• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ملامح من منهج الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس و أثرها في تشييد الوحدة المغاربية

ملامح من منهج الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس و أثرها في تشييد الوحدة المغاربية

مقدمة:
إننا ونحن نُحْيِي الكلام عن شيخ الحصانة الحضارية والثقافية للأمة العربية الإسلامية الجزائرية، وإمام التحضير للإصلاح والتغيير، نَصْبُو إلى مساهمة في إعادة تشكيل واقعنا الثقافي ووعينا الحضاري؛ ذلك أن آنية التفكير في حالنا ومآلنا بحاجة ماسة إلى منهجية متجددة، تتشرب من مناهل الأصل الباديسي في المراجعة، والتفاكر، والتشاور، والفحص، والاختبار، وإعادة المعايرة بقيم الدين الإسلامي الحنيف من مصدريه الأساسيين: كتاب الله وسُنة رسول الله #، والإفادة من التجارب الإيجابية من الأمم السابقة، وإعادة النظر في تلك التي تسللت إلينا، فصيرتنا غرباء عن واقعنا، منسلخين عن هويتنا، ومتنكرين لأصالتنا.

لقد بات من المسلَّم به أنَّ التغيير لن ينالنا إلا إذا تمكَّن مفكرونا، كلٌّ من موقعه، سواء كان ذلك من موقع المسؤوليات القيادية والتوجيهية للأمة، أو من مواقع التفكير عبر الكتابة أو التدريس أو البحث والتنقيب، أو من مواقع طلب العلم بمدرجات جامعـاتنا، إلا إذا تمكنوا من تطبيـق منهـج كشفٍ يرتقي إلى تعرية الأسباب التي أورثتـنا هذا الواقع الذي غابت فيه مراجعة مناهجنا، وانعدم فيه فحص واختبار أفكارنا، ووسائل تفعيلها، فصرنا عاجزين متخاذلين، مستسلمين لهذا الواقع البئيس، الذي يميت الفاعلية، ويعطل التطلع صوب المستقبل.

إن التغيير لن يتحصل ما لم نتعرف إلى قدراتنا وإمكاناتنا، وما لم نضعها في موضع التفكير الإستراتيجي في مناهج التعليم عندنا؛ لاستشراف المستقبل، واستقراء الماضي، والتوغل في العمق التاريخي، واستيعاب التجارب، واكتشاف علل التحضُّر، وجوانب القوة والنهوض، وأسباب الضعف والسقوط، وتحديدِ السنن الاجتماعية الفاعلة في الحياة والأحياء، والإحاطة بالقضايا المطروحة، وتحليل جوانبها المتعددة، وقوانينها، والنظرِ في نتائج هذا الماضي، المتمثلة في الحاضر بكل معاناته، ومحاولةِ وضع هذا الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة الشعب الجزائري، وشعوب المغرب العربي في تواصلها الثقافي والحضاري، وارتباطها بالعالم العربي الإسلامي؛ قَصْد بناء خطة مستقبلية ناجعة لهذه الشعوب؛ بحيث تكون واضحة الأهداف المرحلية والإستراتيجية، ودراسةِ الاحتمالات والتداعيات الممكنة؛ لأخذها بالاعتبار والاستعداد لها، والتعرف إلى الأولويات، واعتماد سُنة التدرج وعنصرِ الزمن كوعاءِ حركةٍ وقيمةِ إنجازٍ في الوقت نفسه، والتعاملِ مع المتاح، وعدم خلط الأهداف بالوسائل، والإمكانات بالأمنيات، والحماس بالاختصاص، والإحساس بالإدراك، وتجنُّب عثرات دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير المتزمتة والمغلَقة، والملغية للآخر المماثل، والتخلص من حالة الانطفاء الثقافي، الذي يبعثر القدرة، ويعطل الإرادة.

