حقيقة الموقف الأمريكي من الثورة السورية
توقّف كثيرون عند ماهيّة الاجتماع الذي عُقد بين وزير
الخارجيّة الأمريكي جون كيري أثناء زيارته العاصمة الروسيّة موسكو، وبين الرئيس
الروسي فلاديمير بوتين، بحضور وزير الخارجية سيرجي لافروف. وقد خرج كيري من هذا
اللقاء بموقف قريب من الموقف الروسي وحرص على أن يظهر ذلك بشكل واضح في تصريحاته،
ومنها "إننا نشاطر الروسي وجهة النظر تجاه سورية"، و"كلانا يريد أن
تستقر الأمور في سورية وأن تكون خالية من الراديكاليّة ومن المشاكل التي من شأنها
أن تؤثّر على المنطقة برمّتها"، و"كلانا وقّع اتفاق جينيف حول سورية،
وهذا يعني أنّه توجد أرضيّة مشتركة".
وكانت نتيجة هذا الاجتماع أن أعلن الطرفان اتفاقهما على
حثّ الحكومة السورية ومجموعات المعارضة على إيجاد حل سياسي للصراع، كما اتّفق
الطرفان على ضرورة عقد اجتماع دولي في أقرب وقت ممكن (كان المتوقع نهاية شهر 5)
للبناء على مخرجات اجتماع جينيف بين القوى الكبرى حول الأزمة السوريّة، والذي تم
في شهر 6 من العام 2012 بحضور كوفي أنان آنذاك.
وقد تباينت تقييمات المحللين إزاء الخطوة واللهجة
الأمريكية فيما يتعلّق بالثورة السورية، فالذين كانوا يعتبرون أنّ الولايات
المتّحدة تدعم الثورة السورية (ومن بين هؤلاء أبواق المعسكر الطائفي الذي يعمل تحت
يافطة الممانعة ويضم كلاً من إيران والنظام السوري وحزب الله وحكومة المالكي ومن
تبعهم)؛ رأوا في هذا الاجتماع تراجعاً في الموقف الأمريكي. أما أولئك الذين
يعتقدون لا يعتبرون أنّ الولايات المتّحدة تدعم حقيقة الثورة السورية، فقد فسروا
الأمر على أنّه جاء ليقطع الطريق على التقدّم الذي حققه الثوار المسلّحون على
الأرض.
العناصر المؤثرة في القرار الأمريكي من سورية
والحقيقة أنّ فهم الموقف الأمريكي من الثورة السورية إنما
يقتضي منّا الوقوف على ثلاثة عناصر نعتقد أنّ لها الوزن الأكبر في دفع الموقف
الأمريكي إلى الأمام أو إلى الخلف، وهي:
أولاً: الدروس والعبر من غزو أفغانستان والعراق:
تلعب الخسائر الجسيمة التي مُنيت بها الولايات المتّحدة
أثناء غزوها أفغانستان والعراق، دوراً كبيراً في التأثير على القرار الأمريكي إزاء
أي خطوة من شأنها أن تفسّر على أنها استعداد لتدخّل محتمل في سورية أو على أنها
التزام بتدخل. إذ يعتقد الكثير من صنّاع القرار الأمريكي أن قرار التدخّل الأمريكي
في أفغانستان والعراق كان قراراً خاطئاً تم بناءً على معلومات خاطئة، وأنّ
الولايات المتّحدة دفعت ثمناً باهظاً بسبب هذا التدخل، سياسياً واقتصادياً
وعسكرياً وأمنياً، وأنّ كل تدخل عسكري هو قرار خاطئ بالضرورة، وتنسجم هذه النتيجة
أيضاً مع توجهات أوباما الشخصيّة منذ مجيئه إلى البيت الأبيض وسياساته القاضية
بعدم الدخول في مغامرات عسكرية خارج البلاد، إضافة إلى تقليص النفقات الدفاعيّة
وانتهاج سياسة الحوار والتفاهم مع الأعضاء الفاعلين في المجتمع الدولي وتسليم جزء
كبير من الأعباء الإقليميّة إلى الدول الإقليمية الفاعلة والقويّة والقادرة على تحمّل
هذه الأعباء بدلاً عن الولايات المتّحدة.
