الوعي بالواقع الأهمية والشروط
الوعي بالواقع أو ما يمكن أن نطلق عليه: «فقه الواقع» علم أصيل، تُبْنى عليه كثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تُتْخَذ المواقف المصيرية. فقه الواقع: هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة: من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجَّهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيِّها في الحاضر والمستقبل[1]. العوامل الداعية إلى الاهتمام بفقه الواقع: 1 - دلالة كتاب الله - عــز وجــــل - وسُــنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصحابتـــه الكــرام عليـــه: - دلالة الكتاب: يقول - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ} [الأنعام: ٥٥]، ومن فقه الواقع استبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أهدافهم ومخططاتهم؛ لهذا جاءت آيات كثيرة مفصِّلة ومبيِّنة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم. - دلالة السُّنة: لقد حفلت السُّنة بكثير من الوقائع والشواهد، التي تدل على عناية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجانب؛ فها نحن نجده - صلى الله عليه وسلم - يوجِّه المستضعفين من صحابته إلى الهجرة إلى الحبشة. وفي ذلك برهان ساطع على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بما يدور حوله، وبأحوال الأمم المعـــــــاصرة له؛ فلماذا لم يرسل الصحــــــــابةَ إلـــــــى فارس أو الــــــروم أو غيرهما؟ ولماذا اختــــــــار الحبشة؟ يبيِّن ذلــــــك - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن بها ملكاً لا يُظلم الناسُ عنده»[2]. وفـي الســـيرة النبـوية أمثلـة كثيـرة تبيِّن اهتمـام النبـي - صلى الله عليه وسلم - بالواقع المحيط به. وأما عن اهتمام الصحابة الكــرام به، فيقــول عمر ابن الخطــاب - رضي الله عنــــه -: «لست بالخِــب ولا الخبُّ يخدعني»؛ أي: لست بالماكر المخادع (وحاشاه عن ذلك) ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ. ويقول عبد الله بن مسعود: «رحم الله امرأًً عرف زمانه فاستقامت طريقته». ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره أن فقه المسلم لواقعه من لوازم معرفة (لا إله إلا الله) على معناها الصحيح، ولِمَ لا؛ وبفقه الواقع يكتمل مبدأ تحقيق الولاء والبراء؟ وهذا المبدأ أصل من أصول عقيدة التوحيد التي جاءت بها (لا إله إلا الله)[3]. 2 - أنه سبيل إلى تكوين فقهاء التمكين: ذلك أننا في هذه الأيام التي لا نزال نتلمس فـيـهـا طـريق النهضة وطريق التغيير، في أشد الحاجة إلى (فقهاء) بالمعنى العام لكلمة (فقه) وهـو: الفهم العميق للإسلام، كما يُفهَم من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: «اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل»[4]. إننا بحاجة إلى فقهاء علماء يعرفون سنن التغـيـيـر وأمـراضـنـــا الاجتماعية وواقعنا وواقع غيرنا تمام المعرفة، وما هي الخطوات المرحلية التي يجب أن نبدأ بها؟ إن مشكلة (المسلم) لا تُحَل إلا بتحديدها تحديداً دقيقاً، والتفكير فيها، وهذا لا يؤتاه إلا (أولو الألباب) وعندمـــا ذكر القرآن الكريم أن عشرين من المؤمنين يغلبون مائتين من الذين كفروا قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: ٣١]؛ ولذلك قال عبد الله بن مسعود يـصـف بـعـض المظاهر في آخر الزمان : (يكثر الخطباء ويقل الفقهاء)[5]. ولتكوين «أولي الألباب» نحتاج إلى علم ووعي بالواقع؛ ذلك أن علوم فقه الواقع اليوم أشبه بالحواس والنوافذ العقلية للفئة التي تسعى للتمكين لدين الله، عز وجل. والفئة التي تفتقد المعرفة بفقه الواقع في عالم اليوم فئة تعيش في ما يشبه مدارس الصم والبكم. ومن هنا نقول: إن النفرة للتخصص في شُعَب المعرفة، وإحياء الفروض الكفائية، والنزول إلى الميدان والانخراط بالمجتمع هو من فقه الدين. قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ٢٢١]. لذلك نقول: إن الانخراط في المجتمع، والاندماج فيه، والتعرف على مكوناته ومؤثراته، ودراسة الظواهر الاجتماعية، ومعرفة أسبابها، والمساهمة في دوائر الخير، ومحاولة التوسع فيها على هدى وبصيرة، وعدم تشكيل أجسام بعيدة عن المجتمع، منفصلة عنه، وإقامة هياكل وكيانات وخيام خارج المجتمع والحياة، أو السير خلف المجتمع ورصد تصرفاته والحكم عليها، بدل الدخول في المجتمع وإغرائه بفعل الخير، هو سبيل الخروج ومعاودة إخراج الأمة من جديد. وكل