ترشيد التعليم ومنهجيته في توحيد المغرب العربي:

يعود احتكاك عبد الحميد بن باديس بالمدارس الفكرية والطرق التعليمية المغاربية إلى رحلاته لطلب العلم، وخاصة رحلاته التأسيسة إلى جامع الزيتونة بتونس كطالب، وكمبتدئ في ممارسة التدريس؛ إذ لَـمَّا أحس أنه استوعب كثيراً مما جاد به أستاذه الشيخ الونيسي، وعلم من عزم هذا الأخير على الهجرة، كان عليه أن يُواصل الطلب والتحصيل، وخاصة لما وجد عند والده تشجيعاً للارتحال إلى تونس، وهو ما كان بالفعل؛ لتتبُّع ينابيع العلم والمعرفة، فأخذ هناك العلم من عظماء الزيتونة وفطاحلها، والذين كان لهم بالغ الأثر في تكوينه الفكري واتجاهه الإصلاحي، ولعل هذا ما كوَّن عنده لبِنَة التوجُّه بالإصلاح نحو المجتمع المغاربي، ونحن نذكر هنا تأثير مشايخه على بِنيَة تفكيره الإصلاحي، فنذكر منهم:

 - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: الذي لازمه قرابة ثلاث سنوات، فأخذ عنه الأدب العربي وديوان الحماسة، يقول ابن باديس عن ذلك: «وإن أنسى فلا أنسى دروساً قرأتها من ديوان الحماسة لأبي تمَّام على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه؛ فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب، وبثت فيَّ روحاً جديدة في فهم المنظوم والمنثور، وأحيت مني الشعور بعزِّ العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام».

- الشيخ محمد النخلي القيرواني: استقى ابن باديس الحكمة من بحر الخير الذي كان يتدفق من صدر هذا الشيخ، أستاذ التفسير في جامع الزيتونة. يقول عنه ابن باديس: «كنت متبرِّماً بأساليب المفسرين، وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله، فذاكرتُ يوماً الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط، ويبقى الصحيح، وتستريح؛ فواالله! لقد فتح الله بهذه الكلمات القليلة لذهني آفاقاً واسعة لا عهد له بها». ويقــول عنه أيضاً: «ولا أكتمكم أني أخذت شهادتي في جامع الزيتونة في العشرين من عمري، وأنا لا أعرف القرآن أنه كتاب حياة، وكتاب نهضة، وكتاب مدنية وعُمران، وكتاب هداية للسعادتين؛ لأنني ما سمعتُ ذلك من شيوخي، عليهم الرحمة ولهم الكرامة، وإنما بدأت أسمع هذا يوم جلست إلى العلامة الأستاذ محمد النخلي».

- الشيخ البشير صفر: يعتبر هذا العلاَّمة من أبرز علماء تونس، ومن القلائل الذين جمعوا بين التعليم العربي الإسلامي والتعليم الغربي الأوروبي، مع إتقانه لعدة لغات حية.

اشتغل الأستاذ بشير صفر بالتدريس في جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية، وكان - لسعة اطلاعه وتنوع ثقافته - يُعدُّ من أشهر أساتذة التاريخ العربي والإسلامي فيها. يقول عنه ابن باديس: «وأنا شخصياً أصرِّح بأن كراريس البشير صفــر، صغيرة الحجم، غزيرة العلم، هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي، والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جندياً من جنود الجزائر».

 هؤلاء هم أهمُّ الأساتذة الذين تلقَّى عليهم الشيخ ابن باديس العلوم العربية والإسلامية في جامع الزيتونة، وظل يأخذ عنهم، حتى استوفى الكثير مما عندهم من العلوم الإسلامية، طيلة أربع سنوات، إلى أن أجازوه للتدريس، فمكث بعد تخرُّجه سنة أخرى للتدريس في جامع الزيتونة المعمور، وكانت تلك عادة متَّبعة في كثير من الجامعات الإسلامية.

 عاد ابن باديس سنة 1912م إلى الجزائر، وكلُّه عزم على بعث نهضة علميَّة جديدة يكون أساسها الهداية القرآنية والهدي المحمَّدي، والتفكير الصحيح؛ فانتصب يُحْيِي دروس العلم بدروسه الحية في الجامع الكبير بقسنطينة، عائداً بالأمة المحرومة إلى رياض القرآن، وأنهاره العذبة المتدفقة، وأنواره الواضحة المشرقة. لكنه كان يحمل همّاً أعمق، وألماً مكيناً لما كانت عليه بلدان المغرب الكبير من تخلُّف؛ لذلك فإنَّا لَـمَّا نستحضر الجهود التي بذلها الشيخ ابن باديس في مجال إصلاح المناهج التربوية، ندرك بوضوح شمولَ نظرته، وصدقَ إحساسه بمواضع الداء. وهو إذ يصبُّ جُلَّ جهوده نحو ترشيد التعليم في الجزائر، فهو يسعى كذلك إلى إصلاحه في غيرها من المدارس والمعاهد، ولا أدلَّ على ذلك من اهتمامه الـمُلِحِّ بإصلاح التعليم في جامع الزيتونة. هذا الجامع الذي يعبِّر عن كلية دينية يتخرَّج منها رجال القضاء والفتوى، ورجال الإمامة والخطابة ورجال التعليم. ولعل هذه اللفتة هي أول مساهماته في بناء منهج الإصلاح التغييري في بلدان المغرب العربي.