ثانياً: الموقف الإسرائيلي:
غني عن القول أنّ للموقف الإسرائيلي من القضايا الإقليمية
وزناً كبيراً داخل أروقة صنع القرار في الولايات المتّحدة الأمريكية، والتيار
العام لدى الإسرائيليين، لا سيما تلك المرتبطة بالاستخبارات العسكرية والأمن
القومي والجيش، باستثناء بعض الشخصيات المعدودة على عدد أصابع اليد الواحدة هم في
غالبيتهم الساحقة مع بقاء نظام بشّار الأسد كضامن تاريخي لمصالح إسرائيل، وإن كان
ولا بد أنّ يشهد الثوار تقدماً عليه، فيجب عدم دعم الثوّار عسكرياً أو ماليّاً، بل
تقييد كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تقويتهم في النهاية، فإن صمد الثوار في وجه الدعم
المقدّم إلى الأسد من قبل إيران وحزب الله يدخل الطرفان في معادلة استنزاف وتضعف
سورية ويتم تدمير الدولة من قبل الأسد وعصاباته وندخل سيناريو تقسيم سورية، وهو
سيناريو جيد بالنسبة لإسرائيل في ظل محيط مكوّن من كانتونات طائفية صغيرة غير
قادرة على مواجهتها، بل يشرعن وجود دولة يهودية أيضاً في ظل وجود دويلات لأقليات
أخرى؛ وإن خسر الثوّار يكون الأسد قد بقي في الحكم لكنه سيكون أضعف وهو جيد في
جميع الأحوال أيضاً لإسرائيل.
ثالثاً: ما يسمى "الجماعات الراديكاليّة" في التعريف
الأمريكي:
الخوف مما يسمى في التعريف الأمريكي "جماعات
راديكالية" أو من "الإرهابيين" عامل مهم أيضاً في التأثير على صنع
القرار الأمريكي. ورغم أنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما انتهج سياسة مغايرة عن
سلفه بوش الابن في التعامل مع هذه المسألة، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ هذا الموضوع
سقط من الحسابات الأمريكية، إذ لا تزال الحساسيّة منه عالية جداً وهو قد يؤثر في
اتخاذ أو عدم اتخاذ أي قرار في حال تبيّن أنّ لهذا العنصر أو العامل أي علاقة
بالعملية التي يتم البحث فيها.
والواقع أنّ هناك ازدياداً في نسبة تظهير الجانب الديني
لدى المقاتلين في سورية، جزء كبير منهم بشكل طبيعي بالفطرة وبما يعكس حقيقة الشعب
السوري، وجزء آخر مفتعل ومصطنع لأغراض متعددة، وقد تمّ استغلال هذا الموضوع من قبل
أطراف كُثر، سواء من قبل إسرائيل ومن قبل النظام السوري وحلفائه في حزب الله
وإيران وحكومة المالكي؛ للتحريض على الثورة السورية والثوّار ودفع القوى الدوليّة،
ومن بينها عناصر فاعلة داخل الولايات المتّحدة، للتشكيك بطبيعة هذه الثورة وهدفها
النهائي، وهو ما أثّر بطبيعة الحال في تلقّي هذه الثورة الدعم المفترض أن تتلقّاه،
كما ساهمت العديد من الأخطاء التي تنتسب إلى التيار الإسلامي من بين المقاتلين في
تعزيز هذه الصورة.
تقييم العناصر في ميزان اتخاذ القرار الأمريكي من الحالة
السورية
ويختلف تأثير هذه العناصر في عملية اتخاذ القرار من سورية
باختلاف موقعها في هذه العملية:
العنصر الأول:
يدفع العنصر الأول الأمريكيين إلى الابتعاد عن كل ما من
شأنه أن يؤدي بهم إلى تدخل عسكري بأي شكل من الأشكال أو تحت أي عنوان كان، فهم
يقارنون أي نوع من أنواع التدخل بما حصل معهم في العراق، بغض النظر عن التفاصيل
المختلفة تماماً، وبالتالي يصبح موقفهم بعدم التدخل موازياً في نتائجه وانعكاساته
السلبية لموقفهم بالتدخل في أفغانستان والعراق، فسورية تتدمر لأنهم لا يتدخلون،
ومعنى التدخل هنا ليس بالضرورة إرسال قوات عسكرية إلى سورية، وإنما في حدّه الأدنى
منع روسيا وإيران من مساعدة الأسد وجعل الثوار في مواجهة النظام من دون أن يدعم أي
طرف الآخر، والثوار كفيلون حينها بالإطاحة به.
كما أنّ موضوع التدخل لا يعني استجداء الخارج، وإنما يحمل
واجباً أخلاقياً وقانونياً بحكم القوانين الدولية التي تمنع أن يقوم جزار بما يقوم
به من مجازر إبادة جماعية وتطهير طائفي والعالم كله يتفرج دون أن يحرّك ساكناً.
