الانتساب لأهل السنة وتقليل النزاع
طاف اثنان من الخوارج
بالبيت الحرام، فقال أحدهما لصاحبه: جنة عرضها كعرض السماء والأرض لا يدخلها غيري
وغيرك؟! فقال الآخر: نعم. فقال الأول: هي لك! وترك رأيه[1].
مسألة الانتساب لأهل
السنة والجماعة كسائر المسائل التي تجاذبها إفراط وتفريط، فهناك من حجّر واسعاً،
وحصر أهل السنة في اتباعه، وقصرهم على أصحابه، كما قال ابن تيمية: "كثير من
الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية
له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين؛ فإن أهل
الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن
الهوى"[2].
وفي المقابل نجد أقواماً
لا يميّزون بين أهل السنة وأهل القبلة، ويلحقون أهل البدع والأهواء بأهل السنة
والجماعة.
ومما يقلل الاختلاف
الجاثم بين طوائف من المتسنّنة: التذكير بضرورة الاجتماع والائتلاف، والنهي عن
الفرقة والاختلاف، وأن ذلك لا يتحقق إلا بلزوم السنة ظاهراً وباطناً، والاعتصام
بنصوص الوحيين، فسبب الاجتماع والألفة: العمل بالدين كله، وسبب الفرقة: ترك حظّ
مما أُمر العبدُ به، ومتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة
والبغضاء، كما قال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
[المائدة: 14]. كل من كان عن السنة أبعد، كان التنازع والاختلاف في مقولاتهم أعظم[3].
فلن تجد اتفاقاً
واجتماعاً إلا بأخذ الدين كله، والدخول في السلم كافة، عكس ما يتوهمه بعضهم من أن
الاجتماع لا يحصل إلا بالتخلّي عما يجب التمسّك به، والتنازل عما يتعيّن الاعتصام
به من أصول وقواعد لأجل مجاملات وتراجعات، أو مصالح موهومة.
وهذا يؤكد ضرورة التفقّه
في دين الله، والرسوخ في العلم، والتمييز بين ما كان معلوماً من الدين بالضرورة
فلا تصح مخالفته، ولا تصلح معارضته؛ وما كان محل اجتهاد تسع مخالفته، ويثاب مخطئه؛
فهناك أصول كبيرة قد هوّن من شأنها بعض متسننة العصر - مثل: الحكم بما أنزل الله
وما يناقضه - لأجل جهل مشوب بهوى، وردود أفعال، ويقابل ذلك: مسائل اجتهادية فروعية
اختلف فيها العلماء قديماً، ولم يتفرّقوا ولم يبدّعوا.. لكنها صارت الآن محل تهويل
وتبديع وتضليل لدى بعض المنتسبين للسنة.
ثم إن أهل السنة هم من
فهم النصوص الشرعية ظاهراً وباطناً، وحقق الاتباع لنصوص الوحيين ظاهراً وباطناً[4].
فالعناية بإصلاح السرائر،
والقيام بتزكية النفوس وفق الهدي النبوي، والتخفف من الأهواء والحظوظ، وضبط
الشهوات وإلجامها؛ لهو أعظم سبيل في إصلاح ذات البين بين طوائف أهل السنة، فإن
الناظر إلى أهل السنة في الوقت الراهن قد يلحظ علماً بالشريعة، ودراية بالأحكام
الظاهرة، واتفاقاً في مصادر التلقي والاستدلال.. لكن النفرة قائمة والشحناء
قائمة.. وإنما ذاك لأجل شهوات خفية، وحظوظ وأثرة.
«إن الاختلاف من لوازم
النشأة الإنسانية، فالشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا
الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}
[الأحزاب: 72]»[5].
فلا بد من مدافعة الشبهات
بالعلم واليقين، ولا بد من معالجة الشهوات بالصبر والترويض، فغالب الاختلاف الواقع
بين الأمة هو جحد للحق الذي مع المخالف.. وهذا أقرب للشهوات والغي منه إلى الشبهات
والجهل.
يقول ابن تيمية في هذا
الشأن: "واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجد من هذا
الضرب، و هو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما يثبته أو في بعضه، مخطئاً
في نفي ما عليه الآخر.. فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود
والتكذيب.."[6].
إن التخوّف والهلع من
الذوبان في محيط المخالفين، قد يكون عجزاً وضعفاً، ولا يكون مسوغاً في تهويل
الخلاف، وإيثار المناكفة والنزاع.. وإنما تكون المدافعة للزلات بالعلم بالحق
والرحمة بالخلق، فالرسوخ في العلم بالله وأحكامه يحفظ أهل السنة من الانفلات
والذوبان، ويحقق لهم النفع والقبول والإصلاح.