 يتضح لنا من خلال مقالات ابن باديس العديدة حول حالة التعليم في جامع الزيتونة، مدى التدهور الذي كان يعانيه ذلك القِطاع في مناهجه ووسائله، وفي هذا يقول: «قد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة، ونحن لم ندرس آيةً واحدةً من كتاب الله، ولم يكن عندنا أيُّ شوق أو أدنى رغبة في ذلك، ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوماً منزلة القرآن مِنْ تعلُّــم الدين والتفقـه فيــه، ولا منزلة السُّنة النبوية من ذلك، هذا في جامع الزيتونـة، فـدع عنك الحديث عن غيـــره مما هو دونه بمديد المراحل».

إن ما جعل البرامج في هذا الجامع قاصرة عن أداء رسالتها، هو عدم اتزانها؛ فكثُر جمودها وقلَّت فائدتها. ومن المعروف عند أهل العلم، أن العلوم منها ما هي مقصودة بالذات: كالتفسير والحديث والفقه، وأخرى آلية (وسيلة لتلك العلوم): كالعربية والحساب والمنطق. يقول عبد الحميد ابن باديس: «فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل؛ فإن ذلك يزيد طالبها تمكُّناً في ملكته، وإيضاحاً لمعانيها المقصودة... أما العلوم التي هي آلة لغيرها... فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط». غير أن الواقع في جامع الزيتونة، هو التوسع في العلوم الآلية، والإفراط في ذلك إلى درجة الابتعاد عن الغرض منها، وإعاقة تحصيل العلوم المقصودة لذاتها؛ فيخرج الطالب ولم يحصل من ذلك على شيء.

يصف لنا ابن باديس استفحال ذلك الانحراف قائلاً: «وفي جامع الزيتونة - عمَّره الله تعالى - إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس التفسير - ويا للمصيبة - يقع في خصومات لفظية... في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قَبْل، فيقضي في خصومة من الخصومــات أياماً وشهــوراً، فتنتهـي السنة، وهـو لا يــزال حيث ابتــدأ أو ما تجاوزه إلا قليلاً، دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير، وإنما قضى سَنَته في المماحكات، بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات، كأن التفسير إنما يُقرَأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية؛ فهذا هجر آخر للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن».

 بهذا المنهج النقدي ومنافعه ووجوبه في الدعوات الإصلاحية بيَّن ابن باديس أن طُرُقَ التدريس المنتهَجة في جامع الزيتونة ليست وسيلةً تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية كما يتصوره؛ إنما تكوِّن ثقافة لفظية يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سِنِيِّ الدراسة. ويذكر ابن باديس، أن الطالب كان يُفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، وإنما يغرق في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد، التي كان يظن الطالب أنه فرغ منها، ويتخرج الطالب دون أن يعرف عن حقيقة التفسير شيئاً، وذلك بدعوى أنهم يطبقون القواعد على الآيات، كأنما التفسير يُدرَس من أجل تطبيق القواعد لا من أجل فهم الشرائع والأحكام، وهذا يعتبره الشيخ ابن باديس هجراً للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم يخدمون القرآن؛ لذلك كان ابن باديس يرى أن هذا يتعارض مع الهدف التربوي الإصلاحي، الذي يتمثل في إرجاع ضمير الإنسان المسلم إلى الحقيقة القرآنية، كأنه أُنزِل على قلبه، واتصاله به من جديد اتصالاً حياً دافعاً للعمل.

إنَّ هذه الأمور وغيرها مما يحدث في جامع الزيتونة، جعلت ابن باديس يتقدم باقتراح شامل لإصلاح البرامج فيه، إيماناً منه بأن هذه الكلية الدينية التي يقصدها الطلبة من كل أنحاء بلدان المغرب العربي، وغيرها من الأمصار، هي منبع الامتلاء بضرورة الإصلاح والتغيير، وهي منبع توحيد المناهج، والوسائلُ لمعالِجة ما أصاب شعوب الأمة من تقهقر وتفتت في طرق ووسائل العلاج؛ لهذا نعتبر أن إسهاماته المباشِرة في تأسيس حركة إصلاحية مغاربية إنما بدأت منذ أن بعث بمقترحاته إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكَّلها حاكم تونس سنة 1931م.

