مصير مصر.. والمهمَّات العشر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. وبعد:
فقد اعتاد الإسلاميون الذين تواصلت معهم
الابتلاءات، أن يردّدوا بعد كل بلاء القول المشهور: (إنه منحة في طيّ محنة)،
فالابتلاء بالضراء مع الصبر لا تكون عاقبته إلا الخير، وذلك على مستوى الأفراد
والجماعات، لكن هناك ابتلاء آخر - وهو الابتلاء بالسراء - قد يأتي في صورة فتح أو
انتصار، لكن: لا بد بعده من الاختبار، كما قال الله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وهنا يمكن أن يتحول
التعبير من (منحة في صورة محنة) إلى (محنة في صورة منحة)، فيكون الانتصار في
حقيقته اختباراً.
الفوز الذي حققه الإسلاميون مؤخراً في مصر،
وعلى رأسهم (الإخوان المسلمين)، هو نجاح كبير بكل المقاييس، لكن على قدر كبره
وعظمته سيكون حجم الاختبار وخطورته، خاصة إذا كان هذا النجاح لجماعة بقدر وانتشار
جماعة كالإخوان المسلمين، وفي بلد كمصر في اتساعها وعمقها، وفي منطقة كالشرق
الأوسط في حساسية أوضاعها؛ لذلك فإن ذلك الفوز تترتب عليه مهمات ومسؤوليات اللهُ
وحده المستعان على القيام بها.
لقد كشفت نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية
الأخيرة - في جولة الإعادة - عن شيء أكبر وأخطر من النتائج نفسها، وهو أن في مصر
إرادتين شعبيَّتين رئيسيَّتين تختلفان إلى حد التناقض، وتتنافسان إلى حد الصراع،
وتتقاربان في القوة كفرسَي رهان، حيث إن الفارق الذي فاز به مرشح الإسلاميين –
الدكتور محمد مرسي – لم يتجاوز نسبة الواحد في المائة، على مرشح العَلمانيين –
الفريق أحمد شفيق - ! علماَ أن العنوان الأبرز للاختلاف بين برنامجي المرشَّحَين
كان يدور حول موضوع أساسي، وهو (هوية الدولة)، وهل تكون «مدنية» ذات طبيعة
عَلمانية، أم إسلامية ذات مرجعية شرعية؟
لقد شاء الله أن يفوز المرشح الإسلامي، وهذا
بلا شك يبشّر بمستقبل واعد لدعوة الإسلام، لا في مصر وحدها، بل في المنطقة
والعالم؛ إذا سارت الأمور في نصابها الصحيح. ولهذا؛ فإن موضع الفرح والسعادة
بالإنجاز هنا هو نفسه موطن الخوف والقلق من ضياع ثمرته أو إخفاق تجربته.
انقسام الإرادات الذي كشفت عنه الانتخابات،
له بلا شك تبعاته وتداعياته، لأنْ كان المفاجئ الأكبر فيه أنه ليس انقساماً على
مستوى القيادات والنخب فحسب، بل على مستوى الشعب، والإرادتان لهما ثقلهما ورموزهما
وجمهورهما المصر على تحقيق غايات محددة، ولكل منهما وجهتها الفكرية والثقافية التي
تريد أن تنصرها وتنشرها.
سيظل الفريقان المختلفان يرقبان ويختبران
الأداء الرئاسي في إنجاز مهمات تغييرية ستكون نتائجها مصيرية، لا في مصر وحدها،
لكن كذلك في المنطقة حولها، ويمكننا أن نرصد أهم تلك الاختبارات في عشر مهمات كما
يلي:
الاختبار الأول: ويدور حول إيجاد مخرج لمأزق تعارض الإرادتين
الشعبيتين المتعاكستين فيما يتعلق بمَدَنية الدولة أو إسلاميتها، فهناك إرادة
الرغبة في الدولة الإسلامية الحاكمة بما أنزل الله، في مقابل إرادة الرغبة عنها
تأثراً بعوامل التجهيل أو التضليل أو التخويف - طلباً للدولة المدنية «العَلمانية»
المتحاكمة إلى غير ما أنزل الله، ولا شك أن تعهد الرئاسة الجديدة بأن تكون دولة
مدنية، بمعنى (غير عسكرية)، لن يقنع المعارضين للحكم بالشريعة في الداخل والخارج،
وسيظلون يرقبون الوفاء بالتعهد الرئاسي بالدولة المدنية على مرادهم، لا على مراد
الرئيس ومراد الإسلاميين، بينما سيظل الإسلاميون وأنصارهم ممَّن ساندوا الرئيس
الجديد ينتظرون الخطوات الجادة – ولو كانت مرحلية – نحو مهمة إنجاز الأمل المنشود
بتحكيم الشريعة الإسلامية.
