• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
طاغوت العصر

طاغوت العصر


إن غالب الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين بعد جلاء المحتل الأجنبي عنها، شكلاً لا مضموناً، نجدها من خلال استقراء دساتيرها منسلخة من عقيدة إفراد الله عز وجل وحده بالتشريع، حيث جعلت سلطان التشريع للأمة أو الشعب، وجعلت الحاكم مشاركاً في سلطة التشريع، وقد استقل بالتشريع في بعض الأحوال، وكل ذلك تمرّد على حقيقة الإسلام التي توجب الانقياد والقبول بأحكام الشريعة. إننا أمام حكومات ونخب ألغت الشريعة الإسلامية وعطلتها عن العمل في حياة المسلمين وشؤونهم، وتدين بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق للمجالس التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرمته، والواجب ما أوجبته، والنظام ما شرّعته، فلا يجرّم فعل إلا بقانون منها بموجب القانون، ولا يعاقب عليه إلا بقانون منها، ولا اعتبار إلا بالنصوص الصادرة منها، حيث أصبح القانون الوضعي هو طاغوت هذا العصر.

دور الاحتلال الأوروبي في تنحية الشريعة:

من الملفت للنظر أن الاحتلال الأوروبي في البلاد غير الإسلامية كان لا يتعرض لعقائد الناس وأفكارهم بشيء من العنف على الإطلاق، مكتفياً بما يتسرب إلى حياتهم تدريجياً من التأثير الناشئ عن رغبة المغلوب في تقليد الغالب. أما في بلاد المسلمين فقد كانت هناك تدبيرات وترتيبات يقصد بها قصداً إزالة مظاهر الحياة الإسلامية، ومحاولة محق الإسلام في نفوس المسلمين بالعنف وصرفهم عنه صرفاً خبيثاً ماكراً بوسائل أخرى غير العنف، لكنه لا يهادن ولا يرضى عنه في حال من الأحوال[1].

وكان من أول التدبيرات والترتيبات في كل بلد إسلامي وقع في قبضتهم؛ تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم ووضع القوانين الوضعية بدلاً منها، وهو أمر لا علاقة له «بالمصالح الاقتصادية» التي يزعم الغرب وعملاؤه الفكريون أنها الهدف الأول والأخير من استيلائهم على العالم الإسلامي[2]. والذي يتبين من خلال هذه العداوة للإسلام وشريعته أن الباعث الصليبي هو الدافع الأول الذي حرّك أوروبا لاحتلال العالم الإسلامي. ولا تحتاج هذه الظاهرة إلى تعليل؛ فالحقد الذي يحمله الصليبيون في قلوبهم للإسلام قد أخبرنا به العليم الحكيم في كتابه المنزّل في قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وقوله جل ثناؤه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْـحَقُّ} [البقرة: 109]، وقوله تقدست أسماؤه: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. إنه حقد دائم كامن في قلوبهم ضد الإسلام وأهله، لا يحتاج إلى محرك آخر. فمجرد وجود إسلام وشريعة في الأرض كاف لتحريك ضغائنهم وإحنهم وبواعثهم الشريرة، ودافع لهم على التحرك ضد المسلمين ليردوهم عن دينهم إن استطاعوا.

حكم المبدّلين المعطلين لشرع الله:

إن تحكيم الشريعة الإسلامية استجابة لله تعالى ولرسوله أمر واجب كل الوجوب، إذ فيه الحياة والخير والصلاح، كما قال جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِـمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. ولا شك أن تنحية شرع الله وعدم التحاكم إليه في شؤون الحياة، من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في مجتمعات المسلمين. وكانت عواقب الحكم بغير ما أنزل الله في بلادهم ما حل بهم من أنواع الفساد والشرور والبغي والظلم والذل ومحق البركة. فما هو حكم المعرضين الممتنعين عن تطبيق الشريعة في المجتمع الإسلامي، أو المبدلين لحكم الله المستحلين لما حرم الله تعالى، أو من سنّ تشريعاً يناقض ما هو معلوم من الدين بالضرورة؟

نفي الإيمان عن المتحاكمين إلى غير شرع الله:

لقد نفى الله عز وجل الإيمان عن الذين لا يتحاكمون إلى شرعه، ولا يرضون بحكمه وقضائه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وفي تأويل هذه الآية يقول الإمام أبو بكر الجصاص: «في هذه الآية دلالة على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام، سواء ردّه من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والانقياد والامتناع عن التسليم.. لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلّم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه ليس من أهل الإيمان»[3].