لقد تضمن اقتراح ابن باديس خلاصة آرائه في التربية والتعليم؛ فشمل المواد التي يجب أن يدرسها الملتحق بالجامع: من اللغة والأدب، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والحديث، والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ الطبيعة والفلَك، والهندسة، وجعل الدراسة في الزيتونة تجري على مرحلتين:

الأولى: مرحلة المشاركة: أو ما يسمى في بعض الجامعات بالقسم العام أو الجـذع المشترك؛ حيث يتساوى فيه المتعلمون في المعلومـات، علـى اختـلاف مقاصـدهم، وأن لا تقل مدة الدراسة في هذا القسم عن ثماني سنوات، يتعلم خلالها الطلبة:

1 - فنون اللغة العربية، وتاريخ الأدب العربي.

2 -العقائد الإسلامية: على أن تؤخذ من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

3  -الفقه: بحيث يُقتصَر فيه على تقرير المسائل دون تشعباتها.

4 - تفسير القرآن العظيم: من تفسير الجلالين.

5 -الحديث النبوي: بدراسة مختارات من كتب السُّنة.

6 - التربية الأخلاقية: من الآيات والأحاديث وآثار السلف الصالح.

7 - الحساب والجغرافيا ومبادئ الطبيعة والفلك والهندسة.

الثانية: مرحلة التخصص: لـمَّا كان المتخرِّجون من الجامعة الزيتونية على ثلاثة أصناف حسبما يتصدَّرون إليه بعد تخرُّجـهم، رأى ابن باديس أن يفرِّع قسم التخصص إلى ثلاثة فروع، هي:

1 - فرعٌ للتخصص في القضاء والإفتاء: على أن لا تقل مدة الدراسة فيه عن أربع سنوات، يدرس خلالها الطلبة ما يلي:

- يُتوَسَّع لهم في فقه المذهب، ثم في الفقه العام، ويكون كتاب (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها.

- دراسة آيات وأحاديث الأحكام، ودراسة علم التوثيق، والتوسع في علم الفرائض والحساب، ويطلعون على مدارك المذاهب؛ حتى يكونوا فقهاء إسلاميين، ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة، لا من عين المذهب الضيقة.

 2 - فرع للتخصص في الخطابة والإمامة: تكون مدة الدراسة فيه سنتين، يتوسَّع الطلبة خلالها في صناعة الإنشاء، والاطلاع على أنواع الخطب، مع دراسة آيات المواعظ والآداب وأحاديثهما، ويتوسعون في السيرة النبوية ونشر الدعوة الإسلامية، ويتمرَّنون على إلقاء الخطب الارتجالية.

3 - فرع للتخصص في التعليم، تكون مدة الدراسة فيه سنتين، يتوسع الطلبة خلالها في العلوم التي يريدون التصدي لتعليمها، وتمرينهم على التعليم بالفعل، مع التركيز على دراسة كتب فنِّ التعليم.

إضافة إلى كلِّ هذه المقترحات التي تدخل في صميم البناء الترشيدي للعمل الإصلاحي الذي يتولاه خريجو هذا الجامع المعمور في سائر بلدانهم، وعلى الأخص منهم العائدون إلى بلدان المغرب العربي، ويرى ابن باديس «أن المعلمين في قسم الاشتراك يكونون من الحائزين على شهادة التخصص في التعليم، وكذلك المعلمون في فرع التخصص للتعليم، وأما المعلمون في فرع القضاء والفتوى فلا بد أن يكونوا ممن تخصصوا فيهما وتخصصوا في التعليم، وكذلك المعلمون في فرع الخطابة».

إنَّ هذا يبيِّن لنا أن ابن باديس أدرك أهمية المعلِّم في إنجاح العملية التربوية، التي هي برنامج إستراتيجي للتحضير لما يستوجبه الإصلاح من تغيير، وأن إصلاح المناهج يفتقد أهميته إذا لم يتوفر (المدرِّس المصلِح الكفء)؛ لذلك نراه قد ركَّز على أمرين هامَّين فيه:

1 - أن يكون (المعلم المصلح) متمكناً من العلوم والفنون التي يتصدر لتدريسها، مستوعباً لتفاصيلها وفروعها.

