هامان بين التوراة والقرآن
الحمد لله،
والصلاة والسلام على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أما بعد:
فإن مما امتنَّ الله به على
نبيه صلى الله عليه وسلم ما أطلعه عليه من أخبار
الرسل - عليهم السلام، فقال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا وَلَكِن
رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن
قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
[القصص: ٦٤]
وقال
تعالى: {وَكُلًّا
نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْـحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:
120].
ومن أعجب ما قصَّ القرآن
العظيم ما كان من أمر موسى
- عليه
السلام - ودعوته لفرعون وقومه، فهي
إلى ما فيها من مواعظ وعبر تَذْكُرُ من حقائق التاريخ ما لم يتكشَّف للباحثين إلا
في القرن العشرين؛ من ذلك تفريق القرآن الكريم بين لقبي (الملك)
في
زمن يوسف - عليه السلام - ولقب
(فرعون) في زمن موسى - عليه السلام، فإن ملوك مصر في زمن يوسف - عليه السلام - كانوا من الهكسوس لا المصريين، وكانوا يلقّبون بالملوك، بخلاف زمن موسى - عليه السلام.. ومن ذلك تفاصيل نهاية فرعون، وقصة التيه، ودخول بيت المقدس، وغيرها.
ورغم دقة القرآن الكريم في
وصف رسالة موسى - عليه السلام - وما كان من أمره مع فرعون، إلا أن بعض المستشرقين من
اليهود والنصارى لما وجدوا بعض ما جاء في قصة موسى - عليه السلام - في القرآن الكريم مخالفاً لما عندهم، جعلوا ما عندهم أصلاً وعدّوا ما سواه
باطلاً، وما علموا أنهم إنما تعلقوا بقشة في مهب الريح.
ومن أشهر ما اعترض به
المستشرقون على قصة موسى
- عليه
السلام - في القرآن الكريم، دعواهم أن «هامان»
لم
يكن معاصراً لفرعون، بل لم يكن من قوم فرعون أصلاً؛ وإنما كان وزيراً في البلاط الفارسي
في عهد الملك أحَشْوِيرُوش، كما ينص على ذلك سفر أستير التوراتي. وأول من قال بهذه الدعوى – وفقاً لما بين أيدينا من كتابات – الإسباني
«بيدرو
دي لا كاباليريا» عام 1450م تقريباً[1]..
يقول
هذا اليهودي المتنصِّر في كتابه
«حماس
المسيح ضد اليهود والسراسنة
[المسلمين] والكفار»:
"هذا المجنون [يعني محمداً صلى الله عليه
وسلم] يجعل (هامان) معاصراً لفرعون... وهو كما ترى من الكذب والجهل كما سيصرح بذلك كل من له
دراية بالكتب المقدسة. أمَّا هو [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه فليخرسوا كالبهائم"[2].
وبغض
النظر عن سباب هذا الجهول سيرى القارئ في خاتمة المقال من الأجدر أن يخرس كالبهيمة!
بيد أن هذه الدعوى ليست مما
استقل به «كاباليريا»، فإننا نجد المستشرق الإيطالي الشهير «لودوفيكو مراتشي» يجترُّها قائلاً:
"لقد خلط محمد قصصاً مقدسة. فقد اعتبر هامان مستشاراً لفرعون بينما كان في الحقيقة
مستشاراً لأحشويروش، ملك فارس، وكذلك ظن أن فرعون أمَر أن يُبنى له صرحٌ، نقلاً عن
قصة برج بابل"[3].
وقد سار في ركاب هذين
المستشرقين «نولدِكَه» و«مِنغانا» وغيرهما ممن طاروا بها فرحاً وظنوا أنهم وجدوا مفارقة
تاريخية في كلام رب البرية الذي خلق فرعون وهامان وهو بهما أعلم.
والرد على هذه الدعوى من
وجهين؛ الوجه الأول: أن قصة «هامان»، وزير الملك الفارسي، لا
تثبت تاريخياً بشهادة علماء التوراة، فكيف تكون أصلاً؟.. يقول أستاذ الدراسات اليهودية بجامعة هارفرد «جون ليفينسون»:
"إن الإشكالات التاريخية في [سفر]
أستير
كبيرة جداً إلى حدٍّ يُقنع كلَّ من لم يؤمن بتاريخية الرواية التوراتية بدافع عقدي
أن يشك في صحة تلك الرواية"[4].
