• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المصافحة.. بين الحرارة والبرودة

والمصافحة لها عظيم الأثر في تعميق أواصر المحبة، وزيادة المودة، وتنمية المحبة، وزرع الألفة، قال الحسن -رحمه الله-: «المصافحة تزيد في المودة


المصافحة عند اللقاء -بعد السلام- سُنّة مؤكدة بإجماع العلماء[1]، وقد جاءت الأحاديث بالحثّ عليها، والترغيب فيها، وبيان فضلها؛ فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من مسلمَيْن يلتقيان فيتصافحان إلا غُفِرَ لهما قبل أن يفترقا»[2].

 وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلَّم عليه، وأخذ بيده فصافَحه، تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر»[3].

وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا تصافح المسلمان لم تفرّق أكفّهما حتى يُغفر لهما»[4].

فهذه الأحاديث -وما في ما معناها- تحثّ وتُؤكّد على المصافحة، وتُرغّب فيها، وتُبيّن فَضْلها، ومن ذلك: مغفرة الذنوب، ورفع الدرجات، قال ابن عثيمين -رحمه الله-: «يصافحه باليد اليمنى، وإذا حصل ذلك فإنه يُغْفَر لهما قبل أن يفترقا، وهذا يدل على فضيلة المصافحة إذا لاقاه، وهذا إذا كان لاقاه ليتحدث معه أو ما أشبه ذلك، أما مجرد الملاقاة في السوق فما كان هذا من هدي الصحابة، يعني إذا مررت بالناس في السوق يكفي أن يُسلّم عليهم، وإذا كنت تقف إليه دائمًا، وتتحدث إليه بشيء فصافِحْه»[5].

والمصافحة -إضافة إلى عظيم ثوابها- فإنها من تمام التحية وكمالها، قال البراء بن عازب -رضي الله عنه-: «من تمام التحية أن تُصافِح أخاك»[6]، وقال أبو أمامة (صدي بن عجلان) -رضي الله عنه-: «من تمام تحياتكم المصافحة»[7].

والمصافحة لها عظيم الأثر في تعميق أواصر المحبة، وزيادة المودة، وتنمية المحبة، وزرع الألفة، قال الحسن -رحمه الله-: «المصافحة تزيد في المودة»[8]، وقال ابن بطال: «المصافحة حسنة عند عامة العلماء... وهي مما تنبت الود والمحبة»[9]، وقال أبو مخلد: «المصافحة تجلب المحبة»، وقال الشّاعر:

قد يمكث النّاس دهرًا ليس بينهم

وُدٌّ فيزرعه التَّسليم والُّلطف[10]

والمصافحة من حيث دلالاتها اللغوية تُنْبِئ عن المحبة والألفة والمسامحة والعفو والصفح[11].

والمصافحة الودية عند اللقاء بمثابة ختم وترسيم للمصالحة بين المتصافحين؛ وهذا أمرٌ مشاهَد في حياة الناس اليوم؛ فإنه لو قدَّر الله أن حصل خلاف وشجار وخصام وقطيعة بين طرفين لأيّ سبب من الأسباب؛ فإن الناس يتدخلون للصُّلح بينهما، وعقب عقد الصلح يأمرهما المُصلِح بالمصافحة بينهما، وفي هذا دلالة على أن المصافحة ترسيم وختم على ذهاب العداوة، وإزالة البغضاء والشحناء، وحلول المودة بينهما، جاء في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم  قال: «تصافحوا يذهب الغل»[12].

والمصافحة المؤثرة بَيَّن العلماء صفتها، قال ابن الأثير -رحمه الله-: «المصافحة: إلصاق صفحة الكف بالكف، وإقبال الوجه على الوجه»[13]، وقال الحطاب المالكي: «قال فقهاؤنا: المصافحة وضع كفّ على كفّ، مع ملازمة لهما قَدْر ما يفرغ من السلام، ومن سؤال عن غرض، وأما اختطاف اليد إثر التلاقي فمكروه»، وقال الجزولي: «صفتها أن يلصق كل واحد منهما راحته براحة الآخر ولا يشد؛ لأنه أبلغ في المودة، ولا يقبل أحدهما يده، ولا يد الآخر فذلك مكروه»[14].

وقد نظم ابن عبد القوي -رحمه الله- آداب المصافحة بقوله:

وصافِحْ لمَن تلقاه من كل مسلم

تناثر خطاياكم كما في المسند

وليس لغير الله حلّ سجودنا

ويُكره تقبيل الثرى بتشدد

ويكره منك الانحناء مُسلِّمًا

وتقبيل رأس المرء حلّ وفي اليد

وحلّ عناق للملاقي تدينًا

ويُكره تقبيل الفم، افهم وقيد

ونزع يد ممن يصافح عاجلاً

وأن يتناجى الجمع من دون مفرد[15]

والمصافحْة المؤثرة التي يُثاب الإنسان عليها هي المصافحة بحرارة وترحاب (وليس معنى ذلك الشدة والقسوة والأخذ اليد بقوة وشدة)، وإنما هي إلصاق الكفّ بالكفّ، وإقبال بالوجه، المصحوبة بحفاوة الاستقبال واللقاء، المدعومة بعبارات الترحيب والمدح والثناء.

بخلاف المصافحة الباردة -والتي غالبًا ما تكون من باب العادة، أو تحصل فجأة مصادفة؛ حيث تمتد الأيدي للمصافحة، والقلوب شاردة، والوجوه كالحة عابسة-؛ فإن هذه المصافحة لا تُقدّم ولا تُؤخِّر، بل قد تزيد الكراهية والبغضاء والشحناء بين المتصافحَيْن، وربما أشعلت فتيل الغلّ والحقد بينهما.


 


[1] ينظر: شرح النووي على مسلم (17/ 101).

[2] رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود.

[3] رواه الطبراني في الأوسط، وقال الألباني: «صحيح لغيره»، كما في صحيح الترغيب والترهيب.

[4] رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: «فيه مهلب بن العلاء، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات»، والحديث صحيح؛ كما في صحيح الجامع للألباني.

[5] شرح رياض الصالحين: (4/ 446).

[6] رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.

[7] الإخوان، لابن أبي الدنيا، رقم (177)، ونقل مثله عن عبد الرحمن بن الأسود.

[8] الإخوان، لابن أبي الدنيا، رقم (120).

[9] شرح البخاري، لابن بطال: (9/44).

[10] الآداب الشرعية: (1/ 373)، وبهجة المجالس، ص: (57).

[11] مشارق الأنوار على صحاح الآثار: (2/ 49)

[12] رواه مالك، وهو حديث حسن، قال ابن عبد البر: «هذا يتصل من وجوه حسان كلها».

[13] النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير: (3/34).

[14] الفتوحات الربانية: (5/ 392).

[15] مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار: (3/ 102).

 

 


أعلى