- أن يكون (المعلم المصلح) ملمّاً بمبادئ فن التعليم، حتى يتمكن من التأثير في طلبته ومعاملتهم بحسب ما يلائمهم في الجوانب المعرفية والسلوكية؛ ذلك أن أهم ما يحتاج إليه المعلم هو - كما يقول ابن باديس -: «معرفة أساليب التفهيم، وفهم نفسية المتعلمين، وحُسْن التنزُّل لهم، والأخذ بأفهامهم إلى حيث يريد بهم، حسب درجتهم واستعدادهم».

حضور علماء المغرب في نظرية الإصلاح الباديسية:

إذا ما سلَّمنا بأن البناء الحضاري هو نتيجة مشتركة بين الأخذ والعطاء، وأنَّ التأثير لا يكون الاَّ بالتأثر، فإننا نجد هذا في مَنْ تأثَّر بهم الشيخ عبد الحميد بن باديس في حياته العلمية ودعوته الإصلاحية في البناء المغاربي؛ فنحن نجد حضوراً متميزاً لأعلام المدرسة الأندلسية المغربية، وذلك في ما قرأ لهم ابن باديـس من كتبهم قراءة تمحيص وتحقيق، وهي كثيرة في فنون مختلفة: من الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب، وكانت جلُّ هذه الكتب تشكِّل الزاد العلمي والثقافي لتلاميذ المدرسة الباديسية، ومِن هؤلاء الأئمة: القاضي عياض، والقاضي أبو بكر بن العربي، والإمـام أبـو عــمـر بن عبد البر.

أما العلامة القاضـي عياض، فقد اختـار الشيـخ عبد الحميد بن باديس كتـابه (الشفا)؛ لتدريسه لطلبتـه في المسجد الكبير بقسنطينة سنة 1913م، وأما الإمام أبو بكر بن العربي فيقول عنه ابن باديـس: «إنه خزانة العلم وقطب المغرب»، وقد حقق له مخطوطَ كتاب العواصم من القواصم، وقدَّم له بمقدمة طويلة لما طبعه سنة 1928م في جزأين بمطابع الشهاب بقسنطينة. وأهم ما يتميز به هذا التحقيق تلك الرسالة التي وضعها ابن باديس في الجزء الأول، والتي قرظها أكابر علماء المغرب العربي من الشيخ النخلي والطـاهر بن عاشـور وغيرهمـا من تونـس، إلى الشـيخ العابد بن أحمد بن سودة، ومعاوية التميمي وغيرهما من المغرب، مروراً بالشيخ ابن الموهوب القسنطيني، والشيخ شعيب بن علي التلمساني من الجزائر.

لقد تأثر الإمام ابن باديس بأفكار ابن العربي وبالإمــام أبي عمر بن عبد البر القرطبي، فأخذ عنهما الكثير من فيض علمهم، وخاصة فيما انتهجاه في إصلاح طرق التدريس، التي كانت سائدة في عصرهما بالأندلس، وهو المنهج نفسه الذي اتَّبعه ابن باديس في مقاومة روح التقليد والجمود الفكري الذي واجه دعوته الإصلاحية في الجزائر، وبذلك تكون أسس ومبادئ الدعوة الإصلاحية التغييرية عند ابن باديس جزائرية الروح ومغاربية المحتوى.

 لعلَّنا نخلص في آخر مقالنا هذا عن إسهامات الفكر الباديسي في البناء الوحدوي المغاربي إلى أنَّ ابن باديس إنما وضع برامجه التربوية من أجل إعداد المتعلمين لحياة تلائم البيئة التي يعيشون فيها، أخذاً في الاعتبار ما ينبغي أن يحدث من تغيير في المجتمع، لاسترجاع الحرية والكرامة المسلوبتين لدى شعوب المغرب العربي، مع ما يمكن أن يلاحَظ من تفاوت بينها في درجات الأساليب الاستعمارية الفرنسية في الهيمنة والاستدمار، والتحقير والاستغلال؛ لذلك نجد ابن باديس يبيِّن الهدف التربوي الذي يسعى لتحقيقه بأنه: «الرجوع ( بهذه الشعوب) إلى عقائد الإسلام المبنيَّة على العلم، وفضائله المبنيَّة على القوة والرحمة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان، ونُظُمه المبنية على التعاون بين الأفراد والجماعات، والتآلف والتعامل والتعاون، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله، ومن اتقى الله فهو أنفع الخلق لعباد الله».