بل إن «الموسوعة اليهودية» لا تتردد في الحكم على سفر أستير بقولها: "قلة من العلماء المعاصرين ذوي الشأن يعدون رواية
أستير قائمة على أساس تاريخي...
إن جمهور
الشراح المعاصرين توصلوا إلى أن السِّفر قطعة من الخيال المحض"[5].
فكيف يستدل الحالمون على
دعواهم ضد كتاب الله عزّ وجل بهذا الخيال المحض؟
الوجه الآخر: أن الآثار الفرعونية تشهد أن كبير كهنة الإله «آمون»
أو «آمان»
- كما
في أحد النصوص البابلية المعاصرة لزمن فرعون[6]
– كان
القائم بأعمال فرعون، وكان مشرفاً على بناء الصروح لسيده. يقول كبير كهنة «آمون»
عن
نفسه:
"لقد كانت لي أيادٍ بيضاء في
أملاك «آمون» حين كنت رئيس الأعمال لسيدي. فقد صنعت له هيكل رعمسيس [الثاني]...
عند
البوابة العليا لهيكل آمون.
جعلت
له فيها مسلاتٍ من الصوان، بلغت السماء حسناً"[7].
وتأمّل قول الله عز وجل: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْـمَلأُ مَا عَلِمْتُ
لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل
لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ
الْكَاذِبِينَ} [القصص:
38]، وقوله تعالى: {وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ 36 أَسْبَابَ
السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا
وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلَّا فِي تَبَابٍ}
[غافر:36-37].
فهامان لم يكن وزيراً للملك
الفارسي (أحشويرش) كما يدَّعي سفر أستير، بل كان كبير الكهنة في بلاط فرعون
مصر (رعمسيس الثاني).
وأما سبب تسميته «هامان»
فقد
بحثه الأستاذ محمود رؤوف أبو سعدة بحثاً وافياً في كتابه القيّم «من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن». وخلاصة ما ذهب إليه أنه اسم مزجي من المصرية القديمة يدل
على منصب كبير كهنة آمون:
(ها + آمان)؛ علماً أن صيغة (آمان)
هي
الواردة في النص البابلي للمعاهدة التي أبرمت عام 1280 ق.
م بين
خاتوسيلاس ملك الحيثيين ورعمسيس الثاني فرعون مصر. ومعنى
(ها + آمان):
النافذ
إلى [الإله] آمون، أو المدلف إلى [الإله]
آمون[8]، أي أنه حاجب الإله آمون، وهو وصف لائق بكبير الكهنة.
فتبيَّنَ أن حجة المستشرقين
داحضة، وأن البهيمة حقاً هو المستهزئ «كاباليريا» ومن ادَّعى دعواه.. وقد قال تعالى عن مثله: {وَإذَا رَأَوْكَ إن يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا
أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا 41 إن كَادَ
لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا 42 أَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا 43 أَمْ تَحْسَبُ
أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالأَنْعَامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 41-44].
:: مجلة البيان العدد
313 رمضان 1434هـ، يوليو – أغسطس 2013م.
[1]
Abdullah
David & M S
M Saifullah. “Biblical
Haman » Qur’ānic Hāmān: A
Case of
Straightforward Literary
Transition?” at (www.Islamic-awareness.org).
[2] A. Reland (Trans. Anon)، «Treating Of
Several Things
Fasley Charg’d
Upon The
Mahometans» in Four Treatises
Concerning The
Doctrine، Discipline And
Worship Of
The Mahometans (J. Darby، 1712)، p. 82.
[3] L. Marraccio، Alcorani Textus
Universus (Patavii، Italy: Ex Typographia
Seminarii، 1698)، p. 526.
[4] J. D. Levenson، Esther: A Commentary (SCM
Press Limited، 1997)، p. 23.
[5] The Jewish
Encyclopaedia (London & New York: Funk & Wagnalls
Company، 1905)، vol. V، pp. 235-236.
[6] نبيلة محمد
عبد الحليم، معالم التاريخ الحضاري والسياسي في مصر الفرعونية، ص 69-87. كما في:
محمود رؤوف أبو سعدة، من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن.
[7] K. A. Kitchen، Ramesside Inscriptions، Translated & Annotated (Oxford، Blackwell
Publishers، 2000)، vol. III، pp. 214.
[8] محمود رؤوف
أبو سعدة، من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن (الميمان للنشر والتوزيع، 1432 هـ)،
الجزء الثاني، ص 71 - 72.