فرمضان يقوي الإرادة، من جهة تغير السلوك؛ من حيث: الطعام، والشراب، والعبادة، وضبط النفس، والتحكم بها؛ ليكون المسلم هو مَن يتحكّم بنفسه لا شهواتُه.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
لا يحتاج المرء إلى كبير جهد ليدرك أن رمضان موسم كبير للتغيير؛ فشهر رمضان يُحدث
تغييرًا كبيرًا على مستوى الأفراد والمجتمع ككل؛ فالمسلم يختلف حاله في رمضان عن
حاله فيما سواه، والمجتمع كله في الجملة يختلف حاله في رمضان عما سواه.
ومن هنا، فمن المُهِمّ للمربين والدعاة والمصلحين خصوصًا، ولكل فرد عمومًا، العناية
بعوامل التغيير في رمضان واستصحابها بعد رمضان؛ ليتحوّل التغيير في رمضان من تغيير
وقتي وجزئي ليكون تغييرًا دائمًا وشاملاً.
وإن التغيير في رمضان مباشر ولا يُؤجّل؛ فالإعلان عن دخول الشهر هو في ذاته إعلان
عن التغيير الكبير الذي يتَّسم به رمضان، ونمط الحياة يشهد تغييرًا واضحًا
وعمليًّا، نعم يتفاوت مستوى التغيير من فرد إلى آخر، لكنَّ الجميع يتغير فعليًّا من
أول لحظة.
والهدف من التغيير واضحٌ للغاية؛ فإن الله -عز وجل- لم يَفرض الصوم لأجل الجوع
والعطش؛ وإنما أراد من المسلم تحقيق التقوى في نفسه، وهي الحكمة العظمى للصوم، التي
تدفعه إلى طاعة ربّه، وتمنعه عن معصيته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«رُبَّ
صَائِمٍ حَظُّهُ
مِنْ
صِيَامِهِ
الْجُوعُ
وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ
السَّهَرُ»
أخرجه الإمام أحمد في المسند (8856)، وصححه الألباني.
مرجعية ومركزية التغيير في رمضان، فالمسلم يستشعر عظمة هذا الشهر المبارك، وهو
الشهر الذي اختصَّه الله لنفسه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
«كُلُّ
عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثالِها إلى سَبْعمِئَة ضِعْفٍ،
قالَ اللهُ -عز وجل-: إلّا الصَّوْمَ، فإنّه لي وأَنا أجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ
وطَعامَهُ مِن أجْلِي. لِلصّائِمِ فَرْحَتانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وفَرْحَةٌ
عِنْدَ لِقاءِ رَبِّهِ، ولَخُلُوفُ فيه أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ..»
أخرجه مسلم (1151)، وأخرج أصله البخاري (5583).
ومن هنا فهو يُمسك ويفطر ويتعبَّد وفق ما شرَعه الله، متابعًا سُنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ويؤيد ذلك أن رمضان شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:
185]، بل إن العالم تغيّر وتغيَّرت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه
لما نزل قول الله -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
[القدر: 1]، ويكفي في بيان عظمة التغيير بالقرآن قوله -تعالى-: {أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}
[الأنعام: 221]، ورمضان كما هو معلوم ومُشاهَد يُقبل المسلمون فيه على قراءة
القرآن وتلاوته، ويكثر سماعهم له في الصلوات وغيرها، وهذا لا شكّ أنه يؤثر تأثيرًا
واضحًا، ولكن يزداد هذا التأثير ويقوى بالتدبر والتفكُّر في الآيات؛ {أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]،
{كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]،
وفي قول الله -عز وجل في الحديث القدسي-:
«إلا
الصوم؛ فإنه لي»،
إشارة إلى أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، وبدافع ذاتي؛ والصوم يتميز بهذا
المبدأ فهو سرّ بين العبد وربه لا يطّلع عليه إلا الله تعالى، فهو عمل باطن لا يراه
الخلق ولا يدخله رياء.
