• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الصراع الحضاري التركي بين هويتين

أعلن أردوغان عن أهم أهدافه الأساسية لرؤية القرن التركي، والتي تتمثل في: تقديم دستور جديد ناتج عن إرادة وطنية يهدف إلى تعزيز السلام وترسيخ سيادة القانون، ويحمي العائلة التركية من التهديدات الانحرافية.


كان الوعد بـ«قرن تركي» أحد الشعارات الكبيرة للرئيس رجب طيب أردوغان قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد، وهو عمليًّا من منظور تاريخي يُظهِر بصورة علنية الصراع الحضاري في تركيا بين الجمهورية الأتاتوركية التي حافظت على ولائها للمنظومة الإمبريالية الغربية، ومارست دورًا سياسيًّا وعسكريًّا غير مشكوك في أهميته عقب الحرب العالمية الثانية بعد سقوط الدولة العثمانية لصالح تلك المنظومة، كانت أبسط أدواره المشاركة بثِقَلها العسكري ضمن حلف الناتو لتقييد حركة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، وتحالفها الوثيق مع الدولة العبرية، ومحاربة الهوية الإسلامية للمجتمع التركي.

لذلك أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مسار استراتيجي جديد للدولة التركية؛ ربطه تاريخيًّا بتأسيس الجمهورية التركية بتاريخ 29 أكتوبر 1923م، أطلق عليه «القرن التركي الجديد».

لقد مارَس الرجل في السلطة منذ بداية صعوده عام 2002م دورًا واضحًا لا يتعلق باحتياجه للسلطة بقدر ما كان يُظهِر أنه الوجه الساطع للمستقبل التركي؛ من خلال التركيز على إنشاء البنية التحتية والجسور الضخمة والمطارات العملاقة والسكك الحديدية، بالإضافة إلى رؤية سياسية توسعية غذَّتها طريقة مناورته مع خصومه السياسيين.

وهذا الأمر ظهر بوضوح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ فلم تكن المنافسة بين اليمين واليسار مثلما حاولت وسائل الإعلام الغربية الترويج له، أو بين المحافظ والمتقدم، أو الإسلام والكمالية؛ فاقتصار تفسير الأمر على ذلك هو حالة من الابتذال التي تغرق فيها الصحافة الغربية؛ لأن ما تمر به تركيا حاليًا هو حالة تغيير استراتيجي تجعل من تركيا لاعبًا أساسيًّا في تشكيل اتجاهات الشرق الأوسط العالمية.

وقد لخَّص الرئيس التركي هذا الأمر بقوله: «لقد أصبحنا دولة يتبعها الآخرون، وليس دولة تتبع الآخرين»، وأكد تصميمه على جعل تركيا واحدة من أفضل 10 دول رائدة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والقوة العسكرية والتكنولوجيا والدبلوماسية.

وبالفعل فقد نجح الرجل في العقد المنصرم في الإبقاء على الحلفاء التقليديين؛ مثل الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي على مسافة واحدة بالتوازي مع علاقته مع الصين وروسيا وإيران، واستطاع استغلال المساحات الفارغة في السياسة الدولية في ترسيخ مفهوم واضح بشأن دور تركيا المستقبلي مثل التحكم في حركة العبور العسكرية في مياه البحر الأسود، وكذلك فرض السيادة التركية على المياه الإقليمية في البحر المتوسط، مع استغلال حلف الناتو في احتواء التمرد الصربي على المسلمين في كوسوفو، كما واجَه على المستوى الاجتماعي صَلف العلمانيين وقمع حركة الشواذ جنسيًّا؛ فقد تحدّث في خطابه قبل الانتخابات في منطقة العمرانية بإسطنبول قائلًا: «سيكون قرن أُمّتنا بأكملها»، وهنا يتأرجح أردوغان بين الخطاب القومي التركي وبين الخطاب الإسلامي الذي يُراهن عليه في علاقاته الخارجية وتمدده في السياسة الدولية.

وإذا كنا نريد أن نفهم بعض مما يقوله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ فعلينا أن نتأمل الكثير من الأرقام التي تحدّد مسار الوجهة المستقبلية للاقتصاد التركي، وبغض النظر عن طموحاته بشأن تحويل تركيا إلى أكبر مركز للتجارة والصناعة والطاقة العالمية؛ فإنها نجحت في توفير أكثر من 70% من احتياجاتها العسكرية من خلال الإنتاج المحلي، وأصبحت تُصدِّر منتجاتها العسكرية إلى أكثر من 170 دولة.