الاختبار الثاني: وهو حول الموقف العملي للرئاسة من مبدئي:
(المشاركة في السلطة)، و(تداول السلطة)، فالعَلمانيون - رغم كونهم في المعارضة -
يصرون على المشاركة الكاملة في رسم أسس الدولة لتقوية دعائم العَلمانية من خلال
مشاركتهم في السلطة رأساً برأس مع الأغلبية، وهم يخططون لأن تكون الفترة الرئاسية
المقبلة كلها لهم، إعمالاً لمبدأ تداول السلطة، ويهددون من الآن بثورة ثانية إذا
غيَّر الإسلاميون معالم الدولة لتكون إسلاميةً، ولذلك يراهنون على إعمال مبدأ
(المشاركة في السلطة) بصورة جزئية اليوم للإخلال بالمشروع الإسلامي، ويعملون
لإعمال مبدأ (تداول السلطة) غداً لإحلال المشروع العَلماني مرة أخرى، وهنا تبدو
المهمة الصعبة للرئاسة في وضع أسس الدولة على أسس صحيحة وسط هذا الضجيج الديمقراطي
المعاند من الند المعارض.
الاختبار الثالث: وهو بخصوص المعركة حول هوية الدولة،
والشرعية التي تقوم عليها، وهذه هي معركة الدستور التي بدأت منذ بواكير الثورة من
خلال استفتاء 19 مارس 2011، الذي اشتهر بـ (غزوة الصناديق)، حيث أخذ الاستفتاء
منحى الخيار بين الإبقاء أو الإلغاء للمادة الثانية من الدستور الحالي، والتي تنص
على أن «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، وقد واصل العَلمانيون
المعركة بشكل أشد في سعيهم إلى حل البرلمان ذي الأغلبية الإسلامية، ثم تحركهم لرفض
تشكيل (الهيئة التأسيسية لوضع الدستور) التي كانت غالبيتها من البرلمانيين
الإسلاميين، ثم رفضهم التشكيل الثاني للهيئة، حيث مثل الإسلاميون من خارج البرلمان
50 % منها، وهم يراهنون على هيئة ذات أغلبية عَلمانية لا تسمح إلا بوضع دستور
يرسّخ العَلمانية ولا يجعل الإسلام أساساً للشرعية.
الاختبار الرابع: وموضوعه هو مآل مبدأ (سيادة القانون)،
و(احترام القضاء)، رغم اتفاق الجميع حوله، لكن التساؤل سيظل حول: سيادة أيّ قانون
واحترام أيّ قضاء؟.. هل القانون المستمد من أحكام الشريعة الثابتة بعد تقنينها
والقضاء بمقتضاها؟ أم الأحكام الوضعية والمغيرة التي تقف عقول البشر وراء تشريعها
واختراعها؟ وهل سيكون الدستور المسمى (أبو القوانين) فوق الشريعة وحاكماً عليها؟
أم ستكون الشريعة فوق الدستور وفوق القانون؟ ويتعلق بهذا ما شاب سمعة القضاء في
مصر من لغط بسبب ما قيل عن خضوعه في بعض تداعيات الثورة لضغوط تشكِّك في استقلاله.
الاختبار الخامس: وأسئلته تدور حول العلاقات الخارجية
والمعاهدات الدولية، وموقف النظام الجديد من بقاء بعض تلك العلاقات، و«احترام» بعض
تلك المعاهدات، خاصة معاهدة (كامب ديفيد) التي وقعها النظام المصري في عهد السادات
مع الكيان الصهيوني عام 1978م برعاية أمريكية، والتي تلتزم مصر بموجبها بإقامة
سلام دائم وشامل مع دولة الطغيان والعدوان، وأيضاً ما انبنى على تلك المعاهدة من
علاقات التطبيع التي لم تكسب منها مصر إلا الخسارة، والتي ستظل موضع اختبار
للرئاسة الجديدة، داخلياً وخارجياً، من الإسلاميين وغير الإسلاميين.
الاختبار السادس: وهو بشأن الحريات والأقليات، فأما الحريات،
فهناك من يريدها مطلقة بلا قيود، سلوكياً واعتقادياً، حتى لو فُتحت بواسطتها كل
أبواب الفساد.. وهناك من يطالب بتقييدها بمحاكمات الدين الذي تعتنقه الغالبية
العظمى من شعب مصر. والأقباط يمثلون رأس حرية في المطالبة بحرية المعتقد - على
طريقتهم –، بمعنى أن يسمح للمسلم بالردة عن الإسلام قانونياً، ويسمح للنصراني
الداخل في الإسلام بالعودة عن النصرانية رسمياً، هذا إلى جانب مطالب كثيرة بعضها
للابتزاز، والآخر لمجرد الاستفزاز، مثل: إطلاق حرية «التبشير» بين المسلمين،
وإلغاء القيود على إنشاء كنائس النصارى في كل مكان أسوة بالمساجد، هذا كله رغم أنه
لا تزيد نسبتهم العددية في شعب مصر على 4 - 5%. وباسم حرية الاعتقاد واحترام
الأقليات ستنشط كثير من الكيانات المنحرفة للمطالبة بما تراه حقها في ممارسة
طقوسها ومزاولة أنشطتها، بل وتكوين أحزاب خاصة بها، كما فعلت نابتة الشيعة
المصريين التي بدأت أيضاً تطالب بإنشاء حوزات ومساجد خاصة بالشيعة في مصر.