ذلك لا يتأتَّى إلا بعلمِ وفقهِ الواقع. لقد أصبح «الوعي بالواقع»، أو «فقه المجتمع»، علماً له أدواته ووسائل قياسه، بل نستطيع أن نقول: إنه أصبح خلاصة لمجموعة علوم إنسانية واجتماعية وتاريخية، ولم تعد تنفع معه النظرة العابرة، أو الملاحظة الآنية، أو الأُمنية المخلصة. وقد لا نكون بحاجة إلى إثبات أن علوم فقه الواقع تتقدَّم بسرعة، وتتأصل بشكل مذهل، وتتشعب إلى شُعَب تخصصية دقيقة، في محاولة لتغطية جميع مساحات الحياة؛ ففي علم الاجتماع والمجتمع بات هناك علوم اجتماع متنوعة بحسب موضوعاتها في الميادين السياسية والاقتصادية... وعلوم الإنســان بلغـــت شـأواً، وبــدأت تضــع يـدها على حقائق لا يمكـن تجــاهـلها ولا تجاوزها.. وعلم النفس يتقدم ليدخل المواقع كلها، ويحتل مكانه، ويدلي بشهادته على كل حالة، ولعلنا نقول: إنه تجاوز إمكانية قراءة الحاضر إلى محاولة صناعة المستقبل، وتحضير الناس له برفع اهتماماتهم وتشكيل أهدافهم. حتى إنه يمكن القول: إن وسائل وأدوات سبر حقيقة المجتمع، وكشف خفاياه، ومعرفة واقعه، وتحديد وجهاته، أصبحت علوماً. فعلم الإحصاء وحصر الإمكانات والاستطلاعات والمسح والبحث الاجتماعي بوسائل منهجية للتقويم والقياس لم يعد أرقاماً جامدة، وإنما يعبِّر عن مؤشرات ويحمل دلالات لا يمكن تجاهلها عند أي دراسة أو تخطيط أو تجديد أو تنمية للموارد البشرية والمادية... فلـم يعـد علم الإحصـاء أداة ووسيلة، وإنمـا أصبح مقوِّماً لا يمكن تجاوزه. حتى إن استطلاع الرأي والتعرف على التحولات الاجتماعية وأسبابها، أصبح علماً وفناً لا يقتصر على قراءة الحاضر وإنما يتجاوز إلى التأثير فيه وتوجيهه. وليست الاستبيانات وفنية وضعها وما يطرح فيها من أسئلة، وما يُتوصَّل إليه من نتائج، بأقل شأناً في فقه الواقع وامتلاك مفاتحه، والدخول إليه من أبوابه، بعيداً عن المجازفات والخبط الأعشى[6]. وفي دول الغرب الآن نجد أن السر في قوَّتها، هو: (تـكـامـل الفكر والسياسة، واعتماد رجال التخطيط والتنفيذ في دوائر السياسة والإدارة على ما يقدِّمه رجال الفكر العاملون في مراكز البحوث والدراسات خـلال الـلـقــاءات الــدوريــــة التي تجمع بين الفريقين لمناقشة وتقويم القضايا الداخلية والخارجية؛ ففي بلد كالولايات المتحدة هناك حوالي تسعة آلاف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية)[7]. 3 - الوعي بالواقع وفتح الملفات: تتبنَّى حركة الإحياء الإسلامي التي تسعى للتمكين لدين الله في الأرض سياسة فتح الملفات. وسياسة فتح الملفات في الواقع، هي أننا نقوم بفتح ملفات للموضوعات الهامة والشائكة التي تواجه الأمة وتواجه الفئة المسلمة، ونترك هذه الملفات مفتوحة لاستيعاب المستجدات الطارئة والمتغيرات الحادثة في مثل هذه العقبات والتحديات، والهدف من فتح الملفات، هو «حل المغاليق المختلفة التي تواجه العمل الإسلامي واكتساب الخبرة اللازمة للعمل الإسلامي للتعاطي وَفْق المتغيرات المختلفة»؛ حتى يستطيع العمل الإسلامي مواكبة المتغيرات، وبإذن الله يكون هو البادئ بصناعة الحدث لا أن يكــون المستقــبل له، وحتــى لا يفاجأ العمل الإسلامي بمشاكل لم تكن في الحسبان عند الوصول إلى التمكين، بإذن الله. والملفات التي ينبغي أن تفتح كثيرة ومتجددة حسب حاجة العمل الإسلامي؛ فهي ليست ملفات ورقية؛ ولذلك فإن سياسة فتح الملفات ينبغي أن تكون سياسة عملية وليست نظرية؛ وإن كان الدور النظري له بُعْد ليس بالهين، ولكن البُعد الواقعي في فتح الملفات يضفي على فتحها مصداقية ويساعد في إيجاد الحلول الصحيحة بعيداً عن التنظير الأجوف، وعلى سبيل المثال؛ فإنه ينبغي عند فتح ملف (النصارى) في البلدان التي تعلو فيها وتيرة الصراع مع النصارى والصراع الطائفي، مثل: مصر والسودان ولبنان... وغيرها من الدول أن نكون متابعين لآراء وشبهات النصارى من خلال مواقعهم الإلكترونية، ومن خلال غرف البالتوك المختلفة والتعرف على شبهاتهم التي يثيرونها بين الفينة والأخرى، والتعرف على مؤسساتهم وحضورهم في الأحزاب وتسليحهم ودرجة استفزازهم للمسلمين. ومثل ذلك الخطاب العَلماني والتطور الحادث فيه ونوعه: إن كان خطاباً واضحاً غير ملتبس أو خطاباً ملتبساً مموَّهاً غير واضح، وذلك حتى لا تنخدع الفئة المسلمة وهي لا تدري أو يُسرَق كفاحها، نتيجة غفلة أهل الحق عن تدبير أهل الباطل وسوئهم. وما دام أن مثل هذه الأبحاث لم تُطبَع فلا فائدة من الإحالة عليها، وقس على ذلك باقي الملفات التي ينبغي أن تُفتَح، ولا شك أن هذا يتطلب من العاملين للإسلام (امتلاك القدرة على التعامل مع المجتمعات، والانفتاح المتزن أكثر، وفـتــــح منافذ جديدة للدعوة، وامتلاك قَدْرٍ أكبر من المرونة، مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف، والتقدير للإمكانيات... ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن يكون دعاة الإسلام دمـــــاً جـديـــداً فـي قوة الباطل أو أن يوظَّف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية، وإنما يعني: النزول إلى الساحة، وفَهْم واقع الناس؛ حتى يجيء الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم؛ ذلك أن الناس هم محل الدعوة، وهم جديرون بالشفقة والإنقاذ[8]. ويحتاج علم الوعي بالواقع وفقهه إلى شيئين مهمين: 1 - سعة الاطلاع: نظراً لتشعُّب هذا العلم وشموله؛ فقد يحتاج المتخصص فيه إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية: كالعقيدة والفقه، أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة: كالسياسية والإعلام... وهلمَّ جراً. وإذا قصَّر في أي علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلباً على قدرته على فقه الواقع، وتقويم الأحداث، والحكم عليها. 2 - التجدد والاستمرار: إن هذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة، والبحث في كل جديد؛ فهو يختلف عن كثير من العلوم كما بيَّنتُ آنفاً؛ لذا ينبغي للمتخصص أن يكون لديه دأب فلا يَكلُّ من متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب؛ فلو انقطع عن ذلك فترة من الزمن أثَّر ذلك على تحصيله وقدرته في فَهْم مجريات الأحداث وتقويمها؛ فهو أشبه بالطبيب الذي عليه أن يتابع كل جديد في مهنته؛ فلو أن طبيباً تخرَّج في الجامعة منذ عشر سنوات، وكان يعالج الناس من خلال دراسته الماضية، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج، وما اكتُشِف من أدوية، لأصبح طبيباً متخلفاً عن الرَّكْب؛ فجديد اليوم يصبح قديماً في الغد وهكذا. ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد، وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي أصبح فيه العالم كقرية واحدة صغيرة؛ ما يقع في شرقه يؤثر يومياً في غربه، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل[9]. الآثار المترتبة على تجاهل فقه الواقع: إذا تجاهلتَ الواقع تماماً فربما فاتك: 1 - سد الذرائع: وهي قاعدة أصيلة وركن ركين من أركان الشريعة[10]، فقد تقع في كثير من الزلل بسبب عدم النظر في المآلات. والنظر في المآلات معتبر شرعاً وبه تصح الفتوى[11]. 2 - اعتبار المناط الخاص: فكل رسول يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإيجاب الفرائض والنهي عن المحرمات. وهناك محرمات أبدية خالدة لا تختلف من رسالة إلى أخرى، وهناك فرائض لا تخلو منها رسالة، ومع ذلك نجد أن القرآن يركز على قضايا معينة في رسالات معينة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - في سبيل بيان القواعد الشرعية يتنـاول كل المحـرمات وكل الفرائض ويضعها في مكانها الصحيح في نطاقها الديني. وفي معالجة الانحرافات الواقعية ينشغل بقضايا معيَّنة هي الانحرافات القائمة بالفعل لا غيرها؛ بحيث تكون هي ودعوة التوحيد صلب حواره معهم، وذلك في مثل قوله - تعالى -: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ إنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [هود: ٤٨ - ٦٨]، ومثل هذا مع قوم لوط، مع اختلاف الانحرافات. يقول الشاطبي في «الموافقات»: «فمن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخيرها، وعرَّف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال؛ فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حُمِل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل؛ ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: «إيمان بالله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»، وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها». قال: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين». قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». وفي النسائي عن أبي أمامة: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: مُرْنِي بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له»، وفي الترمذي: أيُّ الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات»، وفي البزار: أي العبادة أفضل؟ قال: «دعاء المرء لنفسه»، وفي الترمذي أيضاً: «ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خُلُق حَسَن»، وفي الصحيح: «وما أُعطي أحد عطاءً هو خير وأوسع من الصبر»، وفي الترمذي كذلك: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»، وفيه: «أفضل العبادة انتظار الفَرَج»... إلى أشياء من هذا النمط، جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويُشعِر إشعاراً ظاهراً بأن القصد إنمـا هو بالنسـبة للوقت أو إلى حال السائل؛ وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - لأَنَس بكثرة المال فبورك له فيه، وقال لثعلبة: «قليل تؤدي شُكْرَه خير من كثير لا تطيقه»[12]، وقال لأبي ذر: «يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمَّرَنَّ على اثنين ولا تولَّيَنَّ مال يتيم»[13]. ومعلوم أن كِلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم: «إن الـمُقْسِطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن»[14]، وقال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»[15]، وفي الصحيح: «أن أناساً جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقـالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلـم به. قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم! قال: «ذلك صريح الإيمان»، وفي حديث أخر: «من وجد من ذلك شيئاً فلْيقلْ: آمنت بالله»، وعن ابن عباس في مثله قال: «إذا وجدت شيئاً من ذلك، فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: ٣]» فأجاب بأجوبة مختلفة والعارض كله واحد. وقَبِل - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر ماله كلَّه، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال: «أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك»[16]، وجاء آخر بمثل بيضة من الذهب فردَّها في وجهه. وعن أبي رجاء العطاردي قال: قلت للزبير بن العوام: ما لي أراكم - يا أصحاب محمد - من أخف الناس صلاة ؟ قال: نبادر الوسواس. هـذا مع أن التطـويل مستحب ولكـن جاء ما يعارضه»... إلخ[17]. ويعرِّف الشاطبي هذا المناط الخاص، فيقول: «هو نظر في كل مكلَّف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائـل التكليفية؛ بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلـة؛ حتى يلقيها (يقصد التكاليف) هذا المجتهد على ذلك المكلَّف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره، ويختص غير المنحتم بوجه آخر: وهو النظر فيما يصلح بكل مكلَّف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزن واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك»[18]. 3 - تجاهل الواقع ربما أدى إلى تقديم الإسلام للناس في صورة نظرية مجردة لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة والسلوك اليومي: وهذا على العكس من طريقة القرآن: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء: ٦٠١] الذي أخرج للناس عقيدة من خلال حركة الجماعة وأحداثها وصراعها مع غيرها ونموها وتفاعلها مع نفسها وغيرها... وأخرج للناس جماعة من خلال تأصيلات العقيدة وتوجيهاتها. فربط بين الحدث والتوجيه ربطاً دقيقاً مع الحفاظ على تجرُّد توجيهات العقيدة وقوة تأصيلها إذا ما أردت أن تستخلصها من التنزيل. وهذا أمر في منتهى الأهمية[19]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فقه الواقع، د.ناصر العمر، وانظر: (فقه الواقع أصــول وضوابط) للأستاذ أحمد بوعود، كتاب الأمة، عدد 75.
[2] زاد المعاد لابن القيم.
[3] فقه الواقع، د.ناصر العمر.
[4] المعجم الكبير للطبراني.
[5] صناعة الفكر, مجلة البيان, عدد 28.
[6] الأستاذ عمر عبيد حسنة, مقدمة كتاب الأمة: ( فقه الواقع أصـول وضوابط), عدد 75.
[7] ماجد عرسان الكيلاني، (هكذا ظهر جيل صلاح الدين و هكذا عادت القدس ): 282.
[8] د.محمد محمد بدري، (تحت رأية أهل السنَّة والجماعة).
[9] فقه الواقع للشيخ ناصر العمر، وهو على الرغم من كونه مبحثاً صغير الحجم إلا أنه يحوي فوائد كثيرة جداً.
[10] انظر إعلام الموقعين لابن القيم.
[11] انظر الموافقات، الجزء الرابع.
[12] المعجم الكبير للطبراني.
[13] رواه مسلم.
[14] رواه مسلم.
[15] سنن أبي داود.
[16] رواه البخاري
[17] الموافقات، ج4، ص 99 - 103. بتصرف يسير.
[18] الموافقات، ج4، ص 98.
[19] انظر (آداب يتحلى بها الداعية والباحث ومبادئ يلتزم بها) من مقدمة كتاب: «حد الإسلام وحقيقة الإيمان» للشيخ عبد المجيد الشاذلي.