وقد أثار تشكيل حكومته الأخيرة اهتمام الكثير من النُّخَب السياسية التي فسَّرتها على أنها ربما تكون خطوة جديدة في سبيل بلورة عقيدة اقتصادية جديدة تكون هي المُحرّك الأساسي لاستراتيجية القرن التركي. فقد اتجه أردوغان إلى تعيين محمد شيمشك وزيرًا للخزانة، وهو قيصر الاقتصاد التركي في عام 2010م، وقد عاد إلى تركيا من لندن؛ استجابةً لدعوة الرئيس التركي الذي دعمه أيضًا من خلال تعيين حفيظة أراكان ابنة المؤسسات الرأسمالية الغربية في رئاسة البنك المركزي التركي؛ للاستمرار في نهج اقتصادي يُقيّد رفع نسبة الفائدة، ويحافظ على نِسَب نموّ مرتفعة للاقتصاد التركي.

القرار الآخر الذي لفت انتباه المحللين السياسيين هو تعيين رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان وزيرًا للخارجية، ومن خلال البحث عن التسلسل الوظيفي في دوائر الاستخبارات التركية للرجل نجد أنه وفَّر الحماية للرئيس أردوغان في أكثر من مرة، ليس آخرها محاولة الانقلاب التي ذاع صيتها عام 2016م, فبعض التفسيرات ذهبت إلى أن أردوغان الذي لن يكون بمقدوره الترشح في الانتخابات المقبلة عام 2028م يريد أن يهيئ فريقًا جديدًا لقيادة مشروع القرن التركي.

فقد أعلن أردوغان عن أهم أهدافه الأساسية لرؤية القرن التركي، والتي تتمثل في: تقديم دستور جديد ناتج عن إرادة وطنية يهدف إلى تعزيز السلام وترسيخ سيادة القانون، ويحمي العائلة التركية من التهديدات الانحرافية.

لقد أصبحت تطلعات تركيا السياسية ذات أبعاد إقليمية وعالمية، زاد من نجاحها ضَعْف الولايات المتحدة، وزيادة سطوة الصين وروسيا وضعف الاتحاد الأوروبي، وحاجة الكثير من القوى الإقليمية الضعيفة في الشرق الأوسط لإحداث توازن للحفاظ على استقرارها؛ لذلك يصف بعض المراقبين مصطلح «القرن التركي الجديد» بأنه عبارة عن بيان للنظام العالمي الجديد، وخطاب يؤكد على سيادة الدولة التركية وقدرتها على ردع أيّ عدوان خارجي، وفاعليتها في التأثير في القضايا العالمية الدولية على حساب القوى العالمية الأخرى؛ مثل إدارتها بنجاح لأزمة صادرات الحبوب العالمية التي تأثرت بفعل الحرب الأوكرانية، بالإضافة إلى هجماتها في الشمال السوري للحدّ من التغلغل الأمريكي والكردي، ومقاومة محاولات الهيمنة الروسية، وكذلك مساندة تركيا لأذربيجان في حرب تحريرها لقره باغي، وهي أزمة فُسِّرت على أنها أحد أدوات الضغط على الروس بالتزامن مع أزمة الحرب الأوكرانية. لذلك يقول وزير الخارجي الأمريكي أنتوني بلنكين: «إن تركيا حليف صعب».

لذلك شكَّل فوز أردوغان في الانتخابات الأخيرة خيبة أمل كبيرة للكثير من الحكومات الغربية؛ لسبب وحيد، وهو أن الرجل يسعى للخروج بهُويَّة حضارية جديدة لتركيا تُنْهي حقبة أتاتورك، وتبعث جيلًا جديدًا يؤمن بحضارة الإسلام الأُممية، ويواصل المسارات التوسعية التي صنَعها الرجل خلال فترات حُكمه، والتي أغلبها يسلك مسلكًا صداميًّا مع الحضارة الغربية، ليس فقط على صعيد الهوية الاجتماعية، بل أيضًا تمسّ في مقتل الاقتصاد الغربي.

 

 


أعلى