إن الذين اعتادوا على رفع عَلَم المحتل إلى جوار عَلَم بلادهم لم يجدوا أيّ غضاضة حين رفعوا عَلم روسيا بدلًا من فرنسا، أو صورة بوتين بدلًا من ماكرون، لا لشيءٍ إلا لأنهم قابلون دومًا لـ«الاستعمار» والعبودية.
«موسكو
تحترم سيادة الدول الإفريقية، ونهجها يختلف عن المنطق المفروض مِن قِبَل القوى
الاستعمارية السّابقة للقارة، وهو ما يمكن وصفه بعلاقة السيد بالتابع؛ ما يكرّر
النظام الاستعماري البائد».
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف
رغم أن ماضي روسيا في احتلال الدول الآسيوية، ومساندتها للديكتاتوريات في إفريقيا
وأمريكا الجنوبية كفيلٌ بدحض كلمات سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا المخضرم؛ إلا أن
تاريخ الدول الأوروبية البشع في إفريقيا، والذاكرة القصيرة لبعض الشعوب الإفريقية،
وحداثة التجربة لديهم فيما يخص التعامل مع مرتزقة روس شبه نظاميين، يجعل تصديق مثل
هذه الأكاذيب واردًا، خصوصًا إذا عُزِّزت بحزمة من الإجراءات والسياسات الاقتصادية
والإعلامية والاستخبارية التي تعمل على منح التقارب بين الحكومات الاستبدادية في
إفريقيا وروسيا قدرًا من القبول والشرعية.
وبوسع أيّ مراقب محايد أن يرى الأعلام الروسية مرفوعة في مظاهرات مالي خلال العام
الماضي، التي قامت تأييدًا لانقلاب عسكري قاده مقرّبون من موسكو، أو ضد المجلس
العسكري الموالي لفرنسا في تشاد، بأيدي شباب يهتفون:
«لا
لفرنسا، نعم لروسيا»،
و«نريد
روسيا كما في مالي!»،
أو في إفريقيا الوسطى في مارس 2023م، يهتفون
«جمهورية
إفريقيا الوسطى تدعم روسيا»،
و«لا
لابتزاز وتنمُّر الغرب».
بوسعه أن يراها؛ فيرى معها ترحيبًا ما باستبدال الفرنسيين بالروس في عدد من الدول
الإفريقية؛ فتلك الأعلام تشير إلى حالة رفض متنامٍ لسياسات فرنسا الغشومة في دول
الساحل ووسط إفريقيا، وربما تجد لها أنصارًا يتزايدون مع الوقت، لكنْ بالتأكيد، ليس
بتلك الدرجة التي يصوّرها الإعلام الروسي بشِقَّيْهِ الرسمي والمجهول في وسائل
التواصل الاجتماعي. فلدى موسكو رصيد يكفي لتبغيض الشعوب الإفريقية فيها، لا سيما
حين تتكشف ممارسات ميليشيات فاغنر التابعة لها في بعض دولها، والتي لم تتدرّب على
أصول
«الاحتلال
النظيف»؛
إن جاز التعبير!
فسرعان ما سيكتشف القابلون للاستبداد، العاشقون للعبودية، ممَّن يفتقرون إلى مشروع
تحرُّري مستقل، أنهم كالمستجير من الرمضاء بالنار. فممارسات فاغنر في ليبيا ومالي
وإفريقيا الوسطى، وغيرها في إفريقيا، ومن قبل في سوريا الآسيوية، وأوكرانيا
الأوروبية، قد أبانت عن نفسها بأنها ميليشيا غير مسؤولة، ليس لديها المقدرة الكافية
على أن تكون إنسانية في تعاملها؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، فمن ثَم تورطت تلك
الميليشيات في ارتكاب جرائم القتل ضد المدنيين، فضلاً عن الاغتصاب والسرقة والنهب،
وما إلى ذلك؛ على نحو لا يجعل من بلدها طوق نجاة من بحر
«الاستعمار
التقليدي».
رغم هذا؛ فإن فظاعة ما قد فعلته وتفعله فرنسا في مغتصباتها الإفريقية، ورعونة ما
تمارسه من سياسات تضن فيها على منح
«حلفائها»
أي مزايا، سواء على المستوى الرئاسي أو الحكومي أو الشعبي، يجعل الطريق ممهدًا لقوى
أخرى للحلول مكان فرنسا، والتي تسبَّبت سياستها الاستعلائية، واستنزافها للدول
الإفريقية في جعل الدول التابعة أو الحليفة تزهد في علاقاتها تلك؛ فتارةً تستدعي
الجزائر سفيرها في باريس، وتارةً تطرد الحكومة المالية السفير الفرنسي بالبلاد.