والمشرّعون الوضعيون لو رضوا بشرع الله وحكمه وقبلوه وانقادوا له واعتقدوا أنه الأصلح والأحسن، وأنه واجب الاتباع، لما اختاروا غيره. فاختيارهم أو تشريعهم ما يناقضه دليل على فساد ما في قلوبهم من الانقياد والتسليم[4]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن من تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن، وإن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟»[5].

فبيَّن ها هنا أن الإيمان يزول بمجرد الإعراض عن حكم الرسول ولو لم يقترن ذلك بتكذيب أو استحلال، فكيف بمن زاد على الإعراض بسن القوانين المخالفة لشرع الله تعالى ورضي بها، وألزم الناس بها، وحماها بالحديد والنار، وحارب من يعارضها، وزج بهم في غياهب السجون؟! ويقول ابن تيمية كذلك: «والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه أو حرّم الحلال المجمع عليه كان كافراً ومرتداً باتفاق الفقهاء[6].. فساوى ها هنا بين المستحل والمبدل.

التشريع الملفق خروجٌ عن حكم الله:

قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْـجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. يقول الإمام ابن كثير في تأويل هذه الآية: «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جينكيز خان) الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام مأخوذة من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير»[7].

فهذا الفعل من التشريع والتقنين الملفق المأخوذ من مصادر شتى كما هو الحال في مصادر التشريع المعاصرة التي تستقي قوانينها من مشارب مختلفة - هو خروج من الشريعة وتبديل لها واستحلال للحكم بغيرها، ولو لم يصرح أولئك المشرعون بذلك بلسانهم؛ لأن الفعل ها هنا أبلغ من القول.

مصير المبدّلين لشرع الله في الآخرة:

لقد توعَّد الله تعالى المستكبرين المعاندين ومن وافقهم وأطاعهم، المبدلين المستحلين، التاركين لحكمه وشرعه، المتبعين لأحكام البشر وقوانينهم وأهوائهم؛ بأشد أنواع الوعيد، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤]، وقال جل ذكره: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [المائدة: 45]، وقال عز من قائل: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، كفراً أكبر وظلماً أكبر وفسقاً أكبر يخرج من الملة ويوجب الخلود في النار والعياذ بالله تعالى.

أما ما يتعلق بمصير هؤلاء في الآخرة فقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: «ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد بعدما ظهر له الحق واتضح له، ويتبع غير سبيل المؤمنين، وقد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية؛ فقد جعل الله تعالى النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن هذه الشريعة لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة»[8].

وقال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْـجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ 91 وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ 92 مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ 93فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ 94 وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ 95 قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ 96 تَاللَّهِ إن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ 97 إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ 98 وَمَا أَضَلَّنَا إلاَّ الْـمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 91-99]. هذه الخصومة في النار بين المستكبرين والمستضعفين تدل على فداحة الجرم الذي اقترفه الفريقان جميعاً، لكن الندامة والحسرة استولت على نفوس المستضعفين أكثر، لأنهم باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، وعطلوا حواس الإدراك فيهم، وألغوا عقولهم جرياً على سنة الآباء والأجداد، وخنوعاً ورهبة من بطش المستكبرين الأقوياء، واستجابة لداعي الشهوات الفانية، واعترفوا بعدما فات الأوان أنهم كانوا في ضلال مبين، إذ كانوا يساوون الله عز وجل بأنداد وشركاء لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً في التشريع والتعظيم والطاعة.

وهذه التسوية قسمة ضيزى وغير جائزة؛ لأن التشريع من خصائص الله رب العالمين، الذي يملك الإحياء والإماتة والرزق والنفع والضر.. إنهم عطلوا عقولهم ولم يستفيدوا من حواس الإدراك فيهم، ورضوا بمتابعة المستكبرين والسير على دربهم في الإفساد، وطاعتهم بموجب القوانين الوضعية الجائرة التي عمّ بها الظلم وطمّ في الأرض، وانتشر بها الفساد في كل صعيد، وهكذا، أدت بهم العطالة والخوف الذليل الأعمى والاستسلام للأعراف والتقاليد الاجتماعية بدافع الشهوات والشبهات والأهواء؛ إلى مشاركة المستكبرين الطغاة في العذاب المقيم، وبئس المصير.

:: مجلة البيان العدد303 ذو القعدة 1433هـ، سبتمبر - أكتوبر 2012م.


[1] محمد قطب، واقعنا المعاصر، ص 195.

[2] المرجع السابق نفسه، ص 195.

[3] أبو بكر الجصاص: أحكام القرآن، ج2، ص 213-214.

[4] محمد بن عبد الله الوهيبي: نواقض الإيمان الاعتقادية، ج2، ص 222.

[5] ابن تيمية: الصارم المسلول، ص 39.

[6] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج3، ص 267.

[7] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج3، ص 131.

[8] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج2، ص 412-413.

أعلى