الصعود للقاع

الصعود للقاع


استيقظ على صوت السجان الغليظ.. وهو ينادي عليه من شراعة باب الزنزانة؛ بعد أن قرع الباب بقوة: قم للخروج للتريض؛ بدل ما تتلف عضلاتك.. إن كان عندك عضلات أصلاً.. أكيد كل جسمك لحم ودهون من أكل اللحوم.. التي حرمتها علينا؛ بعد ما وصل سعر الكيلو منها أكثر من نصف راتبي..! قم وانهض..!

لم يحرك سعيد ساكناً..!

السجان: قم.. منذ أن جئت أول أمس؛ لم تأكل شيئاً.. ولم تغادر الزنزانة.. ولم أرك إلا والدموع منهمرة من عينيك..!

لم يعره سعيد اهتماماً..!

أغلق السجان الباب.. وهو يتمتم الحكمة الشعبية:(اللي يأكل على ضرسه ينفع نفسه).

• • •

جلس سعيد جلسة القرفصاء.. ودفن رأسه بين ركبتيه وراح ينتحب ويشهق..! إلى أن أعياه البكاء.. وتورمت عيناه.. فأسند رأسه إلى جدار خشن أصابه بألم خفيف فتذكر رأس كرسيه الوثير في مكتبه، وسيارته، وقصره، فصرخ في نفسه صرخة مدوية أيقظت بقايا ضمير حاول القضاء عليها سنين طوالاً ليستريح منه تماماً إلا أنه أخفق في ذلك، بل فشل فشلاً ذريعاً.. رآه واقفاً أمامه في صورة غير صورته المعهودة لديه..!

سأله سعيد وهو يرتجف من الخوف: ماذا حلّ بك ؟! كيف تحولت من مارد إلى قزم..؟!

- أنت..!

سعيد مستنكراً: أنا..!

- نعم.. أنت

سعيد مستفهماً: كيف ؟

- أنسيت ما فعلت بي.. كنت في شبابك تأخذ بنصيحتي.. وتتبنى رأيي.. وتحافظ لي على حيويتي.. وكنت تشنف أذاني دائماً بقولك لمن يغريك ويرغبك في طريق الحرام، والانحلال: لا.. أنا أخاف الله.. ثم تتبعها بقولك: ضميري لا يسمح لي بذلك..!

وكنت أعمل جاهداً على استمراري يقظاً كيلا تتسلل إليك نفسك الأمارة بالسوء، أو وسواس خناس من الجن أو الناس.. وكنت أُصَبـِّر، وأشجع نفسي وأهنئها في الوقت ذاته أن جهادي هذا يأتي بالنتائج المطلوبة.. وكنت أتغافل عن الهنات والأخطاء التي كنت تقع فيها.. فالتغافل علاج في مواقف ما..!

وتجاوزنا سوياً مرحلة الشباب الخطرة، وانتقلنا إلى مرحلة ما بعد الجامعة.. وقد تم تعينك معيداً في إحدى كلياتها المرموقة.. كيف لا وأنت المتفوق.. المتميز.. وكانت سعادتي كبيرة عندما قررت أنت إكمال نصف دينك.. عصمة لنفسك.. وغضاً لبصرك..! وكنت أكثر سعادة بتقدمك العلمي؛ الذي مكنك من تحصيل الدرجات العلمية في فترة زمنية قياسية.. مما ساعدك على تبوء المناصب الإدارية في الكلية ثم الجامعة حتى وصلت إلى قمتها..!

وليتك ما وصلت..!

بدأت الأنظار تتجه حولك.. والأضواء تسلط عليك.. والحوارات التليفزيونية، والصحفية تنهال عليك كالمطر شتاءً وصيفاً..! فبدأت تدير ظهرك لنصائحي.. ولا تبالي لحديثي.. واستبدلته بحديث نفسك.. وأنصت لوسواسك الخناس الذي جثم على صدرك.. بعد أن رحبت به، وأفسحت له الطريق.. وبعد أن شغلك هواك.. وبهرتك الأضـواء.. وغـيرتك الشهرة.. وانقطعت عن ذكر الله.. فلم يخنس وسواسك..! فأخذ مكاني بجوارك..!

فقررت ألا أنسحب وأتركك فريسة لهم.. وأعلنتها أمامهم: حرب بيني وبينكم لا هوادة فيها.. وعزمت أن أنتصر.. وظننت أنك ستفيق وتنحاز لي، وتقف في صفي لمواجهتهم.. ولكن خاب ظني.. وانحزت لهم.. ووجدت نفسي وحيداً.. أمامكم..!

وتساءلت في نفسي: ماذا أفعل ؟ خذلني رفيق دربي.. هم أقوى منّي.. أأتركه يتحمل نتيجة اختياره.. وأنزوي كما أراد لي؟

لكن كيف أتركه وهو منِّي وأنا منه ؟!

لا.. لن أتركه فريسة سهلة لهم..!

• • •

رأيتهم يغرونك بكل ما يملكون.. يزينون لك الحرام..!

نصحتك...

أشحت بوجهك عنّي..!

رأيتك تقترف جريمة رشوة مبطنة.. بعد أن أوهموك أنها مجاملة بسيطة من شركة الإنشاءات التي أرسيت عليها عملية صيانة مرافق الجامعة بالأمر المباشر..! وأنت في زهو بسلطتك..! وسعادة برصيد نقدي لم تكن تحلم بامتلاكـه بهـذه السرعة..!

انتحيت بك جانباً.. ذكرتك بأن الراشي والمرتشي ملعونان.. وذكرتك بماضيك المشرف..!

علا صوتك عليّ.. ونهرتني أمامهم.. وأعطيتهم فرصة الهمز واللمز بي.. والسخرية منّي..!

• • •

ورأيتك تتبوأ المنصب تلو المنصب.. وتزداد رغبتك في الامتلاك.. ويزداد طغيانك وظلمك للعباد.. لم ترع في مرؤوس لك كرامة.. ولم ترع في مال سطوت عليه حرمة.. ولم يعد همك إلا امتلاك القصور.. والسيارات الفارهة.. وكم أصبح رصيدك في بنوك الداخل والخارج الذي تسأل عنه كل ساعة..!

• • •

مرت السنون ببطء شديد عليّ.. وبسرعة فائقة عليك..! كنت أزداد إصراراً على الظهور أمامك.. ونصحك غير عابئ بما يصيبني منك ومن أعوانك..! وكنت تزداد إصراراً على التخفي منّي.. وازدراء قولي.. وكان النصر حليفك أنت وأعوانك عليّ.. فبدأت تقزمني في نفسك..! حتى صرت كما تراني..! وصرت أنت كما أراك..! لا وجود لك..! ستقضي كما يقضي كل شيء.. وسأحاجك في الموقف المشهود..! لا عذر لك عندي..! دمرت حياتك وآخرتك..! فلا تلومن إلا نفسك ووسواسك..!

ينخرط سعيد في بكاء حاد.. يكاد يزهق روحه..!

- ابك على نفسك وارثها.. فلن تبك عليك البواكي..!

• • •

::  مجلة البيان العدد 299 رجب 1433هـيونيو 2012م.

 

أعلى