تقريرات سياسية لابن تيمية
عاش ابن تيمية - رحمه
الله - في زمن حافل بمتغيرات سياسية، وحوادث جسام، وتعدد الولايات والإمارات، لكنه
تعامل مع هذه الولايات وأصحابها بعلم وعدل، فلم يكن بمعزل عنها، ولا مناكفاً لها،
كما لم يكن مجاملاً للحكام ولا ساكتاً عما أحدثوه.
ولن نتحدث عن مواقفه
العملية في هذا الشأن مع أهميتها، لكن الأهم هو الحديث عن تقريراته العلمية
المنهجية في باب السياسة الشرعية كما في السطور التالية:
- قرر في مواطن عدة أن
مقصود جميع الولايات في الإسلام: أن يكون الدين كله لله تعالى، وإصلاح دين الناس
ودنياهم، فليست الولاية ولا صاحب الولاية مقصوداً لذاته، وإنما نُصِّب لأجل إقامة
الدين الحق، وإصلاح دنيا الخلق.
يقول رحمه الله:
«فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً
مبيناً، ولم ينفعهم ما نعّموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من
أمر دنياهم...»[1].
وقال في مطلع رسالة
الحسبة: «جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة
الله هي العليا، فإن الله سبحانه إنما خلق الخلق لذلك...»[2].
وقرر أنه إذا عجز
السلطانُ عن إقامة الحدود، وأداء الحقوق، أو إضاعته لذلك؛ فإن ذلك واجب على من قدر
على إقامتها.
ثم قال: «وقول من يقول:
لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه، إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل.
فالأمير إذا كان مضيّعاً
للحدود، أو عاجزاً عنها؛ لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه.
والأصل أن هذه الواجبات
تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم
إلا بعدد، ومن غير سلطان، أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها»[3].
فتأمّل كيف جمع ابن تيمية
بين الشجاعة والحزم بوجوب إقامة الشرع على القادرين إذا عجز الأمراء أو ضيّعوا، مع
الحكمة، حيث اشترط أن لا يفضي ذلك إلى مفسدة راجحة.
وقد حفلت سيرة ابن تيمية
بأمثلة عملية ومشاهد واقعية بإقامة الحدود، والتعزيرات، وإراقة الخمور، كما سطّره
ابن كثير وغيره[4].
- قرر ابن تيمية أن أهل
السنة وسط في باب أصحاب الولايات الشرعية بين الوعيدية والمرجئة..
فالوعيدية من الخوارج
والمعتزلة قد ينكرون المنكر، لكن بنوع من التعدي والإفراط، فجوّزوا الخروج على
أئمة الجور وقتالهم، ما تترتب عليه أنواعٌ من الفساد والمنكر أكثر مما أزالوه،
وأما المرجئة فقد تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظناً أن ذلك من باب ترك
الفتنة، فأهل السنة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، مع
مراعاة مقاصد الشريعة، وقواعد المصالح والمفاسد.
فقال: أهل البدع من
الخوارج والمعتزلة يرون قتال أئمة الجور والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم، أو ما
ظنوه هم ظلماً، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآخرون من
المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظناً أن ذلك من
باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون أولئك...»[5].
وقال أيضاً: «الطريقة
الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد، كهؤلاء القوم المسؤول
عنهم (أي التتار) مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم، إذا لم يمكن جهادهم
إلا كذلك، واجتناب إعانة الطائفة التي يغزو معها على شيء من معاصي الله..
وهذا طريقة خيار هذه
الأمة قديماً وحديثاً، وهي واجبة على كل مكلف، وهي متوسطة بين طريق الحرورية
وأمثالهم من يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم، وبين طريقة المرجئة
وأمثالهم من يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقاً وإن لم يكونوا أبراراً»[6].
- بيَّن ابن تيمية في غير
موضع أن السياسات المحدثة لا تنشأ إلا بترك السياسة الشرعية، أو الجهل باستيعابها
للحوادث والنوازل، والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، فإذا أعرضوا عن السياسة الشرعية،
استعاضوا عنها بالسياسات الفاسدة، مع أن لزوم السياسات الشرعية يحقق الغَناء
والكفاية عن السياسات المبتدعة.
فقال رحمه الله: عامة الأمراء
إنما أحدثوا أنواعاً من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على
الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرّطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله،
لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، متحرين في ترغيبهم
وترهيبهم للعدل الذين شرعه الله؛ لما احتاجوا إلى المكوس (الضرائب) الموضوعة، ولا
إلى العقوبات الجائرة»[7].
وبيّن أن تقصير فقهاء
العراق - زمن الدولة العباسية - بمعرفة السياسة الشرعية، أوقعهم في إحداث سياسات
في ولايات المظالم والحرب، وجعلوها مغايرة لولاية الشرع، ثم قال: «وتعاظم الأمر في
كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع،
وهذا يدعو إلى السياسة»[8].
ثم إن السياسة الحادثة
تضعف الخلافة[9]، بل ربما كانت البدع
شؤماً عليها، كما في سقوط دولة بني أمية، فإن آخر خليفة أموي هو مروان بن محمد
وكان تلميذاً للجعد بن درهم رأس التعطيل.
- حذّر ابن تيمية من
الطاعة العمياء للمخلوق، فلا طاعة مطلقة إلا للرسل - عليهم السلام -، فقال: «من
نصّب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل في ذلك»[10].
وقرّر أن أهل السنة لا
يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته في
الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله، وإن كان إماماً عادلاً[11].
وبيّن أنّ أكثر الصحابة
لم يشاركوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في قتاله لأهل الشام،
مع أنه الخليفة الراشد الذي تجب طاعته؛ لأن هذا قتال فتنة، وقد جاءت النصوص
النبوية في النهي عن قتال الفتنة، فلا عدول عن هذه النصوص الخاصة الصريحة إلى نص عام
في طاعة أولي الأمر[12].
وأخيراً؛ ففي التراث
التيميّ من التحقيقات الفريدة والتأصيلات المتينة ما يزيل اللبس ويدفع الغلط عن
مذهب الصالح في شأن السياسات.. وبالله التوفيق.
:: مجلة البيان العدد 306 صفر 1434هـ،
ديسمبر2012م.
[1] مجموع
الفتاوى «السياسة الشرعية» 28/262.
[2]
مجموع الفتاوى 28/61.
[3]
مجموع الفتاوى 24/176.
[4]
ينظر البداية لابن كثير 14/12، 36، 37.
[5]
الآداب الشرعية لابن مفلح، وانظر: مجموع الفتاوى 28/167.
[6]
مجموع الفتاوى 28/508.
[7]
الاقتضاء 2/598.
[8]
مجموع الفتاوى 20/392.
[9]
انظر: مجموع الفتاوى 20/319.
[10]
مجموع الفتاوى 19/69، وينظر: السبعينية (بغية المرتاد) ص 495، ومنهاج السنة 3/490.
[11]
انظر: منهاج السنة 3/387.
[12]
انظر: مجموع الفتاوى 4/443.