الولايات المتّحدة التي قالت سابقاً إنّ استخدام الأسد
للسلاح الكيماوي يعتبر خطاً أحمر وأنّها سترد على الفور حال تجاوز هذا الخط، تبيّن
أنّ هذا التحذير كما غيره من التحذيرات مجرّد كلام، بل الأنكى من ذلك أخذ البعض
يبحث عن ذرائع لتبرير الاستخدام، فبعضهم قال إنّ القرار باستخدام الكيماوي ربما
صدر عن قيادات مركزية أخرى غير الأسد، أو ربما أنّ الاستخدام لم يكن مقصوداً وأنّه
جاء نتيجة نقل هذه الأسلحة حفاظاً عليها! بل ذهب العديد من الجهات داخل الولايات
المتحدة وحتى بعض الجهات الأمميّة، إلى القول بأنّ المعارضة هي من استخدم هذه
الأسلحة! كل هذا من أجل التهرّب من الالتزام بما قطعوه على أنفسهم بالرد على
الأسد.
العنصر الثاني:
أدَّت هذه المعادلة أيضاً إلى التأثير على الموقف
الأمريكي، وغني عن القول مدى تمسّك النظام الإسرائيلي ببقاء الأسد في السلطة، وهي
أكثر من أن تحصى، لكن آخرها نشر بشكل مفتوح وعلني في "الفورين أفّيرز"
تحت عنوان "رجل إسرائيل في دمشق.. لماذا لا تريد إسرائيل الإطاحة بالنظام
السوري؟"، وكتبه رئيس الموساد السابق "أفرايم هاليفي". أمّا
الضربات التي كانت توجّه من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي داخل سورية، فإنه لم
يكن يستهدف الأسد نفسه أو مواطن قوته، وإنما يستهدف منع انتقال الأسلحة
الاستراتيجية لأي طرف ثان بغض النظر عمّن هو، سواء كان الثوّار أو غيرهم، كما
يستهدف تدمير مقوّمات الدولة السورية نفسها (وهو ما يفعله للمفارقة الأسد نفسه
أيضاً وحلفاؤه)، حتى يكون أي نظام قادم مكان الأسد في موقع الضعيف.
العنصر الثالث:
أدّت هذه النقطة إلى الضغط على الولايات المتّحدة وكبح أي
إمكانية لدعم الثوّار، بل إنّه وفي كثير من الأحيان قامت واشنطن وتل أبيب بالكشف
عن كثير من شحنات الأسلحة القادمة إلى الثوّار وإيقافها أو مصادرتها كما حصل في لبنان،
ناهيك عن قيام واشنطن بالضغط الكبير خلال مرحلة طويلة من مراحل الثورة السورية على
كل من قطر والسعودية لإيقاف أي نوع من أنواع التسليح للثوّار، بل طرحت سيناريوهات
في بعض الأحيان حول إمكانية استخدام طائرات من دون طيار أمريكية لاستهداف
المقاتلين من الثوّار، أو حتى دعم بعض الجماعات للدخول في قتال ضد جماعات أخرى.
وكل ما قيل خلاف ذلك من حديث حول مساعدات ودعم عسكري ومالي
وإغاثي، هو مجرّد دعاية أمريكية للقول بأنهم يؤدّون واجبهم، فحتى على مستوى
المساعدات الأمريكية الإنسانيّة لموضوع اللاجئين فقط (دع عنك المقاتلين)، فقد كانت
هزيلة للغاية؛ إذ بلغ مجموع كل المساعدات الأمريكية بمختلف أنواعها نحو 400 مليون
دولار، أي أقل حتى من نصف ما تلقاه نظام الأسد من النظام الإيراني في شهر واحد فقط
هو شهر يناير من عام 2013.
هكذا وفي مقابل تجاوز الأسد لكل
خط أحمر دون أن يتم الرد عليه بشكل حاسم ورادع، تحوّلت الخطوط الحمر إلى ضوء أخضر
في حقيقة الأمر للمضي قدماً في تدمير سورية وقتل السوريين كما يشير الواقع حتى
الآن، وعليه؛ فإن أي تدخل أمريكي محتمل في أي مرحلة إنما يعتمد على المصلحة
الأمريكية المبتغاة من ذلك في ضوء المعطيات المذكورة أعلاه.
:: مجلة البيان العدد
312 شعبان 1434هـ، يونيو - يوليو 2013م.
::
"البيان" تنشر ملف شامل ومواكب لأحداث الثورة السورية