وثالثة تَردّ عليها الرباط ردًّا لاذعًا يشير إلى اهتزازٍ شديدٍ في علاقاتها مع
فرنسا؛ بعد تشديدها لإجراءات مَنْح التأشيرات للمغاربة، والحديث عن انسحاب شركات
فرنسية من المغرب، وملاحقة باريس لأكثر من 80 إمامًا ومشرفًا على المساجد من
المغاربة الموجودين في فرنسا؛ بقصد طردهم وترحيلهم إلى المغرب.
ورابعة تطرد بوركينا فاسو السفير الفرنسي من أراضيها، وهكذا.. إلى الحد الذي
تراجعت معه العلاقات الفرنسية الإفريقية، وتقلَّصت معه القواعد العسكرية الفرنسية
من أكثر من مائة في منتصف القرن العشرين إلى سبعة قواعد فقط الآن، وألجأت الرئيس
الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته الأخيرة في شهر مارس لدول الغابون وأنغولا
والكونغو والكونغو الديمقراطية إلى التراجع التكتيكي عن سياسته الاستعلائية بالقول:
«إن
علاقة فرنسا بدول إفريقيا انتقلت من مرحلة
«المساعدة»
إلى مرحلة
«الاستثمار»؛
في محاولة أخيرة منها لتعويم النفوذ الفرنسي، ومنحه مساحة أوسع للاستمرار والصمود،
قبل أن يلوّح أمامه الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي بأصبعه التحذيري: أن توقّفي
يا فرنسا عن
«النظرة
الأبوية لنا»؛
على حد قول الرئيس الإفريقي الممتعض من دعم فرنسا لمتمردي رواندا أعداء الكونغو
الديمقراطية، في مشهد مثير لتأديب حاكم فرنسي في قلب
«مستعمرته»
السابقة.
هذا كله أوجد لروسيا ضالتها في هذا الفراغ الذي خلّفته فرنسا -أو عجزت عن ملئه
بالأحرى–، كما أن انصراف الولايات المتحدة الأمريكية بعيدًا عن إفريقيا، وانشغالها
بملفات أخرى أكثر جدوى بالنسبة لها، وانكفاء أوروبا وضعفها، خصوصًا بريطانيا
وألمانيا، والفشل الذريع الذي مُنِيَت به بعثات الأمم المتحدة لـ«السلام»
في إفريقيا، بل وتورُّطها في جرائم قتل واغتصاب ونحو ذلك، قد عبَّد الطريق لموسكو،
التي يَمَّمَت وجهها شَطْر القارة السوداء لأسباب تتعلق بالضغط على أوروبا من
الجنوب المتوسطي، وتحقيق أهداف اقتصادية، والتحكم في عدد من الملفات المهمة في تلك
المنطقة المركزية في العالم؛ حيث تمركزت أهم ميليشياتها (فاغنر) في ليبيا، وتحديدًا
في الجفرة (لتنفذ منها إلى إفريقيا) وسرت، والهلال النفطي، وبراك الشاطئ وأوباري
بالقرب من حقلي الشرارة والفيل؛ لتتحكم بالنفط والغاز الليبيين، وقاعدة الخادم
لتتمركز جنوب الأطلسي؛ فتحكمت في منابع النفط والغاز الليبية، وأمكنها مضايقة
الأوروبيين بحصارٍ تَفرضه متى أرادت على الحقول الرئيسة في وقتٍ ازدادت فيه
احتياجات أوروبا إلى مصادر الطاقة الليبية أثناء اشتداد حرب أوكرانيا؛ إذ تمكنت عبر
عملائها قبل عامين من تقليل الإنتاج النفطي الليبي من 1,2 مليون برميل نفط إلى 300
ألف برميل في وقتٍ كانت فيه أوروبا في أمسّ الحاجة للنفط الليبي (39% من إجمالي
احتياطيات النفط في إفريقيا)، الذي تبلغ احتياطاته المؤكدة في ليبيا 48 مليار
برميل، والغاز الطبيعي 53 تريليون قدم مكعب. وأشرفت على محاور عبور الهجرة
الإفريقية (غير الشرعية) إلى أوروبا من أكبر شواطئ لدولة تطل على المتوسط (ليبيا).