وإن تحريك الوجدان بما
يرضي الرحمن، وإحياء واعظ الله في قلب كل مؤمن، وإزالة سخائم القلوب، والسعي
لسلامة الصدور؛ إن ذلك كفيل بالتخلّص من ركام كثير في خلاف مفتعل، لا حظّ له من
العلم والتحقيق. ورحم الله الإمام الشافعي القائل: "ألا يستقيم أن تكون
إخواناً، وإن لم تتفق في مسألة"[7].
إن جملة من الخلاف الواقع
في الأمة سببه الذنوب، وإن الاستغفار والتوبة إلى الله يرفع البلاء ويجلب الرحمة[8].
وإن الحديث عن لزوم السنة
والاتباع ينبغي أن يقترن بالحديث عن ضرورة الألفة والاجتماع، فابن تيمية - مثلاً -
كان أعظم الناس دعوة لمنهج أهل السنة تقريراً وتأصيلاً، ونقضاً ونسفاً لأصول البدع
والانحراف، ومع ذلك كان يقول: "إن الله أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن
الفرقة والاختلاف، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} [آل عمران: 103]، {إنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ
إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
[الأنعام: 159].. ربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل
التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين"[9].
ومما يحقق الاجتماع،
ويقلّص دائرة الفرقة والنزاع؛ أن يحرر ويظهر ضابط المفارقة لأهل السنة والجماعة،
سواء في المسائل أو الدلائل، ومتى يحكم على الفرقة أو الطائفة بأنها خارج أهل
السنة.
وقد بيّن ذلك ابن تيمية -
في غير مواطن - فقال: "وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، فمن
قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والإجماع"[10].
فهذا ضابط المفارقة في
الدلائل، فمن كان يتلقى دينه من العقل والقياس - مثل المعتزلة ونحوهم من المتكلمة
-، أو يتلقى دينه من الذوق والوجد - كحال المتصوفة -؛ فليس هذا سبيل أهل السنة.
وأما ضابط المفارقة في
المسائل، فقد حرره الشاطبي بقوله: "هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة
الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛
إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرّق شيعاً.. ويجري مجرى
القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا كثّر من إنشاء الفروع المخترعة،
عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة"[11].
وقرر ابن تيمية قريباً من
ذلك، فقال: "والبدعة التي يعدّ الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم
بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة"[12].
واستصحاب أن أهل السنة
يعلمون الحق ويرحمون الخلق.. مما يحجّم النزاع ويقلل الخلاف، وكلما ازداد العلم
واليقين، كلما عظمت الرحمة والإشفاق، "وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم
والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة
سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
[المائدة: ٨]، ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون الشرّ
لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبيّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان
الحق ورحمة الخلق"[13].
لقد سام المعتصمُ الإمامَ
أحمدَ أصناف العذاب من جلد وسجن، لكن الإمام أحمد كان يقول: "كل من ذكرني ففي
حلّ إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق - المعتصم - في حلّ.. - إلى أن قال - ما
ينفعك أن يعذّب الله أخاك المسلم في سبيلك"[14].
وأمر مهمّ يسهم في تقليص
الخلاف، وهو مراعاة عوارض الأهلية كالجهل والتأوّل ونحوهما، فليس كل من زلّ فقارف
بدعةً يكون مبتدعاً، وكذا مراعاة اختلاف الأحوال والبلدان، كما حرره ابن تيمية
بقوله: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم
يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد
منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم"[15].
وقال - في مراعاة أحوال
الأماكن والبلدان -: "فإنهم [الكلابية والأشاعرة] أقرب طوائف أهل الكلام إلى
السنة والجماعة، والحديث عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم، بل هم أهل
السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة"[16].
فاللهم اجمع على الحق
كلمتنا، ولا تجعل في قلوبنا غلّاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
** ملف خاص ( قواصم
الاختلاف الدعوي )
:: مجلة البيان العدد 311 رجب 1434هـ،
مايو - يونيو 2013م.
[1] هذه القصة رواها
اللالكاني في أصول الاعتقاد، 6/1234هـ.
[2]
الفتاوى، 3/346.
[3]
ينظر: الدرء، 1/157؛ الفتاوى لابن تيمية، 1/17، 3/421؛ والاقتضاء، 2/840.
[4]
ينظر: الفتاوى لابن تيمية، 4/95.
[5]
بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية، 8/367.
[6]
الاقتضاء، 1/125.
[7]
السير للذهبي، 10/16.
[8]
ينظر: الفتاوى، 35/83.
[9]
الفتاوى، 3/182.
[10]
الفتاوى، 3/346، وانظر: الواسطية، ص 23.
[11]
الاعتصام، ت: مشهور، 3/177.
[12]
الفتاوى، 35/414.
[13]
الرد على البكري لابن تيمية، ص 256.
[14]
السير للذهبي، 9/261.
[15]
الفتاوى، 19/191.
[16]
بيان تلبيس الجهمية، 3/538.