رمضان يضعف الأعذار المانعة من التغيير؛ فكثيرون يشعرون بألم المعصية، ولكن تجد
أحدَهم يُسوِّف بالتوبة، وآخرَ ينتظر مناسبةً قادمة، وثالثًا يتعذّر بأعذار واهية،
وهكذا، حتى لربما هجم على أحدهم الموت، وهو لا يزال في تقصيره وإعراضه عن ربّه،
فيندم حين لا ينفع الندم، فيأتي رمضان ليُثبت للجميع أن التغيير الإيجابي في
الإمكان، وأنه يحتاج من الصادق في التغيير إلى اتخاذ قرار البداية الذي من هو عنده
لا من عند غيره.
ومن هنا فرمضان يقوي الإرادة، من جهة تغير السلوك؛ من حيث: الطعام، والشراب،
والعبادة، وضبط النفس، والتحكم بها؛ ليكون المسلم هو مَن يتحكّم بنفسه لا شهواتُه.
ولذا فرمضان يضبط الانفعالات، كما في وصية النبي صلى الله عليه وسلم
«مَن
لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ
يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ»
[أخرجه البخاري: ٦٠٥٧]، ويقول:
«ليس
الصيامُ من الأكل والشراب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث؛ فإن سابّك أحد أو جهل
عليك فقُل: إني صائم إني صائم»
[أخرجه الحاكم وصححه الألباني]، بل قال -عليه الصلاة والسلام-:
«
صومُ شهرِ الصَّبرِ وثلاثةِ أيّامٍ من كلِّ شهرٍ يذهبْنَ وَحَر الصَّدرِ»
[أخرجه البزار وصححه الألباني].
ومحفّزات التغيير في هذا الشهر المبارك متوافرة وعديدةٌ ومتنوعة، ما بين مضاعفة
الأجور، وتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وغيرها. فلا بد للمسلم أن يستشعرها، ويمدّ
من وقت تأثيرها؛ لكي يبدأ معها في التغيير الحقيقي، وليس التغيير المؤقت، فإن لم
يستشعر المسلم هذه المحفِّزات، كان التغيير في رمضان تغييرًا وقتيًّا ينتهي
بانتهائه.
والبيئة الداعمة للتغيير من أبرز خصائص رمضان؛ فهذا الشهر يشهد أجواء إيمانية لا
نظير لها في غير رمضان، على مستوى الأُمّة الإسلامية كلها، ما بين توافق في أداء
الفريضة، وازدحام على الطاعات، وتنافس في أعمال البر والإحسان، والتزام عام بجوّ
رمضان.
وتكرار السلوك داعم ومثبّت للتغيير، فالحرص على أداء العبادات، واستمرارها ما بين:
سحور، وصيام، وصلاة، وإفطار، وقيام، وتهجد، وتلاوة قرآن، ودعاء طوال الشهر دون
انقطاع، فالمسلم في تكامُل لأنواع مختلفة من العبادات؛ مما يساعد على الاستمرار في
الطاعة.
إغلاق منافذ التغيير السلبي وإضعافها، فرمضان تُصفّد فيه مردة الشياطين؛ فلا
يَصِلُون إلى ما كانوا يَصِلُون إليه في غير رمضان. وفي رمضان تُفتح أبواب الجنان،
وتُغلق أبواب النيران، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، إضافة إلى الجو
الإيماني العام، فكلّ ذلك ممَّا يضعف مجاري شياطين الإنس والجن.
والدعاء من أكبر أسباب التوفيق للتغيير وإصلاح النفس، ولا يَخفى المواطن الكثيرة
لإجابة الدعاء في رمضان، فهو فرصة وأيّ فرصة لدعاء الله -تعالى- الكريم الرحيم
الودود الغفور بالهداية والصلاح والمغفرة.
وختامًا، فالاعتناء بجوانب التغيير في هذا الشهر الفضيل، والحرصُ على تحقيق التقوى،
هي من أجَلّ المقاصد التي شُرع الصيامُ من أجلِها، وإدراكُ هذا الشهر هو بحقّ فرصةٌ
لتحقيق التغيير الإيجابي المستمر إلى ما بعد رمضان.