1/130.

 [10] The Illustrated Encyclopedia of Hinduism, vol. II, p. 639.

[11] عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق (بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1977)، 1/253.

[12] لا أعلم بحثاً علمياً مؤصلاً تناول البوذية من منظور إسلامي إلا كتاب الدكتور عبد الله مصطفى نومسوك «البوذية: تاريخها وعقائدها وعلاقة الصوفية بها».

أعلى