يرمي المنهج الإصلاحي التغييري عند ابن باديس إذن إلى تكوين المواطن المغاربي المؤمن المتميز عن المستعمر المغتصِب في جميع جوانب حياته، وربط الأجيال المغاربية الصاعدة بالتراث والحضارة العربيـة الإسلاميـة، وهــو ما يسميه بعض العلماء بوظيفة نقــل التــراث أو إحيـاء التـــراث؛ لذلك يؤكـــد ابن باديس أن هدفه التربوي الإصلاحي هو ترقيــــة المجتمـــع الجزائري، والمجتمع المغاربي في جميـــع نواحــي الحيـاة إلى أقصـى ما تترقى إليه الأمم؛ ليكـونوا محترمين من أنفسهم ومن غيرهم؛ يفيدون ويسـتفيدون، ويعرفون كيف يسوسون وكيف يُسَاسـون، فتربح بهم الإنسانية عضواً مِن خيرِ مَن عَـرَفَتْ من أعضـائها؛ فإذا ما تحقـــق لهذه الشعوب الاستعـــداد الداخلـي للتغييـــر، أو بعبــــارة مالك بن نبي: «التخلــص من القـابليـة للاستعمار»، مصـداقاً لقــول اللــه - تعـالى -: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١] أمكنها الرقي في جميع جـوانب الحياة، وذلك بتزويد المتعلمين بالقدر المناسب من المعلومات والخبرات المختلفة، فيساهموا في بناء صرح الأمة وخدمتها والدفاع عنها.

خاتمة:

لقد عاش الشيخ عبد الحميد بن باديس للفكرة والمبدأ، ومات وهو يهتف:

فإذا هلكتُ فصيحتي

تحيا الجزائرُ والعربْ

فلم يَحِد عن فكرته ومبدئه قيد أنملة حتى آخر رمق من حياته، إنه ابن باديس الذي عرفته الجزائر والمغرب العربي والعالم العربي الإسلامي عالماً عاملاً، وفقيهاً مجتهداً، ومربِّياً مخلصاً، ومصلحاً وحدوياً، وسياسياً يبحث عمَّا يجعل شعوب المغرب العربي تقود ذاتها، وتخطط برامجها، وتضع عهودها، وإماماً يقضي بياض نهاره وسواد ليله في خدمة دينه ولغته وبلاده الجزائر، مع شعورٍ حاضرٍ بما لبلدان المغرب العربي من حق عليه.

هذا هو الرجل الذي كان قلبَ الجزائر النابض، وروحها الوثابة، وضميرها اليقظ، وفكرها المتبصر، ولسانها المبين، لم يضعف أمام هجمات الاستعمار المتتالية ولم يستسلم لمناوراته وتهـديداته، ولا للإغراءات والمساومات، بل بقي ثابتاً علـى مبادئه صامداً حتـى آخـر حيـاته.‏ ولعل أصـدق ما قيل فيه كلمة الشيخ العربي التبسي: «لقد كان الشيخ عبد الحميد هو الجزائر؛ فلتجاهد الجزائر الآن أن تكون هي الشيخ باديس».

وإذا ما قال قائل: لماذا لم تصلِ الجزائر إلى أن تكون الشيخ ابن باديس، فذلك يعود في تقديرنا إلى شيوع التعصُّب، والانغلاق على الذات وعن الآخر، وحماية الضعف والعجز والتخاذل، وهو ما سمح بوصول بعض الناس من غير المؤهلين إلى مواقع القيادة، فجعلوا مهمة الحفاظ على استمرارهم هو هدفهم الأسمى، بعيداً عن الامتحان والاختبار؛ فكان ذلك أهمَّ سبب في تكريس الخطأ ومطاردة ومحاصرة أي توجه نقدي أو إصلاحي.

 ولعل خير ما نختم به هذا المقال قولةٌ لابن باديس جاء فيها:

«أتمنى لإخواننا في كل ناحية أن يشتغلوا بما يهم وينفع، ويُعلِي ويرفع، ويُعِرضوا عن سفاسف الأمور، وبسائط المسائل؛ فدينهم دين العلم والمدنية، لا دين الجمود والهمجية وعصرهم عصر جد وفصل، لا عصر لعب وهزل، والمتخلف عن القافلة هو - بلا شك - عرضة للأتعاب وطُعمَة للذئاب».

أعلى