وتمركزت طائراتها الحديثة نسبيًّا في قواعد ليبية جنوب مقر حلف الأطلسي مباشرة في
البحر الأبيض المتوسط؛ حيث تتجمَّع مصالح دُوَل من ثلاث قارات، وتتشابك المصالح
الدولية.
وحيث أقامت علاقات متينة مع القاهرة، مكَّنتها من إبرام صفقة هائلة بإنشاء مفاعلات
نووية بمصر تُقدّر قيمتها بنحو 25 مليار دولار، وحازت الوضع التفضيلي الأول لمبيعات
الأسلحة إلى الجزائر؛ حيث تحتل الجزائر نصيب الأسد في الحصة الإفريقية البالغة ما
نسبته 17% من مبيعات روسيا إلى العالم، وعقدت اتفاقيات سياحية مهمة مع تونس.
وتمدّدت ميليشياتها في دول الساحل، خصوصًا تشاد ومالي والنيجر؛ لتضغط أكثر على
الفرنسيين، وتنتهب ثروات معدنية متنوعة من تلك الدول، وتمسك بملف
«الإرهاب»
مساوِمةً عليه الأوروبيين في دول تنشط فيها مجموعات داعش والقاعدة، وغيرهما.
وتغوَّلت في قلب القارة وغربها في كلٍّ من أنغولا، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى،
والكونغو الديمقراطية؛ حيث تقترب رويدًا رويدًا من ثروات تُقدّر في هذا البلد
الكبير بنحو 24 تريليون دولار (تمتلك أكثر من ثلث احتياطي الماس في العالم)، (70%
من معدن كولتان في العالم المستخدم في الحواسيب والهواتف النقالة)، وعمَّقت علاقتها
بحكومة إفريقيا الوسطى التي مَنَحت من جهتها الشركات الروسية تراخيص تُمكّنها من
استخراج الثروات المعدنية من أراضيها، بعد أن ساعدت فاغنر الحكومة على بَسْط نفوذها
على المناطق المضطربة في البلاد.
وكذلك فإن فاغنر التي هي بالأساس قوة روسية تزعم موسكو أنها مجرد شركة أمنية غير
رسمية، بما يُمكنها من التنصُّل من أفعالها وأدوارها، تتمدّد بدلًا عن روسيا في
العديد من الدول الإفريقية لتحقيق أهداف متنوعة، ما بين الهدف الاستراتيجي العسكري
والاقتصادي المجرّد؛ حيث تُشكِّل هذه الميليشيات قوة ضاربة في عددٍ من الدول
الإفريقية، لا سيما ليبيا ومالي وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان، وتتطلع لدور
استراتيجي أكبر في الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا ومدغشقر وموزمبيق وزيمبابوي وتشاد،
وهي بهذا تُحقّق أهدافًا أخرى تتعلق بتحديد نفوذ أوروبا في إفريقيا، وحصارها من
جنوب البحر المتوسط، والتحكم في ملف طاقة ليبيا، وتمدّ نفوذها باتجاه النفط
الجزائري، وشرق المتوسط، لتضييق الخناق على أوروبا التي فرضت بدورها عقوبات قاسية
على موسكو في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا.
هذا الغزو الذي اندفع بعض المراقبين والإعلاميين في تضخيم أثره على النفوذ الروسي
المتنامي في أوروبا، ظنًّا بأن المستنقع الأوكراني الذي غرقت فيه موسكو أو كادت حتى
الآن سيمثّل ثقبًا أسود يبتلع القوة الضاربة في الجيش الروسي، ثم يجذب إليه قوات
فاغنر للحدّ الذي يحملها على الانسحاب من مناطق احتلالها وانتشارها في سوريا وليبيا
ومالي وإفريقيا الوسطى، وغيرها، ويعرقل مشاريع وجودها في الكونغو الديمقراطية،
وسواها من الدول التي تنسج علاقات عسكرية واضحة أو خجولة مع الشركة الروسية شبه
الرسمية. لكنَّ الأمر قد سرى باتجاه معاكس؛ ففاغنر التي يسقط منها الآلاف صرعى في
أوكرانيا قد بدَت أكثر تماسكًا في إفريقيا، ولم تنسحب بأعداد كبيرة من أماكن
احتلالها الجديدة في القارة التي ترخي خطامها لمحتل سلافي بعد الفرنجي
والأنجلوساكسوني.