الاختبار السابع: وقضيته الإعلام والتعليم، حيث ستظل سياسة
الدولة الجديدة تجاههما مرصودة ومراقبة، لأن التعليم يشكل العقول، والإعلام يصوغ
القلوب، ومن غير المنتظر أن تتوحد الرؤى بين الإسلاميين وغيرهم حول محتوى الإعلام،
ولا وجهة التعليم، لأن كلا الفريقين يريان أن الشخصية والهوية لدى جموع الشعب
ستتحدَّد ملامحها وَفق ما ينشره التعليم ويبثه الإعلام، لذلك ستظل قضية مناهج
التعليم وسياسة الإعلام محل اختبار وامتحان للأداء الرئاسي، بل ستظل مضمار سباق
وربما عراك حزبي وسياسي بين العَلمانيين المراهنين على تنشئة أجيال (ليبرالية)
والإسلاميين الساعين إلى بناء أجيال ربانية.
الاختبار الثامن: ومفرداته هي: الضروريات المعيشية، فهي محل
اختبار كبير، للموسر والفقير، لتعلقها بالحياة اليومية، وهو ما استدعى أن تجعلها
الرئاسة الجديدة على رأس اهتماماتها في المائة يوم الأولى من استلام السلطة، حيث
سيظل علاج المشكلات المعيشية لعموم الشعب المعيارَ الأكثر دقة وحساسية عند عموم
الناس للنجاح أو الإخفاق في غيره، وذلك في مجالات أسعار السلع، وتأمين الإسكان،
وإصلاح المواصلات والخدمات، وتوفير فرص التوظيف.
الاختبار التاسع: هو في مراقبة الإصلاح الاقتصادي، وهو في نظر
الأكثرين العامل الضامن لحل أكثر الأزمات التي يتوجب على نظام مصر الجديد علاجها،
فقد أبانت تداعيات الثورة المصرية أن مصر ليست بلاد فقر، لكنها بلد تعرَّض للإفقار
المتعمد مع سبق الإصرار والترصد على أيدي عصابة حاكمة لم تكتفِ بفتح أبواب السلب
والنهب للتجريف من الداخل، حتى نقلت ثمرات الثروات كلها إلى الخارج، وقد جاءت
للدلالة على ذلك شهادة مفوضة الاتحاد الأوروبي (كاثرين آشتون) وقت زيارتها لمصر،
(في منتصف فبراير 2012)، حيث قالت: إن ثروات مصر تكفي لأن تجعلها في مصاف الدول
الغنية، والأموال التي أُهدرت وهُرِّبت خارج مصر تبلغ نحو خمسة تريليونات
(5000.000.000.000) دولار!!
لهذا؛ فإن الشعب المصري «المسروق» سيظل
يراقب وينتظر ويختبر أداء أصحاب (مشروع النهضة) من بوابة الاقتصاد قبل غيرها،
ليعرف حاضره ومصيره.
الاختبار العاشر: وسؤالاته العاجلة تدور حول الاستقرار
والأمن، بمعناه الداخلي والخارجي، فالرئاسة الجديدة استلمت بلداً خلخلت تداعيات
الثورة الأمن في داخله، وتهدد أحقاد المعادين أمنه القومي من خارجه، وكلا جهازي
الأمن: (الشرطة) و(الجيش)، يعيشان حالة عدم انتظام أو انسجام مع عموم الشعب بسبب
تداعيات أحداث الثورة، ويفتقران إلى سياسة ترميم وتوافق مع الأوضاع الجديدة، والكل
يرقب ما ستنتهي إليه العلاقة القلقة مع رموز الجيش وهياكل الداخلية، لأنه دون أمن
داخلي وخارجي لن يكون هناك استقرار، ومن ثم لن تكون هناك نهضة، وهذا رهان
المتربصين بمصير مصر.. نسأل الله أن يخسر الكارهون الرهان، ويتجاوز الإسلاميون في
أرض الكنانة مرحلة الاختبار والامتحان.. (آمين).
:: مجلة البيان العدد 301 رمضان 1433هـ، أغسطس 2012م.