المصلحة بين الشرع والهوى
الحمد
لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد
أقام الله - سبحانه - من الشريعة فرقاناً بين الشبهات والشهوات من جهة، وبين
المصالح الفطرية المعتبرة من جهة أخرى، وجعل شريعته الخاتمة عدلاً في جميع
أحكامها، وقال عن مصدرها الأول: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
صِدْقًا وَعَدْلًا}
[الأنعام: 115]، وامتن على أمته بإرسال الرحمة المهداة
للبشرية كما وصفها الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107].
وقد
أجمع العلماء على أن أحكام الشريعة الإسلامية مشتملة على مصالح العباد، سواء أكانت
ضرورية أم حاجية أم تحسينية، وقال الإمام الشاطبي في الموافقات: «المعلوم من
الشريعة أنها شُرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة،
أو لهما معاً». وإن تزاحمت المصالح قُدّم أهمها وأجلها، وإن فات أدناها، وإن
تزاحمت المفاسد عُطل أعظمها فساداً باحتمال أدناها، كما قرر ذلك الإمام ابن القيم.
والمصلحة
ضد المفسدة، وهي المنفعة أو وسيلتها، والمراد بالمصالح والمفاسد: ما كانت كذلك في
حكم الشرع، لا ما كانت ملائمة لطبع أو نازلة عند رغبة حكومة أو مقتصرة على تحقيق
فائدة لتيار أو جماعة، أو عكس ذلك من المنافرة والمضادة.
وتقدير
المنفعة والمضرة ليس مقصوراً على الحياة الدنيا، فهذا أمر تدركه البهائم أحياناً،
وإنما الشأن في جمع أمر الدنيا والآخرة ليستبين الضار من النافع! وطريق الاهتداء
إلى تمييز النافع من الضار هو الرسالة المحمدية وليس التقديرات الشخصية المنبتة عن
الهدي الرباني، يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: «المصالح المجتلبة شرعاً،
والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من
حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية».
وقد
حددت الشريعة المصالح في خمسة مقاصد، هي بالترتيب: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل
والمال.. فحفظ الدين من باب العبادات، وحفظ النفس والعقل من باب العاديات، وحفظ
النسل والمال من باب المعاملات. والمراد بالحفظ مراعاتها وجوداً وعدماً، وذلك
بتشريع ما يوجدها ويقيمها ويكملها، أو بتشريع ما يكفل بقاءها واستمرارها، ويدرأ
عنها ما يفوتها أو ينقص منها، ويحميها من أي اعتداء أو ضرر.
وتنقسم
المصالح عند الشارع الحكيم إلى ثلاثة أقسام، هي:
المصالح
المعتبرة التي ورد الدليل الشرعي باعتبارها ورتب عليها الأحكام.
المصالح
الملغاة التي دل الدليل الشرعي على إلغائها وعدم اعتبارها في الأحكام.
المصالح
المرسلة التي أرسلت أي تركت بلا دليل على اعتبارها أو إلغائها، فهي محل اجتهاد،
يستنبط الراسخون في العلم أحكامها من خلال مقاصد الشريعة وقواعدها، كالقياس
والاستحسان والاستصلاح.
والمصالح
في الشرع منضبطة ومحدودة وواضحة ومرتبة، وبما أن مصدَري الشريعة هما كتاب الله
وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فيلزم أن تنتهي إليهما كل مصلحة وحكم، وما كان
منها متجافياً عن طريق الكتاب والسنة فهو دخيل على شريعة رب العالمين وإن ذكرت فيه
المصلحة بعدد نجوم السماء.
وللمصالح
ضوابط يجب ألا تخل بها، وإلا كان في اعتبارها مصالح شرعية نظر كبير، وهذه الضوابط
هي:
عدم
مخالفتها مقاصد الشارع؛ فلا تخالف أصلاً من أصوله، ولا تنافي دليلاً من أدلة
أحكامه.
عدم
مخالفتها القرآن الكريم.
عدم
مخالفتها السنة النبوية الشريفة.
عدم
مخالفتها الإجماع والقياس الصحيح.
عدم
تفويتها مصلحة مساوية لها أو راجحة عليها.
أن
يكون الأخذ بها لحفظ ضروري، أو لرفع حرج، وأن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية، عامة
لا خاصة.
وهذه
الضوابط تحمي - بعد توفيق الله - من الانسياق مع شهوات النفس أو الانزلاق في وحل
الهوى ومفاتن الدنيا وأصحاب السلطان.
وقد
تسلل من باب المصالح فئام من المفسدين وذوي النوايا المريبة لتمرير ما يخالف دين
الله إلى حياة المسلمين ومجتمعاتهم، وجهدوا لإجبار الأمة على قبول كل ما يعرض لها
من شبهات الحضارات وشهواتها، وعَبَثَ الأفّاكون بوعي الناس ودينهم حين جمعوا برباط
غير شرعي بين رعاية الإسلام للمصالح وبين ما يعدونه - بأهوائهم - مصالح، واستولدوا
من هذا الارتباط نتائج آثمة لا يرتضيها ذو فطرة سليمة بله عالم بالشريعة ومقاصدها.
وإن
صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان لا يعني تغييرها حسب تغيّر الأوضاع لتناسبها، إذ
الأصل تنزيل الواقع وفق المقتضيات الشرعية قدر الإمكان، كما أن تغير الفتوى مرتبط
بالأعراف ولا مساس له بتغيير الأحكام وقلب المصالح أو المفاسد. ومن مكامن الخطأ
إحالة تقدير المفسدة والمصلحة إلى أهواء الناس وأمزجتهم، والاتكاء على نتائج خبرات
أهل الاختصاص الذين لا بصر لهم بالشريعة وأدلتها وأحكامها ومقاصدها، وإن كانوا
الأبرع في الطب والاقتصاد والسياسة وغيرها.
إن
قلة الفقه، ورقة الدين، واتباع الهوى، والإعجاب بالنفس، والاسترسال مع المصالح
المرسلة دون خطام أو زمام؛ يقود إلى تمييع دين الله والعبث بمسلّماته وثوابته، ولا
يستقيم بحال أن تكون المصالح حجة لتعطيل الحكم بالشريعة، ولا يقبل أبداً أن يحتج
بالمصلحة لنقض العهود الغليظة، ولا يسوغ البتة أن تتخذ المصالح مطية لسفك الدماء
المعصومة أو الحيلولة بين الناس وبين حرياتهم المقررة شرعاً.
والشريعة - كما يقول ابن تيمية - لا يمكن أن تهمل مصلحة
قط، وقد أكمل الله لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وتركنا النبي - صلى الله عليه
وسلم - على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. وقد
أخرجنا الله بهذه الشريعة السمحة من ضيق اتباع الهوى، وصيرنا له عباداً بالاختيار
كما نحن عباد له بالاضطرار، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن
هدانا الله.
:: مجلة البيان العدد
315 ذو القعدة 1434هـ، سبتمبر – أكتوبر 2013م.