ذاك أمرٌ يثير الشك في قدرة تلك الدول على القيام وحدها والاستقلال بذاتها وشعبها؛
إذ إن المتتبع لأعداد الحاميات والميليشيات الروسية، من بعد الفرنسية (على سبيل
المثال) تصدمه أعدادها المحدودة، وكُلفتها القليلة جدًّا؛ فعدة مئات أو بضعة آلاف
يمكنها أن تؤمّن تحكُّمًا في نظام ما في هذه العاصمة الإفريقية أو تلك، ويضمن رفعًا
للأعلام الروسية فيها دون كلفة تُذْكَر، ويمنحها القدرة على توجيه الجيوش الإفريقية
والقيام بانقلابات أو المساعدة هنا أو هناك في تلك القارة البائسة.
نعم، هناك مدّ روسي، وجَزْر أوروبي، يرجع الأخير ربما إلى الترف الأوروبي المانع
لبذل الدم من أجل نهب الثروات كما كان في الماضي، أو الانكفاء على مشكلات الداخل
المتنوعة ما بين السياسي والاجتماعي، أو الالتهاء بملفات أكثر حيوية لدى تلك الدول،
أو الأزمات الاقتصادية التي أعقبت ذلك الترف أو إلى غير ذلك.
بينما يعود المد الروسي، ربما، إلى مشروع بوتين الإمبراطوري التوسُّعي، وإلى الرغبة
في استعادة دور سوفييتي قد تقلَّص، وإلى سَعْي موسكو لإيجاد حلول لمشكلات اقتصادية
كذلك.
نعم، هناك مَن يُعيد ذلك إلى مرونة فاغنر ومحدودية تكاليفها، وتمويلها الذاتي من
داخل البلدان التي تنشط فيها أو تحتلها، أو إلى مرونة موسكو في تأييد الانقلابات
والاستبداد (كما لو كان الغرب لا يفعل ذلك أيضًا!)، أو إلى فراغ أُتيح فملأته
موسكو، لكنَّ جوهر المسألة ليست في هذا أو ذاك وإنما هو بالأساس عائد إلى نجاح تلك
الدول في اختراقات النُّخَب والجيوش الإفريقية، وتسلل عناصر أجهزتها الروسية أو
الفرنسية أو الأمريكية أو غيرها إلى قلب صناعة القرار والتأثير فيه في العواصم
الإفريقية بسهولة لافتة.. ثم في شعوب انقادت لبضع مئات تحت لافتة شركة، فيما يبلغ
تعداد هذه الشعوب عشرات الملايين (كمثل المأساة الهندية التي أخضعت فيها القارة
الهندية لشركة الهند الشرقية البريطانية التي نشأت قبل ثلاثة قرون).
أوليس عجيبًا أن يكون للمئات من فاغنر دور في الكونغو الديمقراطية (رغم أن عدد سكان
الكونغو يصل إلى 106 ملايين نسمة، ثالث أكبر دولة في إفريقيا)، أو في هذه الدولة أو
تلك. إن أكبر تجمُّع لفاغنر في القارة يوجد في ليبيا، وهو لم يجاوز 3000 آلاف مرتزق
في أعلى التقديرات، قبل حرب أوكرانيا، نقص بالكاد إلى 2500 بسبب الحرب.
إن الذين اعتادوا على رفع عَلَم المحتل إلى جوار عَلَم بلادهم لم يجدوا أيّ غضاضة
حين رفعوا عَلم روسيا بدلًا من فرنسا، أو صورة بوتين بدلًا من ماكرون، لا لشيءٍ إلا
لأنهم قابلون دومًا لـ«الاستعمار»
والعبودية.
هؤلاء استنكفوا أن يكونوا أحرارًا واستمرأوا الذُّل فألفوه، فلا ينفعهم تغيير
ميليشيا بأخرى؛ لأن العبودية سكنتهم. يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه
«بين
الرشاد والتيه»:
«يجب
تصفية الاستعمار من العقول قبل كل شيء؛ فتصفية الاستعمار من العقول تتطلب أشياء
كثيرة يتضمّنها مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة، فهي لا تتحقق إذن بمجرد انسحاب جيوش
الاستعمار، ومجرد إعلان الاستقلال وتحرير دستور»..
وصدق رحمه الله.